إسرائيل بين الإقالات والإنكار… جيشٌ ينهار ودولة تبحث عمّن يهرب بها من الحقيقة #عاجل
klyoum.com
أخر اخبار الاردن:
اتفاق أردني سوري لفتح قنوات التجارة لكافة السلع بداية العام المقبلإسرائيل بين الإقالات والإنكار… جيشٌ ينهار ودولة تبحث عمّن يهرب بها من الحقيقة #عاجل
كتب زياد فرحان المجالي في الأمسيات التي يظنُّ فيها العالم أن الحرب هدأت قليلًا، تشتعل إسرائيل من الداخل بصمتٍ لا تسمعه الصواريخ، بل تسمعه المؤسسات حين ترتجف. وحين تهتز الجيوش، لا يكون الاضطراب في حدودٍ أو جبهة، بل في الضمير الذي لم يعد قادرًا على حمل الرواية الرسمية. وفي تلك اللحظات، تبدو إسرائيل دولة لا تبحث عن الحقيقة، بل عمّن يتلقى الضربة بدلًا عنها. وبينما يتابع العالم معارك غزة، كانت هناك معركة أخرى، أخطر وأعمق، تدور داخل تل أبيب: معركة المسؤولية عن السابع من أكتوبر، اليوم الذي هزّ الدولة من جذورها، وكسر أسطورة الأمن التي بُنيت عليها كل عقود الردع الإسرائيلي.
وهذه ليست مجرد إقالات عسكرية، بل إعادة ترتيب للمشهد النفسي والسياسي والمهني داخل إسرائيل، ومحاولة لإنقاذ ما تبقى من "الثقة” بين الجيش والجمهور، في وقت تتآكل فيه هذه الثقة كما لم يحدث منذ عام 1973. لكن ما يحدث اليوم مختلف تمامًا. ففي 73 كانت إسرائيل أمام جيش فشل، وحكومة مرتبكة، وأجهزة أمن لم ترَ ما كان يجب أن يُرى. أمّا في 2023–2025، فإن المشهد أكثر تعقيدًا: جيش فشل، قيادة سياسية ترفض المحاسبة، مجتمع منقسم، وحرب طويلة لم تنتهِ، وصدمة استراتيجية لم تتعافَ منها المؤسسة الأمنية.
ومن هنا تبدأ القصة.
عندما أعلن رئيس الأركان أيال زمير سلسلة الإقالات، كان واضحًا أن الجيش يحاول إرغام نفسه على فتح الجرح الذي حاولت الحكومة إغلاقه بالشعارات والخطابات. فالإقالات لم تكن خطوة مهنية فحسب، بل كانت اعترافًا غير مباشر بأن الجيش فشل في مهمته الأساسية: حماية الحدود والاستخبارات والجاهزية العملياتية. إنها محاولة "لتنظيف المؤسسة من الداخل”، أو بالأحرى لإقناع الجمهور أن المؤسسة "تتحمل المسؤولية”، بينما السياسيون يختبئون خلف لجان شكلية ولغة تبريرية.
كانت هذه الإقالات بمثابة خريطة واضحة للمسؤولية: من القطاع الجنوبي إلى شعبة الاستخبارات إلى شعبة العمليات وقائد وحدة 8200. أي أنها طالت المفاصل التي كان يجب أن تقرأ المؤشرات، وأن ترفع الإنذار، وأن تستعد، وأن تتصرف في الساعات الأولى. ولكن الإقالات تفتح سؤالًا أكبر: هل هذه مسؤولية هؤلاء فقط؟ أم أن المسؤولية الأعمق تقع على من جلس على الطاولة السياسية، وتلقى التقارير، ورفض رفع مستوى الجاهزية كي لا "يستفزّ حماس” كما تسرّب في الصحافة العبرية؟
هنا يأتي موقف غادي إيزنكوت، رئيس الأركان السابق، الذي خرج أخيرًا ليقول ما لم يقله أحد داخل إسرائيل بصوت مرتفع: "المسؤولية لا يمكن نقلها… المسؤول الأول هو القيادة السياسية”. وهذه الجملة ليست بسيطة في السياق الإسرائيلي؛ فهي أول اعتراف علني من شخصية رفيعة بأن نتنياهو ليس فقط فشل في إدارة الملف، بل يتحمّل المسؤولية القانونية والسياسية والأخلاقية عن الفضيحة الأمنية الأكثر خطورة في تاريخ إسرائيل.
لكن ما يعمّق الأزمة هو اتساع الصدع بين الجيش والحكومة. فالجيش يريد لجنة تحقيق "مستقلة” أو "مهنية” أو "وطنية”، بينما الحكومة ترفض لجنة "ملكية” لأن صلاحياتها تمتد لتصل إلى نتنياهو نفسه. وهنا يبدأ التفسير السياسي للملف: نتنياهو لا يمكنه السماح بلجنة قد تنتهي بإسقاطه، أو على الأقل وضعه في واجهة الاتهام. ولهذا، بدأ اللعب على الوقت، وتفريغ أي لجنة من صلاحياتها، وتعميم خطاب أن "المجتمع منقسم” وأن "اللجنة ستزيد الانقسام”، وهي حجج تُستخدم فقط حين يخشى السياسي من الحقيقة.
أمّا داخل الجيش، فالمشهد لا يقل قسوة. فإقالة قائد المنطقة الجنوبية، وقائد ألوية غزة، ورئيس شعبة الاستخبارات السابق، ورئيس شعبة العمليات السابق، وقائد وحدة 8200، تعكس حجم الانهيار المهني. وعندما يرفض ضباط كبار المثول أمام رئيس الأركان للتوضيح أو الاستماع، فذلك يعني أن الثقة بين المؤسسة والقيادة وصلت إلى مستوى خطير، وأن الجيش يعيش أزمة "شرعية داخلية”، لا مجرد أزمة أداء.
بل إن بعض الضباط قالوا صراحة إن رئيس الأركان نفسه كان في مواقع مسؤولية قبل الهجوم، وإنه لا يمكنه "التحقيق وهو متورط”. هذه ليست كلمات عابرة؛ إنها إشارة إلى أزمة قيادة كاملة. فالمؤسسة التي كانت تقدّم نفسها كأكثر الجيوش انضباطًا وتنظيمًا في المنطقة، أصبحت اليوم تعاني من صراع داخلي حول: من المسؤول؟ وكيف نواصل الحرب؟ وهل يمكن لهذا الجيش أن يقود المرحلة المقبلة دون إصلاح جذري؟
والمفارقة أن لجنة تروغمان نفسها كشفت أن الجيش تعامل مع خطة "حومة يريحو” — الخطة الهجومية لحماس — بطريقة أقرب إلى الاستهتار، وأن المعلومات الاستخبارية لم تُربط معًا، وأن مستوى الإنذار لم يُرفع، وأن الحدود تُركت مكشوفة رغم المؤشرات. هذه النقاط وحدها تكفي لإسقاط حكومة كاملة في دول أخرى. لكن في إسرائيل، جرى الاكتفاء بإقالات في الجيش، بينما ظلّت القيادة السياسية في مقاعدها، تهرب من المساءلة، وتتهم الآخرين، وتستخدم الحرب كغطاء للاستمرار.
ومع ذلك، فإن كل هذه التفاصيل ليست سوى جزء من الصورة الأكبر: إسرائيل، لأول مرة منذ عقود، تواجه انهيارًا في روايتها الأمنية أمام نفسها قبل أن تواجهه أمام العرب. فالجيش الذي كان "لا يُقهر”، سقط في يوم واحد. والمؤسسة التي كانت تتباهى بتفوقها الاستخباري، كشفت أنها فقدت القدرة على قراءة العدو. والمجتمع الذي اعتاد على الثقة المطلقة بالجيش، بدأ يشكّ في جدوى القيادات، وفي صدقية الحكومة، وفي معنى "الأمن” نفسه.
من وجهة نظر عربية، هذا ليس مجرد شقّ في جدار الخصم، بل هو انهيار في الأساس الذي قامت عليه القوة الإسرائيلية منذ 1948: أسطورة الردع والجاهزية والتفوّق. فالسابع من أكتوبر لم يضرب إسرائيل عسكريًا فقط، بل ضرب سرديتها، وفتح الباب لنقاش داخلي حول ما إذا كانت إسرائيل تمتلك أصلًا القدرة على منع هجوم استراتيجي آخر. وهذه الأسئلة لا تزعج الجيش فقط، بل تزعج المجتمع كله.
وفي الخلفية، هناك حرب مستمرة في غزة تستنزف الجيش، وانقسام داخلي، وتراجع اقتصادي، واحتجاجات الأسرى والمستوطنين، وصراع سياسي بين أحزاب اليمين، وضعف القيادة، وتزايد الأصوات التي تطالب بانتخابات مبكرة. وفي وسط كل هذا، تأتي الإقالات لتؤكد أن الدولة ليست فقط في حرب مع غزة، بل في حرب مع نفسها.
من منظور عربي، نحن أمام لحظة نادرة: إسرائيل التي طالما ظهرت موحّدة في الحروب، تبدو اليوم متصدعة، وتتنازعها لجان التحقيق، وتتصارع فيها المؤسسات، وتُلقى المسؤولية بين الجيش والحكومة، بينما الحقيقة واحدة: الدولة فشلت، والجهاز السياسي هرب، والجيش دفع الثمن. وهذه لحظة يجب قراءتها جيدًا لأنها لا تتكرر كثيرًا في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي.
فما يحدث الآن ليس مجرد "محاسبة داخلية”، بل تفكك تدريجي في العقد الأخلاقي بين المجتمع الإسرائيلي ومؤسساته، وهذا ما لا تستطيع أي دولة، مهما كانت قوتها، أن تستمر بدونه. وقد يكون السابع من أكتوبر بداية مرحلة جديدة في إسرائيل، مرحلة تراجع الثقة والانقسام والانكشاف، وهي اللحظة التي ينتظرها كل من عرف أن القوة لا تصنع دولة إذا انهار داخلها الشعور بالثبات.
إسرائيل اليوم لا تبحث عن الحقيقة… إنها تبحث عن من يتحملها. والجيش الذي كان يفاخر بأنه "حامي الدولة”، أصبح هو نفسه يبحث عمّن يحميه من السياسة. وفي هذا الفراغ، ينشأ السؤال الأكبر: هل تستطيع إسرائيل أن تعود كما كانت؟ أم أن السابع من أكتوبر ليس مجرد حدث… بل بداية السقوط البطيء؟