اخبار اليمن

شبكة الأمة برس

ثقافة وفن

للكاتب السعودي مقبول العلوي : "تدريبات شاقة على الاستغناء".. قصص تكشف خفايا الذوات البشرية

للكاتب السعودي مقبول العلوي : "تدريبات شاقة على الاستغناء".. قصص تكشف خفايا الذوات البشرية

klyoum.com

كه يلان محمد*

من المعروف أن القصة القصيرة نوع أدبي لا يتحمل الاستغراق في الوصف والزخرف الكلامي، لأنه فن الالتقاط السريع والتمكن من صياغة واضحة والكشف عن جينات النص مع الحركة الأولى لعدسة السرد. إذ لا تخرج الحكاية بأكملها من حزام الحدث ومدار الشخصية. وبذلك تأخذ اللغة منحى تَجرُّديا مخففة من الصور البيانية. وتعتمد الصياغة على التلميح والإيحاء بدلا من التصريح والتفصيل، وهذا ما يزيد من زخم السرد ورشاقته.

هذه المواصفات في آلية كتابة القصة القصيرة تضفي إليها مرونة لمتابعة الظواهر التي تداهم الواقع كما تفتح مجالا لاستبطان الهواجس التي تضج بها أنفاق الوعي واللاوعي البشري. ما إن يكونَ الحديث عن سخرية القدر وهشاشة الطبيعة الإنسانية حتى يذكر قصة “عاصمة الدنيا” لهمنغواي ومصير بطله البائس الذي يدفع روحه ثمنا لتقمص شخصية مصارع الثيران، كذلك يذهب الذهن إلى العجوز عند الجسر التي رسم إرنست همنغواي في سياقها معاناة رجل طاعن في السن وقدره الغامض خلال احتدام المعارك بين الجمهوريين والفاشيين لفهم عبثية الحرب. كما أن قصة “زعبلاوي” لنجيب محفوظ تكثف رحلة الإنسان وبحثه المتوج بالخيبة عن الخلود.

أن تُعَدَّ القصة القصيرة منطقة للاستراحة بالنسبة إلى الكاتب الروائي، فذلك ليس انتقاصا من قيمتها الفنية بل هو تأكيد على أن العودة إلى هذا الفن ضرورية لتجديد دماء اللغة والمران على الركض في المساحة المحدودة. بعد أن تفوق في كتابة الرواية ونجحَ في جولات متتالية بعناوينه الذائعة الصيت “زرياب” و”البدوي الصغير” يغامر الكاتب السعودي مقبول العلوي بالتحرك في ملعب القصة القصيرة إذ صدرت له أخيرا مجموعة قصصية بعنوان “تدريبات شاقة على الاستغناء” عن دار هاشيت أنطوان.

ومن الملاحظ أن العلوي يؤثر البساطة في التناول والوضوح في الصياغة، ولا يستهويه اللعب على الوتر الكابوسي في التعبير كما لا تهمه المراوغات الرمزية في بناء معجمه الدلالي، وهذا لا يعني بأن اللغة تتوقف عند وظيفتها الأداتية والتبليغية، بل كل ما في الأمر أن الكاتب يفك غلاف التورية والترميز من السلسلة التي ينتظم عليها شريط القصص. ما ينبسط في سياق المواد القصصية يغطي جملة من الظواهر الاجتماعية والسلوكيات الكاشفة عن الانفعالات النفسية وما يتبعها من الخواء. كما ترى ذلك في قصة “زعيرات الشماعين”، فيعود التاجر، وهو راوي الأحداث، إلى دياره خالي الوفاض راضيا بالإياب غنيمة بعدما قد صحا من سكرة الأجواء المعربدة.

كشف النفوس

لا يفوت القارئ إدراك مبدأ التكافؤ بين الشخصية والحدث في تشكيلة مقبول العلوي. فالمحرك في قصة “الواقفون على عتبات البهجة” ليس إلا شخصية المدرس عبدالمجيد، فيسرد الراوي ما يسود الفصول الدراسية من الشعور بالرتابة والملل إلى درجة يتوهم فيها الجميع بأن عقارب الساعة تعاقبهم بحركتها الثقيلة لكن يتبدل المناخ حين يجرب عبدالمجيد العزف على آلة الكمان ويحل المرح مكان الوجوم والتجهم، تحوم ألحان لمقطوعات غنائية في الفضاء ولا يحفل أحد بالصوت الذي يزاحم سحر النغم صادحا “الموسيقى حرام يا أستاذ”، فقد غابت وطأة الزمن عن المكان مع استرسال عبد المجيد في العزف مضيفا أغنية “أبعاد” لمحمد عبده إلى صولته الموسيقية.

لكن هذه الاستراحة الفنية لا تستمر فسرعان ما يشوبها كابوس المدير معلنا بصرخة نهاية الدوام ولا ينتهي الأمر بذلك إنما ينقل الأستاذ عبدالمجيد تأديبا إلى مدرسة نائية. وهذا ما أثار الشعور بالاستياء لدى الطلبة الذين تباينت ردود أفعالهم بين البكاء والتسابق لمصافحة الأستاذ المغادر ومعانقته. ويعود الملل في الأيام الموالية إلى المكان المحاصر بالجدران الإسمنتية.

تحيل فكرة القصة إلى ما قاله آرى دي لوكا بأن الفكر يتحول إلى طينة في الفم إن لم تتعمد بماء الأغاني.

يبرز الكاتب في قصة “سردية قصيرة لوداع مبكر” التي يذكر عنوانها برواية بيتر هاندكه “رسالة قصيرة للوداع الطويل” الاختلاف بين شخصيات من أرومة واحدة، فكان والد الراوي لا يهمه سوى موقعه الاجتماعي وألا ينافسه أحد في لقب شيخ التجار. فيما العم يتظاهر بأنه يحترم ما يحظى به شقيقه من اهتمام، لكن الحقيقة أبعد ما يكون عن ذلك.

يفتتح الراوي السرد بالإشارة إلى الحدث الكاشف عن شخصية العم غير المقيد بالمتواضع عليه فلولا نفوذ أخيه كبير تجار مكة لربما حكمَ عليه بأن يمضي شوطا طويلا من عمره في سجن القلعة، لأنه ضبط معاقرا مشروبا داكنا مع أصدقائه. غير أن هذا ليس كل ما يسرده ابن الأخ عن عمه، والغريب في الموضوع أن جميعَ أفراد القبيلة ومعظم أهالي مكة يرحبون بشقيق كبير تجار مكة على الرغم مما ذاع عنه من تناوله للمشروب الجديد. وقد توسلَ الوالد بإقامة الولائم واستضافة التجار والمجالس الشعرية للهروب من الملل، لكن أخاه الصغير أنشأ لنفسه عالما من القصص والكتب التي اقتناها من مكتبات مكة والمدينة كما حصل على بعضها من الحجاج القادمين من بلاد الشام ومصر.

أكثر ما جذب الراوي إلى عمه هو ما كان يسرده من القصص مع أن الوالد لم يعجبه أن ينساقَ ابنه إلى غواية حكايات عمه. تنتهي حياة العم قبل أن يبرم معه الشقيق الكبير اتفاقا يقضي بأن يتركَ منصب كبير تجار مكة لابنه. ويهاجرَ إلى مدينة جدة.

نجح الكاتب في الإبانة عن وجه التباين بين الأخوين من خلال ما تسمعه على لسان الراوي الذي لا تغادره ذكريات الفقيد ويواصل على زيارة مدفنه. وما يقوله في الختام بأن هناك جوانب أكثرَ أهمية وعذوبة غير أن ذلك يفوت الأغلبية من البشر.

لعل بيت القصيد في حزمة القصص المنتظمة في هذه المساحة السردية لن يكون إلا قصة “المؤتمر الأدبي” إذ يفضح فيها التفسخ الثقافي والقيمي، وتروي كيف يصعد نجم كاتب على أكتاف ما يكتبه أحد أصدقائه وينتحل المادة لنفسه مع إجراء تعديلات طفيفة، لكن ما يقوض مشروعه ويرفع الغطاء عن عقله الملوث هو سؤال صاحب النص الأصلي للمنتحل عن رأيه بشأن نصوص إحسان عبدالقدوس وأمل دنقل؟ وما من المتحذلق إلا أن أجاب بما يثير موجة من السخرية الحادة، إذ أشار إلى كل من الاسمين بضمير الإناث والأسوأ هو الحديث عن لقائه بالأديبتين قبل فترة واقترح عليهما الحضور في المؤتمر.

الأحداث والواقع

ثيمة القصة تقوم على إسقاط الأقنعة من على واقع أصبحت فيه الظواهر المزرية بمثابة حقائق بديلة.

ما يحسب لفنيات القصة أنها مزيج من الفكاهة والشدة في النقد. ربما القصة القصيرة مناسبة لمعالجة هذه المواضيع أكثر من الأجناس الأدبية الأخرى، زيادة على ما سبقَ ذكره آنفا تتوارد الآراء في سياق القصة عن تحديات الكتابة الروائية وما يعيشه الكاتب بعد نجاح أي عمل ينشر له من المشاعر المختلطة، ومن ثم يمرر العلوي معلومات تقود المتلقي إلى السؤال عن مدى التطابق بين ما يسرده الراوي من الأحداث وتجربته الواقعية مع الوسط الثقافي والنماذج المضَللة.

من الملاحظ أن العلوي يؤثر البساطة في التناول

والوضوح في الصياغة، ولا يستهويه اللعب على الوتر الكابوسي

وينحو السرد في “تدريبات شاقة على الاستغناء” منحى رومانسيا مشبوبا بالعواطف الجياشة فنقرأ عن وجود امرأة تلبس الجينز ولا تمانع من تدخين السيجارة، تصدم سيكولوجية المراهقة في البيئات المتحفظة إذ تنساق إحدى الشخصيات وراء تهويماتها عن الأرملة التي لا تشبه أهالي المنطقة في ذوقها الموسيقى وتأثيث واجهة البيت وتزيينها بحاويات النبات. فبعد ثلاثة أيام من الحديث بين الراوي وصديقه سعود عن المرأة الفاتنة. يسمع قاطنو المنطقة جلبة وأصواتا إلى أن يتبين بأن المرأة تكيل ضربات لشخص ملثم، ولم يكن هذا غير صديق الراوي سعود.

أما قصة ديستوبيا القرى المعزولة فتكشف عن التحولات التي تشهدها جغرافية الأمكنة مع تتابع تيار الزمن وفي قصة “يوم عصيب في حياة آنيسة ريم” يظهر التماهي مع المكان والحنين إلى تفاصيل الحياة اليومية. وتتغلغل نفحات رومانسية في “أمثولة الذاكرة الهشة وهواجسها” إذ يستبطن راوي كلي العلم سرائر الشخصية الأساسية ولا يكون مسرح الحدث سوى عيادة الطبيب هناك تتجدد مشاعر أحد المرضى عندما يرى موظفة الاستقبال. لا يخلو النص من البعد النفسي والتلميح إلى رغبة الإنسان لمقاومة النهاية وبوادر الشيخوخة بالبحث عن الحب.

ويسرد الراوي في “صندوق جدي القديم” قصته مع ألف ليلة وليلة كما يختم العلوي مجموعته بقصة “خمسون ريالا” تدور حول ثيمة الحب والوفاء، مع أنه يخيل إليك للوهلة الأولى أن النص يضيء تكوين شخصية شباب اليوم.

*كاتب عراقي

*المصدر: شبكة الأمة برس | thenationpress.net
اخبار اليمن على مدار الساعة