التاريخ يعيد نفسه "بين بغداد وغزة"
klyoum.com
أخر اخبار الاردن:
الصناعة والتجارة : أكثر من 100 مخالفة بحق مخابر خلال 9 أشهريبدو أن مشاهد الأمس لا تفارق حاضرنا، وأن التاريخ يطل علينا بوجهه من جديد، يذكرنا بأن دروسه لم تقرأ بعد، وأن أخطاء الماضي قابلة للتكرار متى غاب الوعي أو استدرجت الأمة إلى أوهام السلام، ففي كل حجر من شوارع بغداد القديمة، يمكن استشعار صدى الأيام المأساوية، حيث تتكرر خيبات الأمة على شكل وجوه جديدة وأسماء مختلفة، لكن بنفس المآسي السياسية.
في بغداد، وقبل قرون، ارتكبت مأساة كبرى حين أوهم الوزير "ابن العلقمي" الخليفة العباسي بوعود الأمان والتسوية مع المغول، بينما كان في الواقع يمهد الطريق لسقوط العاصمة تحت أقدامهم، فكان السلام في ظاهره، لكنه حمل في باطنه الدمار والخراب والموت، ومجازر اهلكت حياة مئات الآلاف وتركت أثراً لا يمحى في الوعي الجماعي للأمة، ودرس بليغ عن خطورة الثقة بوعود لمن يملك القوة، أو من يسحق تقرير المصير على حساب الحقوق المشروعة، ذلك درس يترجم اليوم في كل زاوية من غزة المحاصرة.
اليوم وبعد قرون، تتكرر المشاهد بصيغ مختلفة، وإن بلباس دبلوماسي أنيق وعبارات براقة عن السلام والحياد، فالمبادرة التي تطرح على الساحة اليوم باسم السلام الشامل والعادل، تحمل شعارات تبعث على الاطمئنان، لكنها غالباً تخفي توجيه المسار لصالح الطرف الأقوى، وفي بعض الحالات، تقدم طروحات مزركشة وكأنها تمنح فرصة ذهبية للسلام، بينما تهيئ في الواقع "الأرضية" لتثبيت مكتسبات الطرف القوي، وإلقاء مسؤولية الرفض على الطرف الأقل قدرة.
الوعود التي تقدم للفلسطينيين من أهل غزة ، لا تختلف كثيرا عن وعود "ابن العلقمي" لبغداد فهي غالباً بلا سند واقعي ، ولا قدرة على التنفيذ ، وقد تتحول إلى وسيلة لفرض شروط أكثر قساوة ، وإعادة رسم الواقع بما يخدم مصالح القوى الكبرى وحلفائها ، وكما كان التتار الفاعل المادي في الماضي ، تبقى القوى الكبرى اليوم الفاعل الحقيقي ، إذ تتحرك وفق مصالح استراتيجية بعيدة عن حماية المدنيين أو احترام إرادة الشعوب.
غزة اليوم ، وفي هذا السياق ، تظهر كمثال حي على الواقع الصعب ، (مدينة محاصرة ومجتمع منهك) ، أمام خيار قاس بين الاستسلام لخطة للسلام المفروض ، أو المواجهة على أرضها ، او المزيد من القتل والذبح والتنكيل ، فالمبادرة الأخيرة ، بما فيها التعديلات على خطة ترامب ، أعطت قوة إضافية للطرف الأقوى، وجعلت الحلول المطروحة أقل تمثيلاً للحقوق الفلسطينية وأكثر قدرة على تثبيت مكتسبات إسرائيل ، والصورة الرسمية التي تسوق للرأي العام الدولي ، وكأن الطرف الفلسطيني هو "المتعنت" ، بينما تخفي أن السلام الذي يفرض ليس اتفاقاً متوازناً ، بل لتبييض وجه الطرف الأقوى ومحاولة لإضفاء شرعية على مكتسباته ، وإضعاف الموقف الفلسطيني والعربي.
غزة اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة، بل رمزاً لإرادة أمة بأكملها ، وهي مرآة لوعي شعوب بأكملها، وأي رهان على وعود غير قابلة للتحقق، مهما علق عليها شعار "السلام"، قد يؤدي إلى تكرار مأساة سابقة على نحو أشد قسوة ، اذ ان الوعي بتاريخ الماضي وفهم حدود الوساطات ووعود السلام الزائفة هو الحصن الأخير الذي يحمي من الانزلاق في فخ الكارثة، وهو ما يميز غزة عن المدن التي سبق أن سقطت تحت وعود مزيفة.
التاريخ ليس مجرد سرد لحكايات الماضي ، إنه بوصلة للعقل الجمعي ومفتاح لفهم حاضرنا ، فدرس بغداد واضح ، فلا تصدقوا الوعود إذا كانت مجرد واجهة لتصفية مصالح الآخرين ، لذلك وفي هذا السياق، تظهر أهمية قراءة المبادراة السياسية الحالية بمنظار واع ، وفهم أن الصورة الرسمية التي تقدم للعالم قد تخفي مصالح أطراف محددة أكثر من كونها حلولاً حقيقية .
غزة تقف أمام مفترق طرق ، فإما أن تصمد على وعيها، وتقرأ دروس التاريخ جيداً ، أو أن تقع فريسة لوعود تسوق على أنها سلام بينما هي في جوهرها إعادة ترتيب للواقع بما يخدم القوى الأقوى ، فالتاريخ، كما يقولون، يعيد نفسه مع من لم يستفد منه، ووعي الشعوب هو ما يحول دون تكرار المأساة.
غزة اليوم تبدو مغلوباً على أمرها، في مواجهة خيارين قاسيين ، البقاء أمام العدوان ومواجهة المزيد من الدمار والموت ، أو الاستسلام لما يسوق كحل سلمي، بينما هو في جوهره اتفاق مفروض يعزز مكاسب الطرف الأقوى ، فالتعديلات الأخيرة "بتوقيع نتيناهو" زادت من قوته على حساب الموقف العربي ، وجعلت من اي موقف رافض لهذه الخطة ، يبدو أمام الرأي العام الدولي وكأنه تعنت، بينما الحقيقة هي أن السلام لا يقدم من منطلق العدالة، بل من منطلق فرض القوة والمصالح.
وعي العرب ومراجعتهم لخطة السلام "بعد التعديل" ليس مجرد رفض ، بل إنه إعلان استراتيجي أن الحقوق لا تجير لصالح الاقوى ، وأن القوة لا تمنح الشرعية للظالمين ، فغزة ليست مجرد ساحة صراع، بل مرآة لتاريخ يعيد نفسه، ودروسها تحدد مصير القضية الفلسطينية، وتكشف للعالم الفرق بين شعارات السلام وما يفرض بالقوة على الأرض.
كل خطوة تخطى اليوم تحمل دلالات تاريخية وسياسية، وكل مراجعة لخطط السلام "المفروض" هو درع ضد إعادة إنتاج مأساة بغداد ، وإن فهم هذه الحقيقة، واستيعاب الدروس، هو ما قد يحمي القضية الفلسطينية من أن تصبح مجرد حكاية أخرى عن وعود لم تتحقق وماس أعيدت من الماضي إلى الحاضر.
والله غالب امره