كيف يمكن للدول العربية أن تتحوّل من الاستهلاك الرقمي إلى السيادة الرقمية في عصر الذكاء الاصطناعي؟
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
بوتين يستضيف أول قمة روسية عربية في تشرين الأول المقبلالسيادة الرقمية... من المفهوم الكلاسيكي إلى المشروع الحضاري الجديد
في عالم يتغير بسرعة مذهلة بفعل الذكاء الاصطناعي والتحوّل الرقمي، لم يعد مفهوم السيادة الرقمية مقتصرًا على الحفاظ على البيانات داخل حدود الدولة أو فرض الرقابة على شركات التكنولوجيا الأجنبية. بل أصبح اليوم يعني شيئًا أعمق وأكثر شمولًا: إنه قدرة الدولة أو الكيان على امتلاك أدواته الرقمية، وصياغة مستقبله التكنولوجي بمعاييره الذاتية، والتحكم بمصيره الرقمي ضمن بيئة عالمية متشابكة.
ومع اتساع الفجوة الرقمية بين الدول، يتبيّن أن معظم دول العالم الثالث، ومنها الغالبية العظمى من الدول العربية، ما زالت في موقع المتلقّي والمستهلك. تفتقر هذه الدول إلى بنية تحتية رقمية متطورة، وتعتمد على منصات وأنظمة تشغيل ومراكز بيانات أجنبية، وتواجه تحديات في إنتاج المعرفة التكنولوجية أو تنظيمها ضمن أطر وطنية متقدمة.
وهنا تبرز الحاجة الملحّة إلى إعادة صياغة مشروع السيادة الرقمية العربية، ليس فقط على المستوى الوطني في كل دولة، بل أيضًا على المستوى الإقليمي، عبر بناء شراكات وتكتلات عربية تقنية يمكن أن تبدأ عبر أربع دوائر طبيعية متكاملة: الهلال الخصيب، الخليج العربي، وادي النيل، والمغرب العربي، قبل الانتقال إلى صيغة تكاملية عربية شاملة. فما هي الخطوات الاستراتيجية الممكنة للخروج من منطق الاستهلاك الرقمي إلى فضاء السيادة الرقمية؟
أولًا: من الاستهلاك إلى الإنتاج – قلب المعادلة الرقمية
نقطة الانطلاق الأساسية لأي مشروع سيادة رقمية تكمن في كسر حلقة التبعية التكنولوجية.
فالدول العربية تستهلك التكنولوجيا، لكنها نادرًا ما تساهم في إنتاجها. ولا يمكن الحديث عن سيادة رقمية حقيقية دون بناء قدرات ذاتية في الابتكار الرقمي.
من هذا المنطلق، لا بد من:
− بناء أنظمة ذكاء اصطناعي محلية تعتمد على بيانات عربية وتُدرَّب على اللغات والثقافات والسياقات المحلية.
− إطلاق برامج وطنية وإقليمية لدعم الشركات الناشئة في التكنولوجيا، خاصة في مجالات البرمجة، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الكبيرة، والأمن السيبراني، وحلول المدن الذكية.
− تصميم وتطوير منصات تعليمية وصحية واجتماعية وسياحية وتجارية عربية، تديرها مؤسسات وطنية أو عربية مشتركة، بدل الاعتماد الكامل على منصات عالمية تفرض نماذجها وثقافتها.
التحوّل من الاستهلاك إلى الإنتاج هو أساس بناء أي شكل من أشكال السيادة، وهو ممكن فقط عبر سياسات استثمارية طويلة المدى، وتنمية رأس المال البشري العربي.
ثانيًا: السيادة الرقمية كاستقلال استراتيجي
التحوّل الرقمي لا يمكن أن يكون مجرد امتلاك للأجهزة أو الاشتراك في خدمات رقمية عالمية.
بل لا بد أن يترافق مع القدرة على اتخاذ قرارات مستقلة على مستوى البنية الرقمية للدولة.
من هذا المنظور، السيادة الرقمية تعني:
− استقلالية البنية التحتية الرقمية: عبر بناء مراكز بيانات وطنية وإقليمية في كل من البيئات العربية الأربع (الخليج، الهلال الخصيب، وادي النيل، المغرب)، والتقليل من الاعتماد على مزودي الخدمات العالميين.
− تنظيم الذكاء الاصطناعي على أساس تشريعات محلية تتلاءم مع القيم المجتمعية والدينية والثقافية في كل دولة، مع وجود إطار قانوني عربي مرن يمكن تنسيقه وتطويره بين الدول.
− امتلاك الخوارزميات وتوجيهها: فالخوارزميات التي تتحكم في تفضيلاتنا الإعلامية، وسلوكنا الاستهلاكي، وحتى وعينا السياسي، لا يمكن أن تبقى تحت سيطرة شركات عابرة للحدود.
إن إنشاء مراكز للابتكار الرقمي في كل منطقة عربية سيعزّز هذا الاستقلال ويخلق تنافسًا إيجابيًا يعزز الابتكار المحلي ويحد من الاستيراد الرقمي الأعمى.
ثالثًا: السيادة الرقمية كعدالة معرفية وثقافية
لا يمكن فصل السيادة الرقمية عن الدفاع عن الهوية الثقافية والمعرفية للمجتمعات.
فالتكنولوجيا التي نستخدمها اليوم ليست محايدة؛ إنها تنقل رؤى وقيمًا وأولويات من قام بتصميمها.
لذلك، فإن المشروع العربي للسيادة الرقمية يجب أن يشمل:
− حماية الهوية الثقافية من خلال ضبط المحتوى الذي تنتجه الخوارزميات، وعدم ترك المجال للتلاعب بهوية الجيل الناشئ.
− تعزيز المحتوى العربي الرقمي، من خلال دعم مشاريع الترجمة، والتعليم الإلكتروني، وإنتاج الذكاء الاصطناعي العربي، خاصة في اللغة العربية ولهجاتها المتنوعة.
− التصدي للتحيّز الخوارزمي: الكثير من أنظمة الذكاء الاصطناعي اليوم لا تفهم السياق العربي، وتقوم باتخاذ قرارات مجحفة أو منحازة. يجب أن نطوّر نماذج تدريب بيانات تمثل واقعنا الثقافي والاجتماعي بشكل دقيق.
إن العدالة الرقمية هي جزء لا يتجزأ من مفهوم السيادة، وهي تضمن ألا تتحول التقنيات الحديثة إلى أدوات للإقصاء أو التهميش أو إعادة الاستعمار الرقمي.
رابعًا: السيادة الرقمية كتحالف إقليمي متعدد المستويات
السيادة الرقمية لا تُبنى في عزلة.
إن التعاون العربي هو الخيار الأنجع لتحقيق طموح رقمي سيادي يوازي الكيانات العالمية الكبرى.
في هذا السياق، يمكن للدول العربية أن تتحرّك على مستويين:
أ− مستوى التكتلات الإقليمية الطبيعية الأربعة:
* في الهلال الخصيب: تعاون بين لبنان، سوريا، الأردن، وفلسطين لتطوير نظم رقمية تعليمية مشتركة.
* في الخليج العربي: الاستثمار في الحوسبة السحابية والتقنيات المالية (Fintech).
* في وادي النيل: تطوير حلول رقمية للزراعة، والصحة، والبنية التحتية.
* في المغرب العربي: التعاون في الأمن السيبراني والترجمة الرقمية.
ب− مستوى التكامل الشامل: بعد بناء هذه القواعد الإقليمية، يمكن التوجّه نحو مشروع عربي موحد للسيادة الرقمية عبر جامعة الدول العربية أو مجلس مشترك للتقنية والذكاء الاصطناعي، ينظم السياسات، ويوجه الاستثمارات، ويوحد المعايير.
هذا التكامل سيسمح ببناء قوة تفاوضية موحدة في وجه القوى الرقمية الكبرى، وتحقيق توازن في العلاقات الرقمية الدولية.
خامسًا: من التبعية المعرفية إلى بناء القدرات
لا سيادة رقمية من دون سيادة معرفية.
وأي تطوّر تكنولوجي يجب أن يواكبه بناء قدرات بشرية وذهنية قادرة على التفاعل والابتكار والتوجيه.
ولذلك، فإن على الدول العربية أن تعمل على:
− إدخال الذكاء الاصطناعي في التعليم بشكل متدرج ومدروس، من المرحلة المدرسية حتى الجامعية، مع التركيز على تنمية التفكير النقدي والإبداعي.
− إنشاء مراكز بحوث عربية متخصصة في الذكاء الاصطناعي والسياسات الرقمية، وتوفير منح ودعم للمبدعين والباحثين العرب.
− إطلاق برامج وطنية ومحلية لمحو الأمية الرقمية والذكاء الاصطناعي، بما يضمن شمول جميع فئات المجتمع، من الريف إلى المدينة، ومن الشباب إلى كبار السن.
بناء هذه القدرات هو الشرط الأساسي للانتقال من التبعية التقنية إلى ريادة رقمية حقيقية.
خاتمة: السيادة الرقمية كمشروع نهضوي عربي مشترك
إنّ السيادة الرقمية لم تعد ترفًا أو خيارًا ثانويًا، بل أصبحت ضرورة وجودية في عالم يتجه بسرعة نحو الحوسبة الذكية والتفاعل الخوارزمي.
ولن تتمكن الدول العربية من حماية أمنها الثقافي والمعرفي، ولا من تحقيق تنمية مستدامة أو عدالة اجتماعية، دون امتلاك أدواتها الرقمية ورؤيتها السيادية الخاصة بها.
الفرصة لا تزال قائمة، بل إنها سانحة الآن أكثر من أي وقت مضى، خصوصًا مع تراكم الأزمات التي تدفع باتجاه إعادة التفكير الشامل في البنية الاقتصادية والتكنولوجية والثقافية للدول العربية.
ومن هنا، فإنّ مشروع "السيادة الرقمية العربية" يجب أن يُطرح كمشروع نهضوي جامع، يعيد للعرب دورهم في إنتاج المعرفة، وصياغة القيم، والمساهمة في مستقبل العالم الرقمي لا التبعية له.
إنها لحظة تاريخية تستدعي جرأة القرار، وشجاعة التعاون، وذكاء الاستثمار في الإنسان. فمن يمتلك المستقبل الرقمي، يمتلك المفاتيح الحقيقية للنهضة.