النظام الصحي في الأردن: من التركيز على المرض إلى التركيز على الصحة
klyoum.com
أخر اخبار الاردن:
أمانة عمان تعلن الطوارئ المتوسطة اعتبارا من مساء اليومالنظام الصحي في الأردن: من التركيز على المرض إلى التركيز على الصحة
كتب اللواء المتقاعد د. موسى العجلوني -
يواجه الأردن تحديات متزايدة في التعامل مع الأمراض المزمنة، التي باتت تشكّل العبء الأكبر على النظام الصحي والاقتصاد الوطني، فضلًا عن تأثيرها العميق على جودة الحياة والإنتاجية المجتمعية. وتشمل هذه الأمراض بشكل رئيسي أمراض القلب والأوعية الدموية، وارتفاع ضغط الدم، والسكري، والسرطانات، وأمراض الكلى، وأمراض الجهاز التنفسي المزمنة. وتشير البيانات إلى أن هذه الأمراض تُسهم بما يقارب 78% من إجمالي الوفيات في المملكة، مع اتجاهات تصاعدية مقلقة في معدلات الإصابة.
ينفق الأردن سنويًا نحو 2.67 مليار دينار على الرعاية الصحية، أي ما يعادل 7.7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة تفوق المتوسطين العالمي والعربي. إلا أن المعضلة لا تكمن فقط في حجم الإنفاق، بل في توزيعه؛ إذ يذهب نحو 78% منه إلى الرعاية الصحية الثانوية والثالثية في المستشفيات، حيث تستهلك الأمراض المزمنة الجزء الأكبر من الموارد، ما يعكس نموذجًا صحيًا يركز على العلاج بعد وقوع المرض أكثر من تركيزه على الوقاية وبناء الصحة.
لقد أثبتت التجارب العالمية أن المنهج التقليدي القائم على إدارة المرض من منظور طبي صرف Disease Oriented Approach لم يعد كافيًا ولا فعالًا ولا اقتصاديًا، خاصة في مواجهة الأمراض المزمنة. فهذه الأمراض لا تنشأ فقط عن أسباب بيولوجية، بل ترتبط بعوامل نفسية واجتماعية واقتصادية وسلوكية، مثل السمنة، والخمول البدني، والتغذية غير الصحية، والتدخين، وأنماط الحياة الضارة بالصحة. ومن هنا تبرز الحاجة إلى مقاربة شمولية تشاركية تركز على الوقاية، والسيطرة على عوامل الخطورة، وإشراك الفرد والأسرة والمجتمع إلى جانب مقدمي الرعاية الصحية.
منطق التحول: لماذا التركيز على الصحة؟
إن استمرار التركيز على علاج المرض فقط يعني بقاء النظام الصحي في حالة ضغط دائم، مع ارتفاع مستمر في الكلف دون تحسن نوعي ملموس في المؤشرات الصحية. كما أن شيخوخة السكان، وتزايد الطلب على الخدمات الصحية، وانتشار الأمراض المزمنة، كلها عوامل تجعل هذا النموذج غير قابل للاستدامة.
في المقابل، فإن التحول نحو نموذج يضع الصحة في مركز الاهتمام يعني الاستثمار في الوقاية والكشف المبكر وتعزيز أنماط الحياة الصحية وتقوية الرعاية الصحية الأولية وتوسيع مظلة الحماية الصحية. هذا التحول لا ينعكس فقط على تحسن صحة الأفراد، بل يسهم أيضًا في رفع إنتاجيتهم، وتعزيز مشاركتهم الاقتصادية، وتقليل العبء المالي على الأسر والدولة. وقد أثبتت التجارب الدولية أن الأنظمة الصحية التي تركز على الصحة تحقق نتائج أفضل بتكلفة أقل، وتزيد متوسط سنوات العمر الصحي .(Average Healthy Life Years).
خطوات بدأها الأردن على طريق التحول
حقق الأردن خلال السنوات الماضية تقدمًا ملحوظًا، وإن كان دون المستوى المطلوب، في عدد من المجالات التي تقرّب النظام الصحي من النموذج الحديث. ومن أبرز هذه الخطوات: توسيع برامج الوقاية، خاصة المتعلقة بالأمراض المزمنة؛ نجاح برامج التطعيم التي تُعد من الأقوى إقليميًا؛ البدء في تعزيز دور الرعاية الصحية الأولية باعتبارها نقطة الدخول الأساسية للنظام الصحي، من خلال التوسع في برامج طب الأسرة؛ تبني نهج فريق صحة الأسرة وعيادات صحة المجتمع؛ تشكيل لجان صحة المجتمع؛ تطوير بعض المراكز الصحية؛ توسيع مظلة التأمين الصحي وتسهيل الوصول إلى الخدمات في إطار السعي لتحقيق التغطية الصحية الشاملة.
كما أُطلقت مبادرات لتعزيز السلوكيات الصحية، مثل خفض استهلاك الأملاح والدهون والحد من التدخين، إلى جانب وجود برنامج وطني للكشف المبكر عن سرطان الثدي. وأسهمت رقمنة القطاع الصحي الحكومي من خلال برنامج «حكيم» في تحسين إدارة البيانات، بما يدعم التخطيط والوقاية وإدارة الأمراض المزمنة.
ما الذي يحتاجه الأردن لاستكمال الانتقال؟
رغم هذه الإنجازات، لا يزال الانتقال إلى نموذج يركز على الصحة يتطلب خطوات إضافية جوهرية، من أهمها:
أولًا، إنشاء نظام وطني متكامل للصحة العامة، مدعوم ببنية تنظيمية ومخصصات مالية واضحة، بدل الاكتفاء بالمبادرات المتفرقة. ويشمل ذلك برامج كشف مبكر وفحوصات دورية للأمراض المزمنة، وحملات توعوية مستدامة حول عوامل الخطورة، وتعزيز التغذية الصحية من خلال فرض معايير غذائية صارمة في المدارس والمطاعم، والحد من تسويق الأغذية غير الصحية. كما يتطلب تشجيع النشاط البدني عبر توفير مساحات آمنة ودعم مبادرات المشي والدراجات الهوائية، وتعزيز مكافحة التدخين من خلال قوانين رادعة وضرائب أعلى والتوسع في عيادات الإقلاع عن التدخين، إلى جانب تفعيل برامج الصحة المدرسية.
ثانيًا، دعم وتقوية الرعاية الصحية الأولية وتحويلها إلى محور النظام الصحي، عبر توفير كوادر مؤهلة وحوافز مناسبة، وتطوير نظام تحويلي فعّال باتجاهين بين الرعاية الأولية والمستشفيات.
ثالثًا، تعزيز الشراكات المجتمعية، باعتبار أن الصحة ليست مسؤولية وزارة الصحة وحدها، بل مسؤولية مشتركة تشمل المجتمع، والمدارس، والبلديات، ووسائل الإعلام.
رابعًا، تسريع تطبيق نهج فريق صحة الأسرة، بوصفه مدخلًا شموليًا يدمج الفرد والأسرة في عملية الرعاية، ويعتمد على فريق صحي متكامل يضم طبيب الأسرة، والممرض، واختصاصي التغذية، والصيدلي، والمعالج النفسي والاجتماعي. ويسهم هذا النهج في تحسين الالتزام بالعلاج، والسيطرة على عوامل الخطورة، وتعزيز جودة حياة المرضى وأسرهم.
خامسًا، تطوير السياسات والتشريعات الصحية، من خلال زيادة الضرائب على المنتجات غير الصحية، وفرض قيود على الإعلانات الغذائية الموجهة للأطفال، وتمويل الأبحاث التي تركز على مسببات الأمراض المزمنة لفهم الخصوصية المحلية وتطوير حلول فعالة.
سادسًا، إيجاد نظام تأمين صحي اجتماعي إلزامي غير ربحي يشمل جميع السكان، ويمول بشكل تشاركي بين العاملين وأرباب العمل، مع التزام الحكومة بتغطية الفئات الفقيرة والعاطلين عن العمل، ويشكل هذا النظام خطوة رئيسية للوصول الى التغطية الصحية الشاملة بحلول عام 2030.
سابعًا، دعم أنظمة الإدارة الصحية الحديثة، وتعزيز أنظمة المعلومات الصحية الرقمية، وتحقيق الربط المعلوماتي بين جميع مستويات الرعاية الصحية.
الصحة كرافعة للتنمية المستدامة
إن التحول نحو نظام صحي يركز على الصحة يتوافق تمامًا مع أهداف التنمية المستدامة، وخاصة الهدف الثالث المتعلق بالصحة الجيدة والرفاه. كما يسهم في خفض الفقر من خلال تقليل الدفع من الجيب والتكاليف الصحية الكارثية، وتعزيز العدالة الاجتماعية والاستقرار المجتمعي.
إن النظام الصحي في الأردن أمام فرصة تاريخية لإعادة صياغة فلسفته وهندسته، والانتقال إلى نموذج أكثر قوة واستدامة، يقوم على تعزيز الصحة وتمكين الفرد وتقليل الحاجة إلى العلاج. وعندما ننجح فعليًا في الانتقال من معالجة المرض إلى بناء الصحة، فإن الأردن لن يحافظ فقط على مكانته الصحية الإقليمية، بل سيتقدم بثبات نحو مستقبل أكثر صحة وإنتاجية وازدهارًا، وتصبح وزارة الصحة الأردنية اسمًا على مسمّى!