اخبار اليمن

الثورة نت

سياسة

هندسة التوحش.. كيف عادت غزة عقدين إلى الوراء بتواطؤ عربي وضوء أمريكي؟

هندسة التوحش.. كيف عادت غزة عقدين إلى الوراء بتواطؤ عربي وضوء أمريكي؟

klyoum.com

في الوقت الذي أطلقت فيه وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) نداء استغاثة دوّى صداه في الأروقة الأممية، محذرة من أن الواقع المعيشي في قطاع غزة قد انحدر زمنياً بما يزيد عن عشرين عاماً، تتكشف خيوط مؤامرة تتجاوز حدود الدمار المادي لتصل إلى محاولة كيّ الوعي وإعادة تشكيل الجغرافيا والديموغرافيا الفلسطينية بالنار. هذا التدهور المريع، الذي وصفته الوكالة بأنه عودة قسرية إلى ظروف معيشية بدائية، لا يمكن قراءته بمعزل عن سياق عامين من الإبادة الممنهجة التي مارسها كيان الاحتلال الإسرائيلي، مستنداً إلى ترسانة من الحقد الأيديولوجي وغطاء سياسي أمريكي مطلق.

الثورة / يحيى الربيعي

وتشير القراءات المعمقة للمشهد، استناداً إلى وقائع الميدان وتحليلات مراكز الدراسات الاستراتيجية المواكبة للحدث، إلى أن ما حذرت منه «أونروا» هو النتيجة الحتمية لاستراتيجية «الأرض المحروقة» التي اعتمدتها حكومة الاحتلال عندما أيقنت فشلها العسكري في مواجهة المقاومة. فعلى مدار أشهر العدوان، ورغم التوصل إلى اتفاقيات لوقف إطلاق النار – كان آخرها في العاشر من أكتوبر الماضي – ظلت أداة التفاوض الإسرائيلية الرئيسية هي «استمرار جرائم الإبادة والدمار الشامل والحصار الخانق» بحد ذاته.

وتؤكد الشواهد التاريخية القريبة، بما في ذلك مجريات الهدن السابقة في مطلع عام 2025، أن الاحتلال يستغل الدقائق الأخيرة قبل أي تهدئة، وحتى فترات السريان، لمراكمة المزيد من الجرائم، حيث تشير البيانات إلى أن جيش الاحتلال، وبدعم أمريكي وأوروبي، ارتكب جرائم إبادة أسفرت عن استشهاد 70,654 مدنياً فلسطينياً وإصابة أكثر من 171,030 آخرين، في حصيلة دامية تعكس رغبة محمومة في القتل لمجرد أن الفرصة سانحة.

وبالنظر إلى الخلفيات النفسية والسياسية لهذا السلوك، يظهر أن حكومة الاحتلال، التي استماتت لمواصلة جرائم حربها العدوانية المتوحشة، وجدت نفسها أمام مأزق استراتيجي؛ فقد فشلت في تحرير أسراها بالقوة، وعجزت عن القضاء على حركة حماس أو تفكيك بنية المقاومة التي ظلت القوة الأكثر تنظيماً في القطاع، رغم تدمير ما يزيد 82% من مقومات البقاء في قطاع غزة من بنية تحتية عامة ومساكن وأسواق.

وأمام هذا الفشل المركب، وعجزها عن إيجاد «عملاء» محليين لإدارة القطاع سوى بعض العصابات المنفلتة، لجأ قادة الكيان إلى خيار «الإبادة الشاملة» كبديل عن النصر العسكري المستحيل. وتتقاطع هذه الرؤية مع تقديرات بحثية رصينة تشير إلى أن نية الإبادة لدى قادة الاحتلال تتغذى من ثلاثة منابع رئيسية: نظرة عنصرية فوقية ترى في الفلسطينيين «فائضاً بشرياً» يجب التخلص منه، ورغبة جامحة في الانتقام الجماعي، وشعور عميق ومزمن بعدم الأمان يدفعهم لشيطنة الآخر ونزع الصفة الإنسانية عنه لتبرير حرقه وتجويعه.

ويبدو التماهي الأمريكي مع هذا التوحش المحرك الأساسي لاستمرار المأساة؛ إذ يشعر صناع القرار في «تل أبيب» بحصانة تامة توفرها واشنطن، التي لم تكتفِ بالدعم العسكري، بل تبنّت السردية الصهيونية بالكامل، ووفرت الغطاء الدبلوماسي اللازم لارتكاب المجازر تحت شعار «الدفاع عن النفس». هذا التحالف الوثيق، الذي وصفه محللون بأنه شراكة في الجريمة، سمح للاحتلال باختبار أسلحة الدمار الشامل على أجساد الأطفال، وتدمير مقومات الحياة بشكل يجعل من «العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر» حلماً بعيد المنال، وهو الهدف الذي أجمع عليه اليمين الإسرائيلي المتطرف: «جعل غزة مكاناً غير قابل للحياة».

وفي سياق متصل، يكشف الواقع الميداني عن أهداف خبيثة لما بعد الإبادة؛ حيث يسعى الاحتلال، من خلال تدمير «أونروا» وخنق عملها، إلى إنهاء قضية اللاجئين عملياً، والتمهيد لفرض إدارة محلية بمشاركة عربية شكلية وتحت إشراف أمني إسرائيلي صارم. وتأتي دعوة «أونروا» لرفع القيود عن المساعدات في وقت يمارس فيه جيش الاحتلال خروقات يومية للاتفاق، مانعاً دخول شريان الحياة من مستلزمات إغاثة والغذاء والدواء، في محاولة لابتزاز الحاضنة الشعبية للمقاومة ودفع السكان نحو خيارات يائسة، تتراوح بين الموت جوعاً أو القبول بالوصاية الصهيونية التي لا تقضي بأقل من تهجير الفلسطينيين من أرضهم طواعية أو قسراً.

إلا أن الرياح لم تجرِ تماماً كما تشتهي سفن الاحتلال؛ فصمود المقاومة الأسطوري وظهور مقاتليها من بين الركام، أعاق تنفيذ المخطط في صورته النهائية، وأفسد الترتيبات الإقليمية التي كانت الولايات المتحدة تسعى لفرضها. ورغم فداحة الثمن الذي يدفعه الغزيون، والضفة الغربية التي تئن تحت وطأة الاستيطان والقمع، فإن المعادلة الصفرية لا تزال قائمة: فـ»إسرائيل» الغارقة في «مأزق القوة» لم تستطع تحويل تدميرها الوحشي إلى مكسب سياسي مستدام، وظلت عاجزة عن فرض تصورها لـ «اليوم التالي» دون إبادة الشعب الفلسطيني، وهو ما يضع المنطقة برمتها أمام سيناريوهات مفتوحة، تتراوح بين استمرار حرب الاستنزاف طويلة الأمد، أو فرض معادلات جديدة تعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية التي أريد لها أن تُدفن تحت أنقاض غزة.

الفصل العنصري الجديد..»غيتوات» أمريكية

وفي سياق التدمير الممنهج الذي دفع بالقطاع إلى الوراء عقوداً، يتكشف الوجه الحقيقي للمخطط اللاحق للعدوان الذي ترعاه الولايات المتحدة، وهو مخطط لا يقل خطورة عن الإبادة الجماعية ذاتها. فقد حذّر المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان من الخطة الأمريكية المتداولة، التي تتجاوز حدود الترتيبات الأمنية المؤقتة لتدخل في نطاق إعادة هندسة ديموغرافية وجغرافية تكرّس واقعاً من السيطرة العسكرية الدائمة، وتقوّض بصورة خطيرة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

ويوضح الأورومتوسطي، في بيان مدوٍ، أن هذه الخطة التي تُدار عبر مركز التنسيق المدني–العسكري الأمريكي، تقوم على تقسيم قطاع غزة إلى كتل سكانية معزولة عن بعضها البعض؛ حيث تقسم الأرض إلى منطقة حمراء تضم غالبية السكان، ومنطقة خضراء بنسبة 53% تُوضع تحت السيطرة العسكرية الإسرائيلية الكاملة وتنتشر فيها مجموعات مسلحة موالية للاحتلال.

ويفصل بين المنطقتين خط أصفر ذو طابع عسكري، يُستخدم كحدّ ميداني لسياسة إطلاق النار بقصد القتل، وقد جرى دفعه فعلياً على الأرض لضمّ المزيد من الأراضي.

إن الخطر الجسيم الكامن في هذا المخطط يكمن في أنه لا يهدف إلى تنظيم حركة السكان فحسب، بل يعمل على خلق بيئة قسرية تهدف إلى التهجير القسري المحظور بموجب القانون الدولي الإنساني.

فمن خلال تضييق الخناق على السكان في المنطقة الحمراء، وربط الخدمات الأساسية والحماية النسبية بالموافقة على الانتقال إلى مناطق محددة داخل المنطقة الخضراء، يتم سلب أي طابع اختياري لهذا التنقل.

ويزداد المشهد قتامة مع الكشف عن نية الخطة إنشاء «مدن» من الكرفانات السكنية تحوي كل واحدة منها نحو 25 ألف نسمة ضمن مساحة ضيقة لا تتجاوز كيلومتراً مربعاً واحداً، وتُحاط بأسوار ونقاط تفتيش، مما يحولها فعلياً إلى معسكرات احتجاز مكتظة، ويجسد بذلك نموذج «الغيتوات» التي عرفتها الأنظمة الاستعمارية والعنصرية في أسوأ فصول التاريخ.

وليس هذا فحسب، بل تنطوي هذه الخطة أيضاً على استيلاء غير مشروع ونهب منظم للموارد؛ إذ تتقاطع مع مساعي الكيان الإسرائيلي لفرض سيطرة كاملة على الشريط الساحلي لغزة، بما في ذلك مناطق الصيد وحقول الغاز، في تحدٍّ صريح للمبدأ المستقر في القانون الدولي حول السيادة الدائمة للشعوب على ثرواتها الطبيعية.

وفي إدانة مباشرة للدور الأمريكي، يشدد المرصد الأورومتوسطي على أن الولايات المتحدة لا تتحرك هنا كوسيط نزيه، بل كطرف فاعل يشارك في تصميم هندسة ميدانية-سياسية تُرَسِّخ واقع الاحتلال والضم الفعلي تحت غطاء ترتيبات أمنية وإنسانية زائفة، مما يعرضها لشبهة التواطؤ في انتهاكات جسيمة تشمل النقل القسري للسكان.

إن هذه الخطة تمثل ذروة الانحدار في السياسة الدولية، حيث تحوّل الحقوق المكفولة بموجب القانون الدولي إلى مجرد امتيازات مشروطة قابلة للسحب التعسفي، مما يؤكد الحاجة الملحة إلى إنهاء الاحتلال كشرط لا يقبل التجزئة لأي حل أو إدارة مؤقتة ذات شرعية.

المقاومة تحذّر من «غيتوات» ترامب وحصار الغاز الخانق

وبالتوازي مع تكشف أبعاد مخطط التفتيت الجغرافي الذي ترعاه واشنطن، ارتفعت أصوات فصائل المقاومة الفلسطينية مُعلنةً رفضها القاطع لأي محاولات لفرض الوصاية على القطاع.

ففي كلمة حاسمة خلال مؤتمر «العهد للقدس»، أكد رئيس حركة حماس في الخارج، خالد مشعل، رفضه الصريح لـ «كل أشكال الوصاية على قطاع غزة»، مشدداً على أن «الفلسطيني هو من يحكم نفسه».

وتأتي هذه التصريحات لترسخ الموقف الوطني الموحد ضد محاولات الاحتلال وداعميه هندسة إدارة جديدة للقطاع تتجاوز إرادة الشعب الفلسطيني.

وأشار مشعل إلى أن الصورة الأقسى من حرب الإبادة قد توقفت مؤقتاً، لكنّ التجويع والحصار وإغلاق المعابر ومنع المساعدات ومعاقبة الناس ما زال مستمراً، وهو ما يتسق مع تحذيرات «الأونروا» حول التراجع المعيشي، ويؤكد أن العدوان قد تحول من القصف المباشر إلى سلاح الحصار الممنهج.

وشدد مشعل على الضرورة القصوى لتسخير كل الجهود لإغاثة غزة عبر كسر الحصار، مطالباً بوجوب ملاحقة الكيان الصهيوني وقادته على الساحة الدولية واعتباره «منبوذاً» مسؤولاً عن حرب الإبادة.

كما حذّر مشعل من أن «البلطجة الإسرائيلية تريد إخضاع المنطقة لأجندتها»، مؤكداً أن «إسرائيل لن تكون صديقة ولا عوناً لأحد»، وهي دعوة واضحة لرفض مساعي التطبيع التي تريد إسرائيل من خلالها الهروب من مأزقها الوجودي.

وفي تأكيد عملي على هذا التكتيك العدواني الجديد، كشف المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، عن مخالفة صارخة لاتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في العاشر من أكتوبر الماضي؛ حيث لم يسمح العدو الصهيوني سوى بإدخال 16% فقط من احتياج القطاع من غاز الطهي. وأوضح المكتب أن 104 شاحنات غاز طهي فقط دخلت القطاع من أصل 660 كان مُقرراً إدخالها، مما يخلق فجوة إنسانية خطيرة تمس 2.4 مليون إنسان، حُرموا من الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية للمنازل والمستشفيات والمخابز.

وتظهر الأرقام الصادمة أن الحصة الرسمية لكل أسرة في الدورة الواحدة لا تتجاوز ثمانية كجم، وتتطلب الدورة ثلاثة أشهر على الأقل، مما يضع أكثر من 470 ألف أسرة في انتظار طال أمده، ويكشف بوضوح عن أن الكيان الصهيوني يستخدم حصص الغاز والوقود كأداة ضغط وتجويع جماعي، في انتهاك صارخ لجميع الاتفاقات والنداءات الدولية.

وعلى صعيد التحركات الدبلوماسية الموازية، أشار رئيس الوزراء القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، إلى أن المفاوضات بشأن ترسيخ وقف إطلاق النار تمر بمرحلة حرجة، مؤكداً في منتدى الدوحة أن ما تم إنجازه هو مجرد «توقف مؤقت»، ولا يمكن اعتباره وقفاً كاملاً لإطلاق النار ما لم يتحقق الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية وعودة الاستقرار.

وتتواصل هذه المحادثات في ظل دفع بخطة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لإنهاء الحرب، والتي تدعو إلى تشكيل حكومة فلسطينية مؤقتة من التكنوقراط تحت إشراف دولي، وهي الخطة التي لاقت تحذيرات من الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين التي طالبت بضرورة التشاور مع فصائل العمل الوطني والمجتمع المدني لتشكيل أي لجنة لإدارة القطاع، وحذّرت من أن تصاعد الأعمال العدوانية في الأيام الأخيرة بات يرقى إلى «حرب جديدة» انتهكت كل مفاهيم وقف النار.

وتأكيداً على ذلك، دعت الجبهة الديمقراطية إلى الانسحاب الكامل لقوات الاحتلال وفتح المعابر على مصراعيها لتدفق 900 شاحنة مساعدات يومياً، بما في ذلك الآليات الضرورية لإعادة إعمار ما يمكن ترميمه بعد الإبادة الصهيونية التي خلفت دماراً شاملاً قدرت كلفة إعادة إعماره بنحو 70 مليار دولار أمريكي، مطالبة الأطراف الضامنة بتحمل مسؤوليتها لعدم تحويل المأزق الإسرائيلي إلى مأزق فلسطيني يخدم أجندات الاحتلال والوصاية الخارجية.

ختاما، تبقى الحقيقة الماثلة للعيان أن ما يجري يتجاوز ما يمكن وصفه بالأزمة الإنسانية القابلة للمعالجة بالمساعدات، إلى ما يمكن اعتباره فصلاً متقدماً من فصول الصراع الوجودي بين مشروع استيطاني إحلالي مدجج بالسلاح الأمريكي، وشعب متجذر في أرضه يرفض الفناء، حتى وإن عادت ظروفه المعيشية عقوداً إلى الوراء، فإن إرادته السياسية والوطنية باتت أكثر وضوحاً في تعريف النصر والهزيمة بعيداً عن أوهام المفاوضات العبثية.

*المصدر: الثورة نت | althawrah.ye
اخبار اليمن على مدار الساعة