"الأخلاقي" يصنع جماعات وطوائف وأما "االاجتماعي الحقوقي" فهو ما يصنع الأمة! #عاجل
klyoum.com
"الأخلاقي" يصنع جماعات وطوائف وأما "االاجتماعي الحقوقي" فهو ما يصنع الأمة! #عاجل
كتب د. عبدالحكيم الحسبان -
ما أن أعلن رئيس الوزراء البريطاني السابق جيريمي كوربن المنشق عن حزب العمال تأسيس حزب جديد حتى بلغ عدد الاعضاء المسجلين في الحزب ما يقرب المليون في غضون العشرة أيام من مختلف المناطق البريطانية وقبل أن يتم التسجيل والاعلان الرسمي عن ولادة الحزب. وأما في الاردن وبرغم كل حملات التحشيد والتعبئة والتشجيع من قبل الرسمي ومن قبل مختلف القيادات المدنية والتي وصلت حد قيام جهات في الدولة بتقديم حوافز عينية من اجل تشجيع العمل الحزبي فإن المعضلة الرئيسة التي تواجه كل الاحزاب هي في عدد المنتسبين إليها. وحده الحزب الذي يرفع يافطة اسلامية يمكنه أن يشكل عامل جذب، وأن يحشد. وهو أمر لا دلالته على صعيد المقاربة التي نحن بصدد صياغتها في هذه المقالة.
قدرة المجتمعات الغربية على الحشد والتنظيم وتحويل الافراد من كيانات فردية داخل سياقات العمل والحيز الخاص وغيرها إلى كتل جمعية وجماعية مدنية تتجلى أيضا في سياقات أخرى. فما أن تسقط طائرة ركاب حتي يسارع المئات من عائلات الضحايا الى الفعل والعمل بشكل جماعي منظم، فهم لا يتصرفون بنسق فردي عشوائي، بل تكون الخطوة الاولى دائما هي تشكيل رابطة أو تجمع لأسر الضحايا ينبثق منها جسم قيادي على صعيد متابعة ملف حقوق الضحايا وعلى صعيد التحشيد الاعلامي والسياسي. ذات القدرة على التحشيد والانخراط تظهرها هذه المجتمعات في كل ما يتصل بالشأن العام سواء تعلق بقضايا مطلبية أو تعلق بقضية إنسانية عالمية حولتها هذه المجتمعات إلى جزء من خريطة الشأن العام . ولعل مثال التظاهرات العارمة في عواصم الغرب ضد الابادة الصهيونية في غزة هي أكبر دليل على ما نقول.
لا أبالغ حين اقول أن اكثر ما يلفتني في مجتمعات الغرب على صعيد الاجتماع والسياسة هو كثرة الاتحادات والروابط المدنية التي ينخرط بها الافراد والتي قد تتخذ شكل جمعية لمساعدة ضحايا الرغبة في الانتحار أو جمعية للدفاع عن البيئة أو عن حيوان مهدد بالانقراض التي تعمل دوما بالتزامن مع الاطر الحزبية والنقابية والكيانات البيروقراطية الدولتية الحكومية.
وفي مقابل هذا النموذج التي تظهرة مجتمعات الغرب في تحويل تلك الكتل الهائلة من الاشخاص والذرات الفردية إلى أطر مدنية تنظيمية جماعية تظهر مجتمعاتنا قدرا هائلا من غياب الاطر الجمعية والجماعية المدنية العابرة للمنطقة وللعشيرة والطائفة وللمنطقة الجغرافية. فالملايين التي تتشمل عليها الحدود الجغرافية في كل بلد تتصرف ككائنات فردية أنانية في معظم الوقت، وهي ان ذهبت إلى اطر من العمل الجماعي فوحدها العشيرة او الطائفة او المنطقة الجغرافية الضيقة وليس كل الاقليم من يستطيع ان يجذب وأن يشكل اطارا للفعل الجمعي والجماعي. الاطار المدني الدولتي لا يجذب، المضافات التي تشكل فضاء عاما ولكنه ضيق ومغلق تجذب عدة عشرات او مئات واما الحزب او الجمعية المدنية العابرة للمنطقة والعشيرة والطائفة والمنطقة الجغرافية الضيقة فهي بالكا دد تستقطب المئات .
في ديناميكيات تطور الجماعات البشرية، كان الشكل الاول للجماعة البشرية الذي ساد لمئات الاف السنين هو الزمرة التي يقتصر عددها على المئات ممن تربطهم علاقة الدم المباشرة وممن ينتجون اجتماعهم بصورة يومية على شكل تفاعلات اقتصادية واجتماعية وعاطفية مباشرة ويومية وحيث الكل يرى الكل يوميا وكل الوقت، وفيما بعد تعقدت الديناميكيات لتظهر العشيرة وحيث الاعداد هي بالالاف وربما عشرات الاف ولكن التفاعلات اليومية المباشرة قلت وصار الرابط بين اعضاء الجماعة هو علاقات الدم الحقيقية والمتخيلة وحيث يتخيل افراد العشيرة ان لهم جدا مشتركا. وفيما بعد تطورت الديناميكيات لتنتج شكلا جديدا من الرابط الاجتماعي او الاسمنت الاجتماعي هو الجماعة الدينية او الطائفة وحيث التشارك في المعتقد الايماني والاخلاقي هو الرابط او الاسمنت وحيث الجميع يعرفون بعضهم بعضا بااعتبارهم كائنات اخلاقية أيمانية .
وأما المجتمع والامة فقد كانا نتاج لتحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية وتقنية وديموغرافية اشتمل على تقسيم معقد للعمل يشتمل على عشرات الاف من التخصصات والاعمال والمهن وكان من بين هذه التحولات تحول اعضاء الجماعة إلى افراد وليس افرادا جمعيين، كما عمل الاقطاع الاوروبي مثلا على تعزيز مفهوم العلاقات التعاقدية على مدى قرون ليكرس في المخيلة الجمعية وفي التشريعات وفي السياسة فيما بعد تعريف الفرد على أنه كائن حقوقي والذي ينص عال أن كل فرد داخل المجتمع هو بناء حقوقي يشتمل على مجموع من الواجبات وحيث يتساوى الافراد فيها، ينفس الوقت الذي يشتمل عليه على مجموع من الحقوق. وعليه، فان واجبات الفرد هي في الان ذاته حقوق الاخرين المتوجبة عليه، وأما حقوق الفرد فهي واجبات الجماعة المفترضة تجاه الفرد. فالواجبات هي الحقوق في الوقت نفسه.
في العالم العربي والشرق أوسطي عموما تبدو المعضلة الكبرى التي تعيشها هذه المنطقة هي على النطاق البنيوي المجتمعي. صحيح أن الدولة موجودة وهي حاضرة ولكن الدولة تبدو وكانها تعمل ليس كانعكاس لجماعة يغلب عليها الاجتماعي والحقوقي والتعاقدي ولكن كخليط وفسيفساء متنوع من الجماعات والطوائف وحيث يتم تغليب الاخلاقي على الاجتماعي، ويتم تغليب العصبياتي على الحقوقي. في هذه المنطقة لم تتطور فكرة المجتمع أو بنيانه بل ما زالت الجماعات هي الطاغية فالفرد هو عضو في جماعة وليس عضوا في مجتمع وأمة ودولة. ولان الفرد يتم تعريفه باعتباره كائنا اخلاقيا، فهو لا يتفاعل وينسج العلاقات ولا يميل الى الزواج مثلا الا من نفس الجماعة الاخلاقية التي تشبه نسيجه الاخلاقي ما يمنع في النهاية تحول الجماعات الى مجتمع وامة. غلبة التعريف الحقوقي على تعريف الفرد وعلى موقعه الاجتماعي وعلى تعريف الفرد للافراد الاخرين وعلى تعريف الدولة لمواطنيها هو ما ينتج مفهوم الامة وهو ما يحيل الجماعات الى مجتمع وأمة فدولة حديثة.
والحال، فان الدساتير العربية ولانها كتبت من قبل نخب درست القانون في الغرب فهي صاغت دساتير عل اساس من الفهم الحقوقي لكل من ينتمون للدولة ويحملون بطاقات هويتها، في حين أن البناءات الاجتماعية وشبكة الروابط الاجتماعية على الارض يتم انتاجها على أساس من التعريف الاخلاقي للفرد وليس الحقوقي والتعاقدي. ومن هنا تنشأ تلك الفجوة الهائلة بين الدولة والناس وبين الدولة على النسق العربي وتلك التي طورتها المجتمعات الغربية. الشخص يعرف نفسه على انه كائن اخلاقي وليس حقوقي وهو يعرف رابطته بالجماعة باعتبارها رابطا اخلاقيا وهو يعرف من ينتمي اليهم ويشاركهم التفاعلات الاجتماعية باعتبارهم كائنات اخلاقية وليس اجتماعية وحقوقية.
ففي الاردن مثلا تكثر المحاكمات الاخلاقية وحيث الجميع يحاكم الجميع اخلاقيا وحيث تغيب تقريبا المحاكمات والتقييمات الحقوقية التعاقدية، فالجميع يجعل من الاخلاقي وليس الحقوقي التعاقدي أساس المحاكمات والمفاضلات بين الناس. فيتم الانحياز لمن ننحاز له اخلاقيا ولا نجري المفاضلات والمقارنات بين الناس على اساس حقوقي تعاقدي. فرئيس البلدية تتم محاكمته مثلا على اساس انه عاق لوالديه أو على اساس انه مؤمن يواظب على الصلاة في مواعيدها وعلى انه بشوش ويظهر الاحترام للاخرين أو العكس، وهذه كلها محاكمات وتوصيفات اخلاقية، فلا نقاش مثلا حول المدى الذي نجح فيه رئيس البلدية في القيام بما يوجبه عليه موقعه كرئيس للبلدية.وهذا المنطق يسود اصلا حين يتم انتخاب رئيس البلدية. الاطمئنان الى اخلاق المرشح هي ما تدفعنا للتصويت له وليس قدرته على القيام ما يتوجب عليه من تأمين لحقوق الناس.
فرئاسة الجامعة، والوزارة والنيابة كلها ندركها ونتمثلها بعيون وعقول اخلاقية وليس اجتماعية وحقوقية تعاقدية. فرئيس الجامعة الجيد هو من شاهدنا فيه اخلاق جماعتنا أو طائفتنا ولم نر فيه كائنا اجتماعيا يشبهنا حقوقيا وتجب محاكمته على اساس حقوقي تعاقدي أي لجهة قدرته على القيام بما هو مطلوب منه تعاقديا تجاه الجماعة باعتباره خادما عموميا. فنحن لا نرى في في رئيس الجامعة أو في عضو البرلمان أو في الوزير خادما للعامة بل نبحث فيه عما هو اخلاقي كي نحبه او ندينه .
ومن الواقع الاردني تحضر في ذهني مثلا الكيفية التي عرفنا بها قيادة السيارة؛ فهي فن وذوق واخلاق، وهو شعار يحفظه كل الاردنيين عن ظهر قلب وبدلا من ان تتحسن بيئة قيادة السيارات في البلاد، فهي ما فتأت تصبح اكثر خطورة واكثرة اثارة للتوتر وللخوف والتعب. فالوقائع على الارض تثبت أن ثمة شيئ ما لا يعمل في هذا الشعار الذي يردده الجميع، وأن التعريف الاكثر علمية لقيادة السيارة باعتبارها ممارسة يقوم بها الفرد داخل الفضاء العام هو أن نكرس في ذهن الناس أن قيادة السيارة هي كتلة من الحقوق والواجبات، فما هي واجبات عليك وانت تسوق هي حقوق عليك ان تمنحها انت للاخرين، في حين أن ما تحصل عليها من اولويات وحقوق على الطريق هي ببساطة ما بتوجب على من يشاركونك الطريق أن يقوموا به تجاهك.
قبل أيام تداول الناس في منطقتنا تصريحات توم براك مبعوث الرئيس الاميركي لتركيا والمشرق العربي والذي ينتمي في جذوره الى عائلة لبنانية حين قال أن المنطقة هذه المنطقة من العالم لم تعرف السلام ولن تعرفه، وأن الحرب وعدم الاستقرار هما القانون الطبيعي في هذه المنطقة لان من ما هو موجود في المنطقة هي قبائل وطوائف وجماعات وأن لا وجود لامة أو أمم. وأن فكرة الدولة والامة كانت مفروضة من البريطاني والفرنسي حين صاغا مشروع سايكس بيكو.
يريد توم باراك أن يقول لنا ببساطة أننا ما زلنا جماعات وقبائل وطوائف واننا لم نرتق بعد كي نكون مجتمعا وأمة لنصنع دولة.