تغول المؤسسة العسكرية: حين يتحول حارس الدولة إلى لاعب سياسي
klyoum.com
أخر اخبار الاردن:
ضبط مطلوبين احدهما محتال بـ 3 ملايين دينار والاخر محكوم بالحبس 20 عاماتغول المؤسسة العسكرية: حين يتحول حارس الدولة إلى لاعب سياسي
د. عبدالله حسين العزام
تُعدّ المؤسسة العسكرية في أي دولة إحدى ركائز الأمن والسيادة، إذ يُفترض أن تقتصر مهامها على حماية الوطن وحدوده وصون أمنه الداخلي والخارجي، غير أن التاريخ الحديث في الشرق الأوسط يكشف أن الجيوش وأذرعها، عندما تتجاوز وظائفها الدستورية وتتغلغل في السياسة والقضاء والاقتصاد والإدارة، تتحول من حارسٍ للدولة إلى لاعبٍ نافذ داخلها، ما يهدد الاستقرار، ويقوّض المؤسسات المدنية على اختلاف مسمياتها، ويعطل مسار التنمية والديمقراطية.
ولا يقف هذا التغول عند المؤسسة العسكرية ذاتها فحسب، بل يمتد إلى الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التابعة لها، مثل أجهزة المخابرات والاستخبارات العسكرية والأمن الوطني، التي يفترض أن تعمل في نطاق حماية الأمن القومي، لكنها كثيرًا ما تتوسع في أدوارها لتشمل مراقبة النخب الشعبية والسياسية والإعلامية، والتأثير في التعيينات الإقتصادية والسياسية والإدارية وتعيينات قطاع المال والأعمال، بل وأحياناً التوجيه في قرارات الحكومة والقضاء، هذا التداخل في الصلاحيات يحوّل تلك الأجهزة من أداة لحماية الدولة إلى سلطة موازية لها، ويخلق مناخاً من الغموض والخوف والرقابة الذاتية في المجتمع.
بالإضافة إلى ذلك فإن تغول المؤسسة العسكرية وأجهزتها الأمنية لا يهدد الديمقراطية فحسب، بل يفتح الباب واسعاً أمام خطر الانقلابات العسكرية، إذ يبدأ المسار عادة بتبرير التدخل في السياسة باسم "حماية الأمن القومي” أو "تصحيح المسار”، ثم يتطور إلى سيطرة فعلية على السلطة المدنية والتغول في المؤسسات. وغالباً ما يترافق ذلك قطع الطريق أمام أي مؤسسة مدنية رسمية تمتلك قدرة على الاستقطاب الجماهيري أو التأثير الشعبي، فيتحول المشهد العام إلى حالة من الهيمنة الشاملة التي تخنق الحياة السياسية وتفرغها من مضمونها.
وكما تُظهر التجارب التاريخية فإن الخطر العسكري لا يأتي عادة من المركز السياسي للدولة، بل من الأطراف أو المناطق البعيدة عن العاصمة، حيث تتشكل مراكز نفوذ عسكرية وأمنية تنمو تدريجياً خارج الرقابة المدنية، لتصبح لاحقاً قاعدة للتمرد أو الانقلاب، كما حدث في عدد من الدول العربية والأفريقية، وتحديداً السودان وسقوط الفاشر ومخططات التقسيم، التي تحولت فيها الوحدات العسكرية في الأطراف إلى مصدر تهديد لبنية الدولة المركزية. ومن هنا، فإن تجاوز المؤسسة العسكرية لحدودها الدستورية يُضعف شرعية أي نظام سياسي مهما كان شكله، ويجعل الأمن ذاته مهدداً من داخله.
ففي الأنظمة الجمهورية، كما في سوريا خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، توالت الانقلابات العسكرية بدءً من عام 1954 وصولًا إلى 1963، ليتحول الجيش والأجهزة الأمنية إلى عمود النظام السياسي ذاته، مما أدى إلى تراجع مؤسسات الحكم المدني، وتكريس الدولة الأمنية على حساب المشاركة الشعبية والتعددية السياسية. وفي مصر، أدى انقلاب 1952 بقيادة جمال عبد الناصر إلى وضع المؤسسة العسكرية وأجهزتها الأمنية في قلب القرار السياسي والاقتصادي لعقود طويلة، حيث أصبحت تلك الأجهزة لاعباً حاسماً في اختيار المسؤولين وصياغة السياسات العامة، رغم ما تحقق من إنجازات اقتصادية وتنموية في مراحل معينة. أما في ليبيا واليمن، فقد أسهم تغول الأجهزة الأمنية والعسكرية في تعطيل مسار الدولة المدنية وإغراق البلاد في صراعات داخلية متواصلة.
أما في الأنظمة الملكية، فلم تكن بمنأى عن هذا الخطر، إذ شهدت بعض الملكيات العربية في منتصف القرن العشرين انقلابات عسكرية غيّرت شكل الحكم بالكامل، كما حدث في مصر عام 1952 عندما أطاح تنظيم "الضباط الأحرار” بالنظام الملكي، وفي العراق عام 1958 حين أُطيح بالملكية الهاشمية بطريقة دموية وأنهت عهداً ملكياً. حتى في ليبيا عام 1969، أطاح انقلاب العقيد معمر القذافي بالنظام الملكي السنوسي ليبدأ عهد الحكم العسكري. هذه التجارب التاريخية توضح أن الملكيات، وإن كانت أكثر استقراراً بطبيعتها المؤسسية، إلا أنها أيضًا عُرضة للاهتزاز إذا ما فقدت السيطرة المدنية والدستورية على المؤسسة العسكرية.
ويمتد هذا التدخل كذلك إلى المجال القضائي، حين تمارس الأجهزة الأمنية نفوذاً على قرارات المحاكم سواءً أكانت مباشرة أو غير مباشرة، أو عندما تُحال القضايا ذات الطابع السياسي إلى محاكم عسكرية، ما يقوض مبدأ استقلال القضاء، ويُفقد المواطن الثقة في العدالة وسيادة القانون. أما في الاقتصاد، فحين تسيطر المؤسسة العسكرية وأذرعها الاستثمارية على قطاعات استراتيجية — كالبناء والطاقة والزراعة والتجارة — فإنها تحجب المنافسة، وتعيق القطاع الخاص، وتحوّل الاقتصاد إلى منظومة مغلقة يهيمن عليها النفوذ لا الكفاءة.
إن الخطر الأكبر في هذا التغلغل أن تتحول أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية إلى "مراكز قوى” تتجاوز الرقابة المدنية والدستورية، وتتعامل مع الدولة وكأنها ملكية خاصة تُدار من داخل الثكنات لا من داخل المؤسسات المنتخبة، أو المؤسسات الرسمية ذات الطابع المدني حينها، يصبح الأمن ذريعة لتكميم الأفواه، وتصبح السرية مبرراً لحجب الحقيقة، ويتراجع المواطن إلى هامش المعادلة الوطنية.
في المقابل!، تُظهر التجارب الدولية أن الدول التي نجحت في ضبط العلاقة بين المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية من جهة، والسلطات المدنية من جهة أخرى، تمكنت من تحقيق استقرار سياسي واقتصادي ملحوظ. فعلى الصعيد العربي، يُعد كلٌّ من المملكة الأردنية الهاشمية والمملكة العربية السعودية نموذجين بارزين في الحفاظ على خضوع المؤسسة العسكرية للسلطة المدنية ضمن إطار النظام الملكي، حيث ظل الجيش في البلدين ملتزماً بمهامه الدفاعية والأمنية دون تدخل في الشأن السياسي، مما ساهم في ترسيخ الاستقرار الداخلي وتعزيز الثقة بالمؤسسات وتحقيق التنمية الوطنية والتحديث والتطوير. أما على المستوى الدولي، فتُعد تركيا بعد عام 2010 مثالًا واضحاً على تراجع نفوذ الجيش وأذرعه في الحياة السياسية وعودة التوازن بين السلطات، وهو ما انعكس نمواً اقتصادياً واستقرارا اجتماعياً. وفي سنغافورة، قامت النهضة على قاعدة راسخة من احترام المؤسسات المدنية، حيث ظل الجيش والأجهزة الأمنية ملتزمين بمهامهم الدفاعية والاستخبارية دون أي تدخل في الحكم أو الاقتصاد.
إن إعادة المؤسسة العسكرية وأجهزتها الأمنية إلى أدوارها الدستورية ليست ترفا سياسيا، بل ضرورة وجودية لحماية الدولة الوطنية من الانقسام ولضمان بقاء القرار الوطني في أيدي مؤسسة الحكم والمؤسسات المدنية المنتخبة والمؤسسات المدنية الرسمية— سواء كانت تلك المؤسسات نابعة من نظام جمهوري أو ملكي. فالعبرة ليست في شكل الحكم، بل في مدى خضوع القوة العسكرية للدستور وسيادة القانون والسلطة المدنية.
في النهاية، يبقى "الحلم السياسي" هو سمة القائد الحكيم — ذاك الذي يمارس الصبر والحكمة في إدارة الدولة، لكنه لا يتردد في الحزم حين تتجاوز المؤسسة العسكرية وأجهزتها حدود مهامها. فصون الدولة لا يكون بإخضاعها لسلطة السلاح والقوة القسرية، بل بإعلاء سلطة الدستور والقانون.
إن أخطر ما يمكن أن تواجهه أمة هو أن يتحول جيشها وأجهزته الأمنية من حراس للوطن إلى حكام فوقه، لأن عندها يبدأ الوطن بالانكماش من الداخل، وتختنق السياسة، وتغيب الحرية، ليحل محلها الصمت والخوف والغموض، ويضيع جوهر الدولة الذي يقوم على العدالة والكرامة والمشاركة العامة والتعددية وسيادة القانون وحق المنافسة في جميع المجالات.