وحدة البصائر السلوكية في رئاسة الوزراء
klyoum.com
أخر اخبار الاردن:
الروابدة يرعى حفل تكريم الموظف المثالي في مدينة السلطفي عالمٍ تتسارع فيه التغيّرات وتتضاعف تعقيدات المشهدين الاجتماعي والاقتصادي، باتت الحكومات بحاجة إلى أدواتٍ جديدة تساعدها على فهم سلوك الأفراد والجماعات، وتصميم سياساتٍ أكثر قربًا من الواقع وأعمق تأثيرًا في حياة الناس. ومن هنا تبرز فكرة إنشاء وحدة البصائر السلوكية في رئاسة الوزراء كخطوة استراتيجية يمكن أن تغيّر أسلوب صناعة القرار الحكومي، وتنقل السياسات من إطارها النظري إلى مستوى التطبيق الفعّال. وليست هذه الفكرة ترفًا تنظيريًا، إذ يوجد في أكثر من مئة دولة وحدات مماثلة أثبتت فاعليتها.
البصائر السلوكية هي ثمرة التقاء علوم النفس، والاقتصاد السلوكي، والاجتماع، والتصميم الحكومي. وجوهرها بسيط بقدر ما هو عميق: فهم كيف يفكر الناس ويتخذون قراراتهم اليومية، ثم توظيف هذا الفهم في تصميم سياسات وتشريعات واقعية تحاكي حياة المواطنين وتستجيب لدوافعهم الحقيقية.
لقد أثبتت هذه المقاربة نجاحها في دولٍ عديدة؛ إذ كانت المملكة المتحدة السباقة عالميًا بإنشاء أول Nudge Unit في مكتب رئاسة الوزراء عام 2010، وهي الوحدة المعروفة رسميًا باسم Behavioural Insights Team (BIT). ومنذ ذلك الحين، تبنّت دول أخرى النماذج نفسها مثل سنغافورة وكندا والإمارات وقطر والسعودية، وحققت نتائج ملموسة في مجالات حيوية، شملت خفض هدر الطاقة والمياه، وزيادة معدلات التطعيم، وتعزيز ثقافة الادخار المالي، ورفع الالتزام بالقوانين والخدمات العامة. هذه النجاحات جعلت من البصائر السلوكية أداةً معتمدة عالميًا لتصميم سياسات أكثر فاعلية واستدام’ وفي كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية تم افتتاح وحدة متخصصة "مختبر دبي للبصائر السلوكية".
تكمن قوة الفكرة في أن تكون هذه الوحدة تحت مظلة رئاسة الوزراء مباشرة، لا كإدارة فرعية في وزارة محدودة الاختصاص:
• أولًا، لأن البصائر السلوكية ليست قطاعًا منفصلًا، بل أداة تفكير شاملة تمس الصحة والتعليم، والبيئة والمالية والنقل وسائر القطاعات.
• ثانيًا، لأن موقعها في قلب القرار يضمن التكامل بين الوزارات، ويمنحها القدرة على تقييم السياسات من منظور سلوكي قبل إقرارها، لا بعد تنفيذها.
• ثالثًا، لأنها ستكون بيت خبرة وطنيًا يوفّر بيانات وتجارب مختبرية تختصر الوقت والتكلفة على الأجهزة الحكومية كافة، وتغنيها عن التجريب العشوائي.
يمكن للوحدة المقترحة أن تبدأ بمهام واضحة وملموسة، منها:
• تشخيص السلوكيات التي تعيق تنفيذ السياسات أو تزيد كلفة الخدمات العامة، مثل الإفراط في طلب فحوصات الرنين المغناطيسي أو ارتفاع استهلاك الطاقة.
• تصميم تدخلات تجريبية تعتمد على الأدلة العلمية، كتحسين نماذج الطلب، أو إعادة صياغة الرسائل الحكومية، أو تعديل بيئة اتخاذ القرار لدى المواطنين.
• إجراء تقييم دوري باستخدام مؤشرات سلوكية دقيقة، للتأكد من أن الحلول لا تعالج الأعراض فقط، بل تصل إلى جذور المشكلة وتمنع تكرارها.
إن إنشاء «وحدة البصائر السلوكية في رئاسة الوزراء» لا يعني إضافة طبقة بيروقراطية جديدة، بل يمثل تحولًا في طريقة التفكير وصناعة القرار، فهي تمنح صانعي السياسات قدرةً على استشراف التحديات قبل أن تتحول إلى أزمات، وتتيح لهم تصميم حلول ذكية تستند إلى الدليل العلمي لا إلى الحدس أو ردّات الفعل المتأخرة.
إنها دعوة إلى إدخال العلم السلوكي إلى "قلب الحوكمة"، بحيث يصبح فهم سلوك المجتمع جزءًا أصيلًا من عملية صياغة القوانين والسياسات، لا مجرد استشارة لاحقة. وعند تحقق ذلك، يمكن القول إن الحكومة قد انتقلت من منطق ردّ الفعل إلى منطق صناعة الفعل، فأصبحت أقرب إلى الناس، وأكثر كفاءة في إدارة الموارد، وأقدر على تحقيق تنمية مستدامة ترسّخ ثقة المواطن وتواكب تحديات المستقبل.
* مستشار التدريب والتطوير - كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية