حين تغتال الرصاصة الحقيقة: رثاء في رحيل الصحفي صالح الجعفراوي
klyoum.com
أخر اخبار الاردن:
ارتفاع مؤشر نازداك الأميركيحين تغتال الرصاصة الحقيقة: رثاء في رحيل الصحفي صالح الجعفراوي
الكابتن اسامة شقمان
في صباحٍ حزين من أيام غزة المثقلة بالألم، وصلنا خبرٌ كالسهم إلى القلب:
استشهاد الصحفي صالح الجعفراوي، برصاص مسلحين جنوبي مدينة غزة، وهو يؤدي عمله الإنساني والمهني في تغطية آثار العدوان والدمار.
خبرٌ واحد، لكنه كفيل بأن يترك في صدري فراغًا لا يُملأ.
كنتُ من متابعي صالح، أتابع تقاريره المصوّرة، وصوته الذي كان يحمل وجع الأرض بصدقٍ نادر.
لم يكن مجرد صحفيٍّ ينقل الصورة، بل كان ابنًا من أبناء الحقيقة، يرى بعينٍ دامعة ويكتب بقلبٍ يحترق.
من يتأمل مسيرة صالح الجعفراوي يدرك أنه لم يكن يسعى إلى الشهرة، بل إلى الشهادة من أجل الكلمة.
كان يؤمن أن الصورة ليست مجرد مشهدٍ عابر، بل شهادة على زمنٍ يحاول أن يُمحى.
في كل مرةٍ كان يقف فيها بين أنقاض البيوت المهدمة، كانت الكاميرا ترتجف بين يديه كقلبٍ صغيرٍ في مواجهة الرعب.
ورغم كل شيء، لم يتراجع. كان يمضي بخطواتٍ ثابتة نحو الضوء، حتى حين غمره الظلام.
رصاصة لم تأتِ من العدو… بل من الداخل
الأشدّ وجعًا من الموت، أن تأتي الرصاصة من حيث لا تتوقعها.
لم يُقتل صالح على يد قوات الاحتلال كما ظنَّ كثيرون، بل سقط برصاصٍ خرج من أيادٍ فلسطينية، في مشهدٍ يضاعف الألم ويترك فينا سؤالًا لا يُجاب:
كيف يمكن أن تمتد الأيدي إلى من حمل الحقيقة ليُنير بها ظلمة الحرب؟
إنها فاجعة أشد من القتل نفسه، حين يضيع معنى الانتماء، وتصبح الحقيقة غريبة حتى بين أبنائها.
رحل صالح ليذكّرنا بأن الخطر لا يأتي دائمًا من حدودٍ تُرسم على الخرائط، بل من الظلمة التي تتسلل إلى القلوب حين يغيب الضمير.
غزة لا تبكي فقط شهداء المعارك، بل تبكي الذين كتبوا عنهم أيضًا.
هي المدينة التي تحفظ أسماءهم في ترابها، وتنقش صورهم على جدرانها المهدّمة.
لكن رحيل صالح مختلف؛ لأنه لم يكن مراسلًا فحسب، بل كان ضميرًا حيًّا، وعدسةً تصرخ في وجه النسيان.
كم تمنيت لو كان هذا المقال تقريرًا جديدًا من تقاريره، لا مرثيةً له.
كم تمنيت أن أراه مجددًا يبتسم بعد تصوير مشهدٍ صعب، يقول بثقة:
"سنروي ما جرى، ولو كره الصمت.”
رحيل صالح الجعفراوي ليس خسارة لفلسطين فحسب، بل للإنسانية جمعاء.
فحين يُقتل من يحمل الحقيقة، يموت جزء من وعينا.
وفي هذا العالم الذي يغرق في الزيف، كان صالح يشبه ومضة ضوءٍ قصيرة لكنها صادقة.
إنه يذكّرنا بأن الكلمة لا تموت، وأن الصورة قد تُغتال لكن معناها يبقى.
كل من عرفه أو تابع أعماله سيظلّ يشعر أن هناك فراغًا في المشهد الإعلامي الفلسطيني لا يُملأ، لأن الأصوات الصادقة لا تتكرّر، ولأن بعض الشهداء يرحلون ليصبحوا أبديّين في ذاكرتنا.
وداعًا يا صالح…
وداعًا يا من علمتنا أن الصحافة ليست مهنة، بل رسالة.
وداعًا أيها الصوت الذي كان يرفع الحقيقة فوق ضجيج الحرب.
نم قرير العين يا صالح، فصورتك لن تُمحى من وجداننا، وستظلّ كاميرتك شاهدةً علينا جميعًا — على صمتنا، وعلى عجزنا، وعلى حبّنا الكبير لك.
.