التشكلات الاجتماعية حول الذكاء الاصطناعي
klyoum.com
ينشئ الإنسان منظومة التكنولوجيا والموارد والأعمال، ثم تعيد هذه المنظومة تشكيل الإنسان؛ ذلك أن التاريخ الإنساني في الازدهار والفشل، أو الاستيعاب والنكوص ليس سوى تشكيل التقنية و الموارد، ثم تشكيل الإنسان نفسه بفعل هذه التقنيات والموارد، هكذا فإن التغير الإنساني على مدى التاريخ لم يكن سوى هذه المتوالية. وفي السياق نفسه يجب أن نفكر في التأثير الإنساني والاجتماعي لتكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وما يمكن أن يكون عليه حال الناس والمجتمعات.
إن الخطأ الكبير الذي ارتكبناه في الأردن وعالم العرب أننا أغفلنا في الغالب الأعم من التفكير والتخطيط والتعليم والحوار والجدل في المجال العمومي التأثير الاجتماعي والإنساني للتكنولوجيا، فلا يمكن استيراد أو استخدام أو إنشاء تكنولوجيا دون أن نتغير اجتماعيا وإنسانيا، وكما أن لكل آلة دليل (كاتلوج) للاستخدام والصيانة والتشغيل؛ فإن لها أيضا دليل (كاتلوج) إنساني واجتماعي وثقافي. لا يمكن على سبيل المثال قيادة السيارة واستخدامها من غير منظومة مسؤولية قانونية سلوكية وثقافية خاصة بها، أو استخدامها وفق منظومة السلوك الزراعية التي كانت تعتمد على النقل بالخيل والبغال والحمير والإبل.
وهذا يفسر ببساطة ووضوح الحوادث المرورية وما يتبعها من خسائر مالية وأزمات اجتماعية ونفسية وسلوكية، يعود أكثر من 90 في المائة منها إلى سلوك اجتماعي؛ بمعنى أنه يمكن تجنب 90 في المائة من الحوادث والأزمات المرورية لو التزم مستخدمو وسائل النقل بالكتالوج الاجتماعي والثقافي لتكنولوجيا النقل. وهذا يفسر أيضا التفاوت الكبير في عدد و نسبة حوادث المرور بين الدول والمجتمعات والطبقات الاجتماعية والثقافات.
إن التأثير الاجتماعي للتكنولوجيا ما بعد الحديثة (Postmodern Technology) هو موضوع مركب يمزج بين التحولات التقنية العميقة والتغيرات الاجتماعية والثقافية والفكرية التي تواكبها. ويمكن على نحو ما تقتضيه هذه المساحة في الكتابة وطبيعتها عرض حالات من التأثير الاجتماعي للذكاء الاصطناعي، وهي أمثلة للتفكير والتأمل أكثر مما هي معالجة متقدمة للمعرفة والتكنولوجيا الـ "ما بعد حديثة" باعتبار الصناعة تكنولوجيا حديثة.
ما تأثير الذكاء الاصطناعي على التكوينات الاجتماعية الكبرى التي أخذت على مدى العصور وضعا ثابتا وراسخا، مثل الدولة والسلطة والأمة والثقافة؟ نلاحظ اليوم بوضوح إعادة تفكيك وتركيب هذه التكوينات التي كانت أهراما عظيمة وراسخة كأنها "أبو الهول" فالتعليم والمعرفة والهويات والسلوك الديني والتنظيم الاجتماعي والعادات والتقاليد والقيم والأعراف وسائر الرموز الاجتماعية والسياسية تتشكل اليوم بفعل الشبكة وتطبيقاتها، وليست السلطات والأسر والمدارس والجامعات والمؤسسات الإرشادية والإعلامية سوى شريك محدود التأثير في المنظومة المعرفية والتعليمية و الإرشادية، وفقدت السلطة قدرتها التنظيمية والرقابية على تدفق المعرفة وتداولها، لكن الأكثر عمقا في التأثير والتحول أن منتجي المعرفة أنفسهم؛ مثل المعلم والمرشد والداعية والمفتي والوالدين والقائد الاجتماعي والسياسي والمؤسسات المركزية في التعليم والإرشاد والإعلام يفقدون دورهم أو يتغير دورهم إلى وجهة لم تتحدد أو تعرف بعد.
إن الذكاء الاصطناعي لم يعد فقط وعاء للمعرفة أو محركا للبحث فيها، لكنه منتج للمعرفة كما لو أنه باحث أو مرشد أو قائد اجتماعي.
هذا الفاعل الجديد الذي يحلّ أو يشارك مع فاعلين ترسخ دورهم على مدى القرون والعصور؛ مثل العارفين في كل مجال؛ في الدين والعلم والزراعة والطب والصيانة والفكر والميتافيزيقيا، ليس معروفا ولا موثوقا ولا يصف نفسه أنه موثوق، يعمل وفق منظومة أو شيفرة بحثية في المصادر تحركها وتنظمها "خوارزمية" تنشئ من الحساب والاحصاء والاحتمالات والجبر والمنطق دليلا للسلوك والعلم والسياسة والدين والثقافة والتخطيط والتفكير والحياة.
هذه الخوارزمية تدك أهرامات المعرفة والتنظيم والإرشاد والتعليم وما حولها وفيها من مؤسسات وفاعلين لتنشئ بدلا منها شبكة غامضة لكنها تعمل بوضوح، مجهولة لكننا نتعامل معها جميعا بواقعية وحسية كأنها معروفة، خفية غير مرئية لكنها تعمل وتؤثر أكثر من كل تلك الرموز والمؤسسات والشخصيات المرئية التي نعرفها.
كيف يعرف الإنسان اليوم نفسه، وكيف ينشئ هويته؟ لقد بدأ الإنسان منذ عصر الصناعة يعرف نفسه وهويته بالعمل ثم المنظومات والمؤسسات التي تنظم وتنشئ هذا العمل، مثل المدارس والجامعات والشركات والنقابات، أو يعرف نفسه بما يملكه ويديره من مصالح ومؤسسات وأعمال في الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات، وفي عبارة مختصرة فإن"الأسواق والأعمال" هي التي منحت الإنسان "الحديث" معناه وهويته ومنرلته الاجتماعية والاقتصادي والطبقة التي ينتمي إليها.
لم يعد يعرف الإنسان منذ حلّت "الصناعة" في القرن السابع عشر أو قبل ذلك بزمن ليس طويلا إلا بعمله الذي يقوم به والعلامة التجارية أو الرمزية التي يشار إليها بالمدارس والجامعات التي تخرج منها، والمؤسسات التي عمل فيها، وبماركات الملابس والأحذية والسيارات والساعات والعطور،وسائر الأشياء التي يستخدمها، أو الأندية والمطاعم و الأماكن التي يرتادها. أو بلون جواز السفر الذي يستخدمه، وكلها قيم ومعان ورموز تحلّ في الإنسان من خارجه وليس من ذاته، فلا أحد يعرف الإنسان بأنه إنسان، لكن يعرفه بأنه معلم أو مهندس أو طبيب؛ هارفاردي أو سوربوني أو اكسفوردي أو ما دون ذلك أو غيره .
لقد فقد الإنسان في عصر الصناعة معناه وقيمته الذاتية بما هو كائن حي كريم وذكي ومفكر أو صادق أو كريم أو شجاع، أو عكس كل ما قيل من صفات وهويات. وحلّ هذا المعنى الجديد للإنسان وصار متقبلا وراسخا، واليوم فإن البشرية تبكي على الدمار الذي يلحقه الذكاء الاصطناعي بالإنسان، وننسى أو نتناسى أن الذكاء الاصطناعي يدمر دمارا أنشأته الحداثة أو الصناعة التي أنشأت منظومة غير اصيلة، واكتسبت القبول والشرعية منذ قرون قليلة (في بلادنا منذ مائة سنة أو أقل) ولم تكن هذه المعاني والهويات يعرفها الإنسان في عصور ما قبل الصناعة الممتدة إلى ثلاثة ملايين سنة وربما أكثر.
تعود السيول إلى مجاريها بفعل الذكاء الاصطناعي ليبحث الإنسان ويفكر من جديد في معناه وهويته، إنه ما يعنيه ويقتضيه جوهره الذي خلق به ونشأ عليه مستقلا عن كونه عاملا أو مديرا أو قائما بأعمال المدير أو رجل أعمال أو مزارع أو نجار أو طبيب. لقد كان الإنسان كل ذلك في شخص واحد، فقد كان يعلّم نفسه بنفسه، ويعمل بنفسه لنفسه، ويداوي نفسه بنفسه، ويعود اليوم ليكون ما كان عليه ملايين السنين، ويتخلص مما احتواه أو التف عليه قبل قرنين أو ثلاثة أو قرن من الزمان؛ مثل شجرة الهالوك التي تتسلط على الزروع والأشجار، أو العلق والقراد والقمل الذي يلتصق بالكائنات الحية ويتغذى عليها.
تصعد الهوية الفردية الذاتية وتنحسر الهويات الجماعية، أو تتشارك على قدر من المساواة والتنافس والترجيح حسب الحالات والأشخاص، ويمكن الرمز على ذلك بمثال "الموبايل" الذي يعكس الإنسان الفرد القادر والمشارك في العالم بما هو فرد مستقل عن بلده أو عمله أو لغته أو منزلته أو ما يملكه من ورق يسمى بعضه "نقود" وبعضه يستخدمه في التواليت. كيف صارت ورقة مقياسا للمال والمنزلة وصارت ورقة أخرى شبيهة بها تستخدم في التواليت؟
لا أعني ان ما صار أفضل مما كان أو العكس، فالقاعدة التي عرفها الإنسان في مساره التقني والاقتصادي والاجتماعي أن المنظومات الثنائية من الخير والشر، والضرر والنفع، والصواب والخطأ، والقبيح والحسن؛ تترافق على نحو لا فكاك منه في كل عمل او تقنية أو حالة. لكن السؤال العملي كيف نفهم تأثير الذكاء الاصطناعي ثم نستوعبه في النفع ونتجنب آفاته وأضراره وتحدياته؟ وللحديث صلة تطول.