اخبار الاردن

جو٢٤

سياسة

أطفال غزّة: أليس كلّهم "مريم أنيس"؟! #عاجل

أطفال غزّة: أليس كلّهم "مريم أنيس"؟! #عاجل

klyoum.com

أطفال غزّة: أليس كلّهم "مريم أنيس"؟! #عاجل

كتب: كمال ميرزا

بالنسبة لأي شخص ما يزال يحتفظ بالحدّ الأدنى من إنسانيّته وفطرته وحسّه السليم، فإنّ حادثة وفاة الطفلة التونسيّة "مريم أنيس" هي حادثة مفجعة تفطر الفؤاد حتى وإن كنتَ غريباً يقطن على بعد آلاف الكيلومترات.. فما بالك لو كنتَ أمّها أو والدها أو شقيقتها أو شقيقها أو جدتها أو جدّها أو أحد أحبّتها المقرّبين؟

عندما تعقد العزم على الكتابة عن مثل هذه الفاجعة الأليمة فأنتَ مضطر لمكابدة عدّة صعوبات:

أولاً: أن تتجنّب ولو بينك وبين نفسك أن تكون ذلك المنافق الذي يحاول أن يستغلّ هذه الفاجعة كضرب من "التطهّر" والفضفضة والتنفيس، أو محاولة إقناع نفسك (أو الآخرين) بأنّك إنسان مرهف ورقيق وحسّاس ومهتم ومراعٍ وصاحب ضمير حيّ.

ثانياً: استنفاد قدرة الإقناع ومَلَكَة المنطق لديك للحفاظ على ما تتوسّمه في نفسك من إيمان واعتقاد ويقين واحتساب، ومنع نفسك من الانجرار وراء أفكار وانفعالات على غرار: لماذا ينبغي على طفلة صغيرة بريئة رقيقة مرهفة غير مميزة مرفوع عنها القلم أن تواجه مثل هذا المصير؟! وما هو ذنبها لتتعرض لكلّ هذا العذاب؟!

ثالثاً: أن تتجنب الظهور بمظهر الوغد الجلف المتنطّع المتفزلك المتفلسف متحجّر القلب والمشاعر عندما تحاول الحديث بـ "موضوعيّة" حول هذه الفاجعة التي فطرت قلوب الملايين، وتطرح سؤالاً مثل: وماذا عن أطفال غزّة، أليس كلّهم "مريم أنيس"؟!

ليست الفكرة من طرح هذا السؤال المفاضلة بين فاجعة وفاجعة، أو الانحياز لفاجعة دون فاجعة، أو وضع هذه مقابل تلك أو ضدّها!

الفاجعة هنا هي مفهوم "نوعيّ" مكتمل وأقصى منذ اللحظة الأولى ولا مجال فيه للمفاضلة أو التدرّج أو التراتبيّة "الكميّة" على طريقة فاجعة أهون من فاجعة، مُصاب أهون من مُصاب.

فاجعة موت الطفلة "مريم أنيس" تكافئ فاجعة موت أي طفل في غزّة، وفاجعة موت أي طفل في غزّة تكافئ فاجعة موت الطفلة "مريم أنيس".

الهدف من طرح السؤال هو مواجهة تلك الظاهرة الماثلة أمامنا، والتي نحن جميعاً جزء منها ومشاركون بشكل مباشرة وغير مباشر في إعادة إنتاجها.. وهي ظاهرة الحجم الكبير من الاهتمام والتأثّر والمتابعة الذي حظيت به فاجعة وفاة الطفلة "مريم"، قياساً إلى الاهتمام الذي ما نزال نبديه تجاه الفواجع اليوميّة التي ما انفكت وسائل الإعلام والاتصال تأتينا بأنبائها من غزّة.

ومثل أي "ظاهرة إنسانيّة" أخرى، فإنّنا هنا إزاء ظاهرة "مركّبة" متعدّدة العناصر والعوامل والأبعاد المتداخلة التي تتفاعل مع بعضها البعض، ولا يمكن أن نختزلها في عنصر أو عامل او بعد سببيّ خطيّ واحد على طريقة "إذا كان.. فإنّ"!

العامل الأول هنا هو عامل الزمن، وليس المقصود بالزمن تطاول الأمد على فواجع غزّة التي لم تنقطع منذ حوالي (630) يوماً، بل الأهم هو "آنيّة" و"طزاجة" فاجعة الطفلة "مريم".

وهذا بدوره يرتبط بمدى تغلغل ثقافة "الترند" في وجداننا، وكيف أنّنا بفعل نمط العيش السائد في ظلّ ثورة "الانفوميديا" و"السوشال ميديا" أصبحنا بمثابة كائنات افتراضيّة تمارس ذاتيّتها وإنسانيّتها عبر "الفضاء التواصليّ" الذي له "منطقه" و"شروطه" الخاصّة بمعزل عن العالم الحقيقيّ أو الواقعيّ وشروطه.

وفي الفضاء التواصليّ، فإنّ حجم الاهتمام والتأثّر بفاجعة موت الطفلة "مريم" أو غير "مريم"، أو طفل بغزّة أو غير غزّة.. هو رهن بمقدار قابليّة هذه "الواقعة" أو "القصة" بأن تصبح "ترنداً"، وهذا بدوره يقودنا إلى العامل الثاني وهو "التكراريّة" في مقابل "الفُرادة".

ففي غزّة، موت طفل تحت القصف أو برصاص العدو أو بسبب سوء التغذية هي "واقعة" مكرّرة ولها سوابق بغض النظر عن حيثيّاتها وتفاصيلها، في حين أن موت الطفلة "مريم" بالطريقة التي لاقت نحبها بها هي حادثة "متفرّدة" و"استثنائيّة" لم نشهد أو نألف مثلها من قبل.

العامل الثالث هو "التخصيص"؛ ففي حالة "مريم" نحن لسنا إزاء حادثة وفاة "طفلة"، هكذا، نكرة، بدون اسم، وبدون حتى ألف لام التعريف.. بل نحن إزاء حادثة وفاة "الطفلة مريم"، مُعرّفة، إنسان له كينوته وذاتيّته وخصوصيّته.

في حين أنّ غالبية الأنباء "والصور" التي تردنا من غزّة تتحدّث عن موت أطفال ورُضّع في قصف هنا وإطلاق نار هناك ضمن حصيلة يوميّة يُشار إليها غالباً بالأرقام (وما يسري على الأطفال هنا يسري على جميع ضحايا غزّة). وحتى عندما يتم إيراد الأسماء فإنّ ذلك يتم من خلال جداول توثيقيّة أرشيفيّة بأسماء الضحايا تعزّز من حالة "نزع الخصوصيّة" عن كلّ ضحيّة بذاتها باعتبارها مجرد بند في قائمة أو "ليسته"!

ويرتبط بعامل "التخصيص" عامل رابع هو "الكثافة"؛ ففي حالة "مريم" نحن إزاء شخص واحد نستطيع الحديث عنه باستفاضة وبتعمّق وبتفصيل ممّا يزيد من "خصوصيّة" الحالة، وبالتالي "فرادتها" فقابليّتها بأن تصبح "ترنداً".

أمّا في حالة غزّة، وفي ضوء كبر حجم الجرائم والمجازر، وفي ضوء الاستهداف المتعمّد والمقصود للصحفيين والناشطين، فإنّ وسائل الإعلام والتواصل عاجزة عن إعطاء كلّ "واقعة موت" خصوصيّتها وفرادتها حتى لو أرادت ذلك.

العامل الخامس هو "الدراما"؛ فمرّة أخرى في ظل نمط العيش الذي نحياه فإنّ وجداننا ومخيالنا قد بُرمِجا ونُمّطا للاستجابة والتفاعل والتماهي مع "المنحنى الدرامي" و"الحبكة الدراميّة" و"الأحداث الدراميّة" التي نشاهدها في المسلسلات والأفلام التي نتربّى عليها وندمن متابعتها منذ نعومة أظفارنا.

والجرعة الدراميّة التي تنضوي عليها "قصة" مكثّفة لها بطل مخصوص ومعرّف وتنضوي على حبكة متفرّدة مثل قصة "مريم".. أكبر كثيراً من الجرعة الدراميّة التي تنضوي عليها قصص متشظّية بأبطال كُثُر غير معروفين أو معرّفين يمرّون بنفس الحبكة المكرّرة.

العامل السادس والأهم والأخطر، أنّ الحامل الأساسيّ للجرائم والفواجع التي تأتي إلينا من غزّة هي "الصورة"، سواء الثابتة أو المتحرّكة.. والصورة كـ "حامل للرسالة"، والصورة كـ "لغة للتشفير"، والصورة كـ "أداة"، والصورة كـ "مستثير".. هي الأسوأ والأكثر قابليّة لجعل المتلقّي يسقط في الاعتياد والحياد والبرود و"التطبيع"!

مشكلة الصورة أشبه بـ "النيكوتين"؛ سهل وسريع وذو وقع آني ومباشر.. ولكنّك كمدخّن مدمن بحاجة إلى جرعة تصاعديّة من أجل إستثارة الاستجابة نفسها والأثر نفسه في كلّ مرّة!

فبعد السيجارة الأولى لا تعود سيجارة واحدة كافية، بل أنتَ بحاجة إلى سيجارتين اثنتين كي تحدثا الأثر نفسه الذي أحدثته السيجارة الأولى. وبعد السيجارة الثانية ستصبح بحاجة إلى ثلاث سجائر، وبعد الثالثة ستحتاج إلى رابعة.. وهكذا دواليك.

وبالمثل الصورة؛ فبعد الأثر الآنيّ الذي تحدثه لديك صورة ما، أنتَ بحاجة لأن تكون الجرعة التي تتضمّنها الصورة التالية أكبر وأقوى وأشدّ هولاً ورعباً ودمويّةً لكي تستثير لديك الأثر السابق نفسه.

أما إذا أتت الصورة التالية أقل "فداحةً" و"دراماتيكيّةً" فإنّها ستبهت في عينيك، ولن تستثير لديك الاستجابة وردّ الفعل المطلوبين، وستمرّ عليها باعتبارها صورةً عابرةً وعاديةً (ومن هنا التطبيع) مع أنّها ما تزال نظريّاً تنضوي على جريمة بشعة وفاجعة مكتملة!

من هنا مثلاً كان حرص العدو الصهيونيّ على ارتكاب جرائم كبرى في بدايات معركة "طوفان الأقصى" مثل قصف "المستشفى المعمدانيّ"، ليس فقط من أجل إرهاب خصومه وترويع أهل غزّة على الأرض، ولكن أيضاً من أجل "رفع الجرعة" بالنسبة للملايين والملايين الذين يشاهدون ويتابعون عبر الشاشات والسوشال ميديا، بحيث تبدو أي جريمة تالية يقترفها العدو صغيرةً وهينةً وعاديّةً طالما أنّها لم تتفوّق على الجرعة المفرطة التي تضمنتها جريمة المعمدانيّ!

في المقابل، من أسباب تفاعلنا الكبير من فاجعة وفاة الطفلة "مريم" أنّنا لم نرها ونرى تفاصيلها لحظةً بلحظةٍ عبر الصورة!

تخيّل لو كانت هناك لسبب ما كاميرا مثبّتة ومسلّطة على الطفلة "مريم" تبثّ بثّاً حيّاً ومباشراً منذ اللحظة الأولى لسحب التيارات المائية لها إلى عرض البحر، وصولاً إلى لحظة العثور عليها وقد فارقت الحياة.

في الساعات الأولى واليوم الأول كنّا سنتسمّر جميعاً أمام الشاشات.

وبحلول اليوم الثاني سيكون حماسنا وجَلَدنا على المتابعة قد فتر، فهذا يجب أن ينام، وهذا يجب أن يذهب إلى دوامه، وهذا يجب أن يقضي بعض شأنه.. إلخ.

وفي اليوم الثالث سيتوقف غالبيتنا عن المتابعة، وسنكتفي بانتظار الإشعارات لتنبّهنا في حال استجد شيء ما!

ولكن الذي حدث في حالة "مريم" أن الأنباء قد نقلت إلينا فقط خبر فقدانها، وصورتها الوحيدة التي تداولها الجميع.. أمّا بقية التفاصيل منذ تلك اللحظة وحتى لحظة العثور عليها بعد ثلاثة أيام فقد نسجناها نحن في خيالنا ووجداننا ومنولوجنا الداخليّ والأسئلة التي نوجّهها إلى أنفسنا:

يا ترى هل هي جائعة هذه اللحظة؟

يا ترى هل هي عطشى هذه اللحظة؟

كيف ستتحمّل يا حبّة عيني أشعة النفس؟

كيف ستتحمّل يا حبّة عيني برد الليل؟

هل هي مستيقظة؟

هل هي نائمة؟

هل هي مرعوبة؟

هل أنزل الله ملاكاً ليحرسها ويحميها ويمنحها الطمأنينة والسكينة لحين العثور عليها؟

هل سيلهم الله دلافيناً وديعة لتنقذها وتسوقها إلى برّ الأمان؟

إلى آخر الأسئلة التي يمكن أن يطرحها على نفسه إنسان حيّ متفاعل تتنازعه مشاعر الخوف والقلق والترقّب والأمل والرجاء!

الكلام أعلاه يمثّل في علم الاتصال الفرق بين ما يُسمّى التعاطف (sympathy)، والتقمّص الوجدانيّ (empathy).

التعاطف هو كعود الكبريت؛ يُشعل بسرعة ويتوهّج بشدّة وبحرارة عالية في لحظة، ولكنّه سرعان ما يبرد وينطفئ بأسرع مما اشتعل.

أمّا التعاطف الوجدانيّ فهو كقبس النار أو الجذوة التي تحتفظ بحرارتها وضيائها وتبقى متّقدة لأطول فترة ممكنة.

في عالم الاتصال والإعلام، الصورة هي "عود كبريت"، والكلمة المكتوبة أو المسموعة هي "جذوة".

وتستطيع هنا أن تقارن بنفسك، بين حدود الصورة التي يسمح العدو بتداولها لقتلاه وخسائره والدمار الذي يلحق به.. وبين دفق الصور الذي تصّر وسائل إعلامنا على إغراقنا به، ونصرّ نحن على تداوله ومشاركته، رغم الأثر العكسيّ والمثبّط والمُطبّع المترتب على ذلك!

مرّة أخرى،،

ليس الهدف من هذا الكلام هو التقليل من هول وفداحة موت الطفلة "مريم أنيس"، أو الاستهانة بمشاعر وانفعالات المتعاطفين مع قصتها، بالعكس، الهدف هو استخلاص ملاحظات واستبصارات ودروس ونتائج من هذه الفاجعة المؤلمة التي مسّتنا جميعاً، والاستفادة منها في تعاملنا مع فاجعة غزّة المستمرة والمتواصلة، وأشقاء وشقيقات "مريم" الذين ما يزالون يُقتّلون ويبادون بشكل يوميّ ممنهج حتى هذه اللحظة!

*المصدر: جو٢٤ | jo24.net
اخبار الاردن على مدار الساعة

حقوق التأليف والنشر © 2025 موقع كل يوم

عنوان: Armenia, 8041, Yerevan
Nor Nork 3st Micro-District,

هاتف:

البريد الإلكتروني: admin@klyoum.com