الأردن… بين حفظ السلام وكرامة الموقف
klyoum.com
أخر اخبار الاردن:
بركة: قانون إعدام الأسرى الإسرائيلي تجسيد للكراهية والعنصرية عاجلالأردن… بين حفظ السلام وكرامة الموقف
زياد فرحان المجالي
في السياسة كما في الجغرافيا، لا يحتاج الأردن إلى أن يرفع صوته ليُسمع؛ يكفي أن يتكلم بصدقٍ ليُصغي إليه الجميع.
وفي زمنٍ ازدحم بالخطابات المتناقضة، كان صوت الملك عبدالله الثاني كأنه ضميرٌ ناطق للعقل العربي، يضع النقاط فوق حروفٍ تتلاعب بها كثير من القوى، حين قال بوضوحٍ أمام العالم:
> "لن نرسل قوات إلى غزة، لأننا قريبون من التطورات هناك."
جملة قصيرة، لكنها تحمل فلسفة دولةٍ تعرف أين تقف، وكيف تحافظ على توازنها وسط نارٍ مشتعلة بين الشرق والغرب.
إنها ليست نأيًا عن الميدان، بل تأكيدٌ على أن الموقف المبدئي لا يُقاس بعدد البنادق، بل بقدرة القرار على أن يبقى حرًا، نظيفًا، لا خاضعًا لأحد.
الموقف الثالث… لا مع الحرب ولا مع الوهم
منذ اندلاع حرب غزة، تحركت عواصم كثيرة بين التأييد الصامت والمناورة العلنية.
أما عمّان، فاختارت طريقًا ثالثًا — طريقًا يصعب على الآخرين سلوكه:
حفظ الكرامة دون الانجرار، والمشاركة دون الارتهان.
وحين طُرحت خطة ترامب الأخيرة التي تحدّثت عن إرسال قوات عربية لحفظ "السلام” في غزة، قال الملك ما لا يجرؤ كثيرون على قوله:
> "هناك فرق بين فرض السلام وحفظه."
بهذه الجملة الموجزة، أسقط جلالته ورقة التوت عن مشاريع التدخل المبطّنة التي أرادت أن تجعل من بعض الدول أدواتٍ لتنفيذ تصوّرٍ أجنبيٍّ لمستقبل القطاع.
فالأردن يعرف معنى أن تُفرض الوصاية على أرضٍ ليست لك، ويعرف أن السلام الذي يُفرض بالسلاح هو هدنة بين احتلالين، لا بين شعبين.
رؤية الملك… واقعية العارف وكرامة الحارس
حين تحدّث الملك عن تدريب قوات الشرطة الفلسطينية، لم يكن يُقدّم اقتراحًا عابرًا بل كان يرسم خريطة طريق حقيقية لما يمكن أن يكون عليه الأمن الوطني الفلسطيني بعد الحرب.
قالها بوضوح: الأردن ومصر مستعدان لتدريب هذه القوات ودعمها، لكنّ الدور ليس أن "نجوب غزة في دوريات مسلّحة”.
بهذا الموقف، فرّق الملك بين الدعم والتدخّل، بين الشراكة والوصاية.
إنها رؤية قائدٍ يعرف أن الدم العربي لا يُراق إلّا في سبيل الحق، لا في سبيل خطط الآخرين.
فالأردن كان وما يزال يرى أن غزة شأنٌ فلسطينيٌّ تُصان بيد أبنائها، وأن الدور العربي يجب أن يكون داعمًا، لا بديلًا عنهم.
ولذلك جاء الموقف الملكي ليغلق الباب أمام كل محاولة لاستغلال اسم "السلام” لتثبيت واقع الاحتلال بلباسٍ جديد.
الملك، وهو الأقرب إلى النبض الفلسطيني، يدرك أن فرض الحلول من الخارج ينزع الشرعية من الداخل، وأن الأردن لا يمكن أن يكون شاهد زورٍ على تسويةٍ تُقصي أصحاب الأرض.
رانيا… الوجه الإنساني للموقف
وفي مقابلةٍ متزامنة، جاءت كلمات الملكة رانيا لتُضيء الجانب الآخر من الصورة: الضمير الإنساني الذي لا يُساوم على الحقيقة.
قالتها بصدقٍ إنساني نادر:
> "هل تتخيل ماذا يعني أن تكون والدًا خلال العامين الماضيين في غزة؟ أن ترى أطفالك يعانون وأنت عاجز عن فعل أي شيء، والعالم كله يشاهد؟"
كانت كلماتها امتدادًا لصوتٍ مكمّلٍ لصوت الملك، لا منفصل عنه: صوتٌ يرى في الأمل شكلًا من أشكال التحدي.
أشادت بالرئيس ترامب لأنه استخدم الضغط الأميركي للجم العدوان، لكنها لم تُخفِ استياءها من صمت العالم.
وفي هذا التوازن بين الاعتراف والمساءلة، يتجلى الموقف الأردني مرةً أخرى: لا تبعية ولا قطيعة، بل حوارٌ صادق مع الجميع من أجل الحق.
الملكة تحدّثت كأمٍّ ترى ما يراه كل والدٍ عربي حين ينظر إلى صور أطفال غزة، وكإنسانةٍ تُذكّر العالم بأن السياسة بلا وجدانٍ تتحول إلى تبريرٍ للجريمة.
كلماتها ليست "تعاطفًا عابرًا”، بل بيان إنساني يوازي في عمقه الموقف السياسي للملك.
الأردن الثالث… سياسةٌ تُشرق من الضمير
بهذا المزيج من الصرامة والعقلانية والرحمة، يقدّم الأردن ما يمكن تسميته "الموقف الثالث" في زمن الاستقطاب:
ليس جزءًا من معسكر الحرب، ولا تابعًا لمزاج الهدنة الزائفة، بل دولةٌ تقف عند خطٍ مستقيمٍ من التاريخ والكرامة.
تقول الحقيقة للغرب من دون عداء، وتخاطب الشرق من دون خوف، وتضع مصلحة الأمة فوق كل مزايدات الشعارات.
وحين يتحدث الملك عن "قرب الأردن من التطورات في غزة"، فالقرب هنا ليس جغرافيًا فحسب، بل سياسيٌّ وأخلاقيٌّ وتاريخيٌّ.
فالأردن كان أول من حمل جرح فلسطين على كتفيه، وأول من صان مقدساتها، وأول من دفع ثمن مواقفه استقلالًا، لكنه لم يتراجع.
هو يعرف متى يصمت لئلا يزايد، ومتى يتكلم لئلا يُفهم الصمت ضعفًا.
---
بين الواقعية والريادة
في عالمٍ تتقاطع فيه المصالح مع المبادئ، يثبت الأردن أن الواقعية لا تعني التخلي عن الأخلاق.
لقد أثبت الملك عبدالله الثاني أن الموقف يمكن أن يكون حازمًا دون أن يكون صداميًا، وأن الحياد يمكن أن يكون فعلاً شجاعًا لا انسحابًا جبانًا.
أما الملكة رانيا فقد أعادت إلى المشهد السياسي وجهه الإنساني الذي غاب في زحام الدم.
معًا، يقدمان للأردن صورته الثالثة: لا دولة صغيرة تبحث عن مكانٍ بين الكبار، بل دولة كبيرة تُذكّر الكبار بمعنى الإنسان.
الأردن… ضوء لا يساوم
في زمنٍ تتبدّل فيه المواقف كما تتبدّل العواصم، يبقى الأردن ثابتًا في موقعه، ينحاز إلى الإنسان قبل السياسة، وإلى الحق قبل الحسابات.
ولذلك، لم يكن رفض إرسال القوات إلى غزة انسحابًا من المشهد، بل رسالةً بليغة إلى من أرادوا تحويل العرب إلى أدوات تنفيذٍ لا شركاء قرار:
نحن نحفظ السلام… لا نفرضه.
نحن نساند الفلسطينيين… لا نحلّ مكانهم.
ونحن، كما قال الملك مرارًا، لا نخاف إلا الله، وفي ظهرنا الأردني.