اخبار الاردن

جو٢٤

سياسة

د. بني هاني يكتب عن اقتصاديات الوهم: رحلتي إلى مدينة المُفارقات (Paradoxopolis) #عاجل

د. بني هاني يكتب عن اقتصاديات الوهم: رحلتي إلى مدينة المُفارقات (Paradoxopolis) #عاجل

klyoum.com

د. بني هاني يكتب عن اقتصاديات الوهم: رحلتي إلى مدينة المُفارقات (Paradoxopolis) #عاجل

كتب أ. د. عبدالرزاق بني هاني -

يؤلمني جداً ذلك المكان الذي رأيته في منامي – الكابوس - مدينة تعيش فيها النوايا والنتائج في حالة من التناقض الأبدي، وحيث يبدو أن كل حلٍ يُفاقم المشكلة التي كان من المُـفترض أن يُعالجها، وهو ما أسميته خطاب الفجر الدائم (Rhetoric of Perpetual Dawn).

تقبع مدينة المفارقات في مساحة ضبابية بين الخطاب الرسمي والواقع المعاش. للمراقب الخارجي الذي يُطالع التصريحات اليومية لمُدراء المدينة، تبدو المدينة وكأنها على شفا عصر ذهبي. فكلُ مسؤولٍ جديد، عند أدائه يمين الإخلاص للسلطان والمدينة وقوانينها، يقف أمام قاعة البلدية الكبرى المتهالكة ليعلن بثقة لا تتزعزع أن الأيام القادمة ستكون أفضل. هذا التفاؤل الطقوسي، الذي يُبث عبر محطة تلفزيون المدينة، تحول إلى نوعٍ من الشعائر المدنية — شعار يتكرر باستمرار حتى أُفرغ من معناه، ولم يترك وراءه سوى صدى خافت لأمل لم يتحقق.

يعمل خطاب الفجر الدائم هذا بمثابة مُخدّر معرفي لمدراء المدينة وسكانها، ومصدر لشعور عميق باليأس والتآكل لدى المواطنين. إنه المفارقة التأسيسية التي تُبنى عليها كل المفارقات الأخرى. لا يتم تجاهل مشاكل المدينة، بل يتم الاعتراف بها علناً على أنها مجرد مُقدمات لحل وشيك ومجيد. هذا الإطار السردي يسمح بالتعبئة المستمرة للموارد، وإطلاق المشاريع الكبرى، وتراكم الديون، وكل ذلك تحت راية مستقبل لا يأتي أبداً.

أما المثال الأشهر لهذا الخطاب، فقد جاء على لسان مسؤول رفيع المستوى، أعلن في خضم أزمة اقتصادية خانقة قائلاً سنخرج من عنق الزجاجة قريباً! فأصبحت العبارة على الفور جزءاً من التراث الشعبي السياسي، واختصرت جوهر محنة المدينة. كان عنق الزجاجة استعارة بليغة، توحي بوجود عائق مؤقت ما إن تتم إزالته، حتى يتدفق الرخاء بحرية. ولكن بعد سنوات من هذا الإعلان، ما زال عنق الزجاجة قائماً. لقد كشف عن نفسه ليس كعقبة مؤقتة، بل كهيكل دائم لاقتصاد المدينة.

لقد تعلم مواطنو بارادوكسوبوليس تفسير هذه اللغة الرسمية من منظور مختلف. فعبارة الأيام القادمة ستكون أفضل تُفهم الآن على أنها استعدوا للمزيد من المعاناة. وجملة نحن نستثمر في مستقبلكم تُسمع وكأنها لقد مُنحت عقود جديدة للمقربين منا. وهذا الانهيار الجذري للثقة بين المُدراء والمُدارين هو السياق الحاسم لفهم أزمات المدينة المتعددة والمتناسلة ذاتياً. إنها ليست مجرد مدينة تواجه تحديات، بل هي دراسة حالة في الفشل البنيوي، حيث أصبحت الآليات المصممة لتحقيق التقدم أدوات للانحدار. وهذا ما رأيته على شكل اضمحلال مُتناقض: النسيج الاجتماعي والاقتصادي، ووهم البنية التحتية، وأزمة رأس المال البشري، والانهيار البيئي، رسمت في مخيلتي صورة شاملة لمدينة عالقة في حلقة مفرغة من صنع يديها.

المعضلة الاجتماعية والاقتصادية – شبكات أمان منظمة وفقر متجذر

يكمن التناقض الأكثر فداحة في بارادوكسوبوليس في نهجها تجاه الرعاية الاجتماعية. فالمدينة تمتلك، على الورق، شبكة أمان اجتماعي مُتقنة ومحكمة البناء. هناك برامج لإعانات الفقراء، ودعم الغذاء، وتحويلات نقدية مباشرة للأسر الأقل حظاً. وكثيراً ما يستشهدُ المسؤولون بإنشاء هذا النظام كدليل على حكمهم الرحيم والتقدمي. لكن الواقع الصارخ في الشوارع يروي قصة مختلفة: أعداد الفقراء لا تتناقص، بل في ازدياد مطرد، ويزداد عدد نباشو القمامة باضطرادٍ مُستمر. ويُمكنني تفكيك هذه المفارقة إلى عدة عوامل مساهمة:

أولاً) وهم الكفاية: على الرغم من وجود شبكة الأمان، فإن الدعم الذي تقدمه غير كافٍ بشكل مزمن. فالتضخم الجامح، الذي تغذيه الإدارة الاقتصادية السيئة والاعتماد على الواردات باهظة الثمن، يلتهم قيمة التحويلات النقدية بمجرد صرفها. فالمبلغ المخصص لإعالة أسرة لمدة شهر قد لا يكفي لتغطية ضروريات أسبوع واحد. وبالتالي، لا يعمل النظام على انتشال الناس من الفقر، بل على مأسسته وإدارته عند مستوى الكفاف، أو أقل.

ثانياً) التخبط وانعدام الكفاءة: تعاني آليات التوزيع من التخبط والترهل البيروقراطي. يتم تسريب جزء كبير من الأموال المخصصة لشبكة الأمان إلى رواتب وتكاليف إدارية. وغالباً ما تكون عملية التأهل للحصول على المساعدة معقدة وغامضة عن قصد، ومحسوبية لا ييتمكن منها الفقراء.

ثالثاً) فخ الإعالة: تم تصميم النظام لتعزيز التبعية، وليس التمكين. فهو لا يقدم أي مسارات نحو الاكتفاء الذاتي. لا توجد برامج تدريب مهني هادفة مرتبطة بالإعانات، ولا دعم للمشاريع الصغيرة، ولا استثمار في القطاعات التي يمكن أن توفر عمالة مستقرة. لقد خلقت شبكة الأمان عن غير قصد طبقة دنيا دائمة تعتمد على المدينة، وهو وضع مفيد سياسياً للمدراء الذين يمكنهم ضمان الولاء من خلال توزيع الفتات.

رابعاً) التفكك الاقتصادي: شبكة الأمان الاجتماعي هي إجراء تلطيفي لمرض عُضال. فالقضية الجوهرية هي انهيار الاقتصاد الإنتاجي للمدينة. فمع فشل الزراعة وركود الصناعات، يتم إقصاء المزيد من الناس من الاقتصاد الرسمي ليسقطوا في صفوف الفقراء. وشبكة الأمان هنا أشبه بدلو يحاول إفراغ سفينة تغرق؛ فمعدل نمو الفقر الجديد يفوق بكثير قدرة النظام على توفير إغاثة حقيقية.

وهنا يبدو وعد الخروج من عنق الزجاجة بأنه فارغ بشكل خاص في هذا السياق. وبالنسبة للجماهير الفقيرة في المدينة، لا يوجد عنق زجاجة، بل هناك فقط مساحة شاسعة من اليأس الاقتصادي. وشبكة الأمان، التي كان من المفترض أن تكون طوق نجاة، أصبحت قيداً يرسّخ الفقراء في حالة من الهشاشة الدائمة، بينما يوفر لحكومة المدينة غطاءً سياسياً بأنها فعلت شيئاً!

وهم البنية التحتية – صروح الفشل

بارادوكسوبوليس هي مدينة المشاريع الضخمة والنتائج البائسة. يمتلئ المشهد بالأدلة المادية على استثمارات هائلة، لكن الخدمات التي كان من المفترض أن توفرها هذه الاستثمارات تتدهور باستمرار. ويتجلى هذا بوضوح في مجالين حيويين: إمدادات المياه والبنية التحتية الصحية.

المياه والعطش العظيم: في مواجهة النقص المزمن في المياه، شرعت حكومة المدينة في استراتيجية طموحة ومكلفة، تضمنت اقتراض مبالغ طائلة من المقرضين الدوليين لبناء سدود وخزانات ومحطات تحلية مياه جديدة. وتم التبشير بهذه المشاريع باعتبارها الحل النهائي لمعضلة المياه في المدينة. لكن المفارقة مذهلة؛ فعلى الرغم من اكتمال هذه البنى التحتية المليارية، فإن متوسط الأسر لا يحصل على المياه إلا مرة واحدة في الأسبوع.

أسباب هذا الفشل المريع هي صورة مصغرة لخلل المدينة الوظيفي:

سوء إدارة التوزيع: كان التركيز مُنصباً على بناء مصادر جديدة، بينما تم تجاهل شبكة التوزيع القديمة التي تعاني من التسريب. فتشير بعض التقديرات إلى أن حجم الفاقد من مياه المدينة كبير جداً، عبر الأنابيب المتسربة قبل أن تصل إلى أي صنبور.

الفساد في الإنشاءات: مُنحت عقود المشاريع لشركات ذات نفوذ سياسي استخدمت مواد دون المستوى المطلوب وتجاوزت معايير الجودة، ما أدى إلى قصور هيكلي وتكاليف صيانة أعلى من المتوقع. بقيت الديون، لكن الإنتاج الموعود لم يتحقق قط.

غياب التخطيط المتكامل: لم يتم دمج المشاريع ضمن استراتيجية أوسع للحفاظ على المياه أو إدارة النمو السكاني. ومع استمرار تزايد السكان، سرعان ما استُهلكت المكاسب الهامشية في الإمداد، لتعود المدينة إلى حالة العجز الدائم.

بالنسبة للمواطنين، فإن السدود الضخمة في الأفق ليست رموزاً للتقدم، بل هي صروح لعطشهم ومستقبل مدينتهم الضائع، الذي يُسدد ثمنه من الديون التي سيرثها أطفالهم.

الصحة: مبانٍ بلا شفاء: تكرر سيناريو مماثل في قطاع الرعاية الصحية. تضاعف عدد المستشفيات والعيادات في بارادوكسوبوليس على مدى العقدين الماضيين. وتم افتتاح مبانٍ جديدة ولامعة للمستشفيات وسط احتفالات كبرى. ومع ذلك، وبكل المقاييس الهادفة، تدهورت خدمات الصحة العامة.

هجرة الأدمغة: بينما يمكن للمدينة بناء الهياكل، فإنها لا تستطيع الاحتفاظ بالمواهب. فالأطباء والممرضون والفنيون المؤهلون، المحبطون من الأجور المتدنية وظروف العمل السيئة ونقص الإمدادات الأساسية، هاجروا بأعداد كبيرة. وغالباً ما تكون المستشفيات الجديدة مزودة بموظفين غير مؤهلين أو محبطين.

أزمة رأس المال البشري – متعلمون، عاطلون، ومضللون

تتعلق المفارقة الأعمق والأكثر مأساوية في بارادوكسوبوليس برأس مالها البشري. لقد اتبعت المدينة بقوة سياسات لتوسيع التعليم وافتخرت تاريخياً بالاكتفاء الذاتي الزراعي لشعبها. اليوم، هي تفشل على كلا الجبهتين، مما يخلق شعباً يحمل مؤهلات فائضة ويعاني من بطالة متفشية، بينما يصبح معتمداً بشكلٍ خطير على أعدائه لتأمين قوته الأساسي.

دوامة التعليم والبطالة: تضاعف عدد الجامعات في بارادوكسوبوليس ثلاث مرات. وأصبحت الشهادة الجامعية هي القاعدة المتوقعة لشباب المدينة. كما أن الإنفاق السنوي على ميزانية التعليم في أعلى مستوياته على الإطلاق. لكن نتيجة هذا الاستثمار الهائل كانت عكسية: فقد ارتفعت معدلات البطالة، خاصة بين الخريجين الشباب، بشكل صاروخي.

الكمية مقابل الجودة: ركز التوسع في التعليم العالي على الكمية، وليس الجودة. تم إنشاء جامعات جديدة كـ مصانع شهادات، تنتج خريجين بشهادات ذات قيمة سوقية ضئيلة. غالباً ما تكون المناهج قديمة ونظرية، وتفشل في تزويد الطلاب بالمهارات العملية اللازمة في الاقتصاد الحديث.

الركود الاقتصادي: فشل الاقتصاد في خلق الوظائف ذات المهارات العالية اللازمة لاستيعاب هؤلاء الخريجين. وهو ما يخلق عدم توافق بين المهارات والوظائف على نطاق واسع. فيجد جحافل من الشباب الحاصلين على شهادات في الهندسة والقانون وإدارة الأعمال أنفسهم إما عاطلين عن العمل أو يعملون في وظائف خدمية منخفضة الأجر، لا تتطلب مؤهلاتهم. وهذا يولد إحباطاً وخيبة أمل اجتماعية عميقة.

الإنفاق مقابل الجهل: لم تُترجم الزيادة في الإنفاق على التعليم إلى شعب أكثر استنارة أو تفكيراً نقدياً. ذهب الإنفاق إلى حد كبير إلى الترهل الإداري والإنشاءات، وليس لتحسين جودة المعلمين أو أساليب التدريس. ومرة ثانية ألاحظ ما لاحظته في مُدنٍ قريبة أخرى، حيث يؤكد النظام التعليمي على الحفظ والتلقين على حساب التحليل النقدي. ومن المفارقات، في عصر المعلومات والتعليم الشامل، أن المجتمع أصبح أكثر عرضة للمعلومات المضللة ونظريات المؤامرة والخطاب المثير للانقسام. لقد انتشر الجهل ليس كنقص في المعلومات، بل لعدم القدرة على معالجتها بشكل نقدي، وهو فشل مباشر للنظام التعليمي الذي كان من المفترض أن يمنعه.

من الاكتفاء الذاتي إلى الضعف الاستراتيجي: وهنا يوجد الرمز الأكثر إيلاماً لانحدار المدينة في حقولها. فالأراضي الخصبة المحيطة بـ بارادوكسوبوليس، التي كانت تطعم شعبها وتوفر سبلَ عيشٍ كريمة، أصبحت الآن بوراً إلى حدٍ كبير. لقد تم التخلي عن التقاليد الزراعية، حيث:

الإهمال والزحف العمراني: فضلت سياسات المدينة لعقودٍ طويلة التنمية الحضرية والواردات الرخيصة على دعم المزارعين المحليين. وأدت ندرة المياه، التي تفاقمت بسبب المشاريع العملاقة الفاشلة، إلى جعل الزراعة غير مجدية للكثيرين. وتم تجريف الأراضي الزراعية المنتجة لإقامة مشاريع عقارية للمضاربة.

إغراء المدينة: هجرت أجيال من الشباب الأرض من أجل وعدٍ بحياة عصرية ووظيفة مكتبية في المدينة—تلك الوظائف ذاتها التي فشلت في التحقق الآن.

الثمن النهائي: النتيجة هي فشل استراتيجي كارثي. حيث تعتمد بارادوكسوبوليس الآن على واردات الغذاء لإطعام سكانها. وفي تطور قاسٍ للقدر، يأتي جزء كبير من هذه الواردات من مُدن مجاورة تربطها بالمدينة علاقات عدائية. لقد أصبح أمنها الغذائي رهينة في أيدي أعدائها. ويمثل هذا التحول أكثر من مجرد فشل اقتصادي؛ إنه فشل حضاري— قطع للصلة بالأرض، وفقدان تام للبصيرة والاعتماد على الذات.

إن سكان بارادوكسوبوليس عالقون في مأزق مأساوي: يُطلب منهم أن يتعلموا من أجل وظائف غير موجودة، بينما أصبح العمل المنتج الذي كان يعيل أجدادهم مستحيلاً بسبب السياسات العقيمة التي سُنت باسم التقدم.

وباء الدكتوراه وعبادة الألقاب:

لعل تجويف رأس المال البشري لا يتجلى في أي مكان بوضوح أكثر مما هو عليه في قمة الهرم الأكاديمي. لقد ارتفع عدد حاملي درجة الدكتوراه في بارادوكسوبوليس بشكل أسي خلال العقد الماضي. ولكن هذا التضخم الأكاديمي قابله، خطوة بخطوة، صعود مذهل في التفاهة الفكرية. فالأطروحات العلمية، التي كانت يوماً ما مُحركات محتملة للابتكار، تركز الآن بشكل متكرر على مواضيع شديدة التخصص وغامضة لا تمت بصلة لأزمات المدينة الملحة. والهدف ليس توليد المعرفة، بل سك لقب الدكتور، وهو أسمى الألقاب الأكاديمية.

هذه الظاهرة هي عَرَضٌ لمرضٍ ثقافي أعمق: هوس على مستوى المدينة بالألقاب التشريفية. فالناس مولعون بشكل استثنائي بالألقاب، التي تستخدم كدروع ضد المساءلة وبدائل للكفاءة. فالمسؤول هو صاحب المعالي، بغض النظر عن مستوى أدائه. والشخصية العامة هي شخصية سامقة، بغض النظر عن قاماتها الحقيقية. والأكاديمي هو دكتور بغض النظر عن مساهمته. اللقب في حد ذاته هو الإنجاز. وهكذا، فإن بارادوكسوبوليس هي مدينة يمكنك أن تجد فيها دكتوراً في التخطيط الحضري يمتدح طريقاً جديداً لا يؤدي إلى أي مكان، ودكتوراً في الاقتصاد يُبرر سياسات تزيد من عمق الفقر. إن انتشار الألقاب لا يخدم إلا إخفاء انتشار التفاهة (Mediocrity)، بكل ما فيها من معنى.

بارادوكسوبوليس هي أكثر من مجرد مدينة تواجه مشاكل. إنها مدينة أصبحت مشاكلها بنيوية ومترابطة وتعزز بعضها بعضاً. كل سياسة فاشلة تغذي الأخرى، وهو ما يخلق دوامة هبوط يصعب للغاية الهروب منها. تعاني المدينة من "متلازمة التدهور البنيوي"، التي تتميز بعدة سمات رئيسية:

أولاً) المؤسسات الجوفاء: تمتلك المدينة كل مظاهر الدولة الحديثة الفاعلة؛ شبكة أمان اجتماعي، وقسم للبيئة، وجامعات، ومستشفيات. ومع ذلك، فإن هذه المؤسسات هي هياكل فارغة. إنها موجودة كبنى بيروقراطية لكنها تفتقر إلى الموارد والسلطة والكفاءة والإرادة للوفاء. ويتم التستر على هذا الفراغ بالألقاب الفخمة لقادتها، مما يخلق وهماً بالأداء الوظيفي.

ثانيأ) سيادة الخطاب على الواقع: يتستثمر أغنياء المدينة ومُدرائها طاقة هائلة في صياغة روايات النجاح أكثر من تحقيق النجاح الفعلي. لقد حلت العلاقات العامة محل الإدارة العامة. وهذا يخلق هوة عميقة من اليأس تجعل العمل الجماعي والمشاركة المدنية شبه مستحيلة.

ثالثاً) تمزق العقد الاجتماعي: لاحظت هذه الظاهرة مرات كثيرة في المُدن المُجاورة، وفيها يرى المواطنون مدينة تأخذ مواردهم (من خلال الضرائب والديون) وتفشل في توفير الخدمات الأساسية كالمياه والصرف الصحي والتعليم والأمن. يرون فساداً مستشرياً ونخبة سياسية تعمل بحصانة، وتتباهى بألقاب تسخر من أدائها الفعلي. ورداً على ذلك، يسحب أهل المدينة ثقتهم من المدينة، مما يؤدي إلى ظواهر كالتهرب الضريبي، ووصلات المياه غير القانونية، وإلقاء القمامة، وهجرة الأدمغة لأكثر الأفراد كفاءة.

رابعاً) قِصَر النظر في السياسات والانحراف الاستراتيجي: يركز مديرو المدينة على المشاريع قصيرة الأجل والظاهرة للعيان (بناء مستشفى) بدلاً من الحلول طويلة الأجل والمعقدة (إصلاح النظام الصحي). أي لا توجد رؤية شاملة. والتخلي عن الزراعة لصالح الاعتماد المحفوف بالمخاطر على الاستيراد هو الدليل الأسمى على هذا الانحراف الاستراتيجي. إنها مدينة تعيش من أجل الحاضر، بينما ترهن مستقبلها وتعرضه للخطر بشكل فعال.

إن انتشار القمامة في الشوارع، على الرغم من وجود قسم للبيئة، هو ربما الاستعارة الأنسب لحال بارادوكسوبوليس. إنه تذكير يومي ومرئي بفشل المدينة. إنه يوضح أن أبسط وظائف الحياة المدنية قد انهارت. القمامة هي التجسيد المادي للوعود الكاذبة، والنفقات المهدرة، والاضمحلال المتجذر.

في جوهرها، تُعرَّف بارادوكسوبوليس بأنها مدينة انتصار الشكل على المضمون. فلقب الدكتور أهم من المعرفة؛ ولقب المعالي أثمن من التفوق؛ وحفل قص الشريط لمشروع ما أهم من تشغيله الفعلي على المدى الطويل.

السؤال الذي كررته عدة مرات، عن المُدن الأخرى التي زرتها خلال الكابوس الذي عشته: هل يمكن كسر هذه الحلقة؟ إن عكس مسار انحدار بارادوكسوبوليس سيتطلب أكثر من مجرد سياسات جديدة أو زيادة في الإنفاق. سيتطلب تغييراً جذرياً إبداعياً: استعادة المساءلة، واستئصال الفساد، وصياغة عقد اجتماعي جديد قائم على الحقيقة والنتائج الملموسة بدلاً من الوعود الفارغة والألقاب التي لا معنى لها. سيتطلب مدراء لديهم الشجاعة للاعتراف بأن عنق الزجاجة هو النظام نفسه، وأن الأيام الأفضل لن تأتي إلا عندما يتم إعادة بناء الهيكل المختل بأكمله بشكل جذري. حتى ذلك الحين، ستبقى بارادوكسوبوليس مدينة المفارقات القاسية، على شفا غدٍ لا يأتي أبداً.

كانت آخر كلمة قالها الجني المُرافق: يا سيدي: العاقلُ يرى الكارثةَ قبلَ وقوعِها، والأحمقُ لا يراها إلا بعدَ حلولِها. فالأولُ يقرأُ النذيرَ في هدوءِ العاصفة، والثاني لا يدركُ الغرقَ إلا في عُمقِ الماء. فالحكمةُ بصيرةٌ تستشفُ العواقبَ في مُقدّماتِها. والغفلةُ حسرةٌ لا تعرفُ الحقيقةَ إلا من بينِ الأنقاض.

*المصدر: جو٢٤ | jo24.net
اخبار الاردن على مدار الساعة

حقوق التأليف والنشر © 2025 موقع كل يوم

عنوان: Armenia, 8041, Yerevan
Nor Nork 3st Micro-District,

هاتف:

البريد الإلكتروني: admin@klyoum.com