الشاعر الياباني بانيا ناتسويشي: الهايكو بين التجذر المحلي والرهان الكوني
klyoum.com
أخر اخبار اليمن:
نشرة أسعار صرف العملات الأجنبية صباح اليوم 27 يوليو 2025حاوره - كريم أيوب
يُعدّ بانيا ناتسويشي (Banya Natsuishi) من أبرز شعراء الهايكو اليابانيين المعاصرين، ومن الأسماء التي ساهمت في إعادة تعريف هذا الجنس الشعري ضمن سياق معولم، تتقاطع فيه الأسئلة الجمالية بالفلسفية، والذاتية بالكونية. بعدما تلقى تكوينه الأكاديمي في جامعة طوكيو، حيث درس الأدب الفرنسي والفلسفة، الشيء التي أتاح له تبني رؤية نقدية منفتحة وعابرة للحدود في فهم الشعر والهايكو على وجه الخصوص.
يعمل ناتسويشي حاليا أستاذا في جامعة ميجي في طوكيو، وهو رئيس تحرير مجلة «Ginyu» التي تُعنى بالهايكو المعاصر، وتفتح مجالا واسعا لتجارب شعراء من مختلف الثقافات. وقد عُرف بمفهومه الطموح لما يسميه «الهايكو الكوني» (Global Haiku)، الذي يتجاوز الأطر الشكلية والموسمية التقليدية للهايكو الياباني، ليُلامس قضايا الإنسان المعاصر، مثل الهجرة، الحرب، البيئة، والهوية، دون أن يفقد خصوصيته الروحية وكثافته التعبيرية.
أعتقد أن ما يميز تجربة بانيا ناتسويشي هو قدرته على الجمع بين البنية المكثفة للهايكو وروحه التأملية، مع أنه يلح على أن يظهر مفهوم التأمل من زوايا نظر مختلفة كما صرح في الحوار الذي أجريته معه، وانشغالات فلسفية تتعلق بالزمن، والكينونة، والصمت، في تفاعل دائم مع تراث الهايكو وراهنيته. ومن خلال مشروعه الشعري والنقدي، يُسهم ناتسويشي في دفع الهايكو نحو آفاق أكثر شساعة من حيث الشكل والمضمون، ضمن رؤية تتجاوز التصنيف القديم وتطرح الهايكو كأفق معرفي قادر على الانفتاح. وفي هذا السياق، ولما للشاعر من إسهامات كبيرة على مستوى قصيدة الهايكو، ولعلاقاته بشعراء الهايكو المغاربة من جهة، على رأسهم أعضاء جماعة هايكو موروكو، كان لزاما أن نناقشه عبر أسئلة مباشرة تسعى لكشف رؤيته حول قضايا الهايكو العالمي، والمغربي على الأخص، ومختلف التطورات التي يمكن أن تشكل منطلقا مهما للنقد الحديث، بهدف فهم تكون هذا النص الجديد على مستوى العالم العربي. في ما يلي نص الحوار كاملا:
*نفهم أن الهايكو يركز على مفهوم الإيجاز، بينما يبدو في جوهره تصورا فلسفيا واسعا، كيف يوفّق الهايكو بين «الإيجاز» و»العمق الفلسفي»؟ وهل ترى أن هذا الاختلاف الظاهر ضروري لطبيعة الهايكو؟
ـ الاعتقاد بأن الفلسفة تتطلب تفكيرا مطوّلا هو في حد ذاته خطأ، فالفلسفة الواضحة والعميقة بطبيعتها تحتاج إلى تعبير لغوي قصير. أما الفلسفة التي تحتاج إلى تعبير مطوّل فهي فلسفة زائفة.
(من الواضح أن الشاعر بانيا، يعتبر الإيجاز جوهرا للتفكير الإنساني، ولا يتطلب هذا التفكير الفلسفي، أو التأملي بالضرورة، عملية مطولة من الكتابة، وعلى ذلك، يتشكل وجها من أوجه هذا النص، فقصر مبناه، يحمل معاني متعددة تبعث على ممارسة مزيد من التفكير والتقاط الدلالات وتكوين الرؤى).
*في تجربتك، هل تؤثر اللحظة العابرة في تشكيل معنى الهايكو؟ وهل يمكن أن تتضمن اللحظة معاني متعددة؟
ـ بالطبع.. ليس في الهايكو فقط، بل يمكن أيضا للتعبير اللغوي، أو السمعي، أو البصري القصير أن يحتوي على معانٍ متعددة، أو معانٍ جوهرية وعميقة.
(يركز الشاعر على مستوى المشهدية، في فهم تشكل الهايكو وعلاقته بالمحيط الإنساني والكوني، غير أن اللحظة ذاتها، يمكن أن تتنوع دلالاتها، حسب تموقعنا من العالم).
*الصمت والفراغ في الهايكو يخلقان تأثيرا نفسيا. كيف تستثمرهما بفعالية؟
ـ وراء كل كلمة هناك صمت، أما مفهوم «الفراغ» (間) فما المقصود به تحديدا. هل هو توقف زمني مؤقت؟ أم نَفَس موسيقي؟ أم فجوة بين الموجودات؟ هذه المفاهيم ترتبط بعالم رؤيوي عميق، أكثر مما ترتبط بتأثيرات نفسية أو جمالية سطحية.
من الممكن أن يكون مفهوم الفراغ مرتبطا بالفكر أكثر من الأدب، لكنه يتمظهر في إطار شكلي أو موضوعي، غير أنه بالنسبة للشاعر، يتعدى المستوى السيكولوجي، إلى آخر رؤيوي شديد التركيب، أما في نص الهايكو، أعتقد أن الفراغ يلامس كل ما جاء به الشاعر بانيا في تساؤلاته الدقيقة.
*هل تعتقد أن روح الهايكو يمكن أن تنتقل في الترجمة؟ أم أن الفروقات العميقة ستظل حاضرة دائما؟
ـ هذا الأمر يختلف من حالة لأخرى. فهو يعتمد كثيرا على كيفية تلقي المترجم وفهمه للعالم. وبالطبع، الفروقات الجوهرية بين اللغة المترجِمة والمترجَم إليها تشكل عائقا، لكنها قد تفتح أيضا إمكانيات جديدة لإبداع رؤى مغايرة.
*كيف توازن بين الحفاظ على التقاليد اليابانية، والتعبير عن مواضيع حديثة، أو من ثقافات مختلفة؟
ـ السعي الواعي للموازنة ليس من مهمة المبدع الحقيقي، بل هو سلوك مخادع ووضيع. الشيء الطبيعي هو أن يعبّر الإنسان عمّا يرغب فيه بأقصى صدق. أما التقاليد الحية، فهي لا تُصان بوعي، بل تتسرّب بشكل طبيعي وغير متعمَّد إلى العمل الإبداعي.
(يقابل الشاعر بانيا هنا، بين السعي الواعي، في توظيف التقاليد القديمة للحضارة موازنة مع الرغبة في التعبير عن واقع مختلف، أكثر معاصرة، وقد يتعارض أحيانا مع تلك التقاليد ذاتها، يقابل ذلك، مع وجه آخر للمبدع الذي ينطلق أساسا من حتمية التعبير عن مواقفه من الذات والعالم بجرأة وصدق تامين، دون مراعاة للأعراف، إيمانا بأن هذه الأعراف لا تصان بوعي، ولعلها أكبر منه).
*هل تعتقد أن الهايكو، رغم قصره، قادر على حمل نقد اجتماعي أو عمق فلسفي؟
ـ بكل تأكيد. وأنا شخصيا مارست ذلك فعليا.
*هل تعبث في أعمالك بمفهوم الزمن أو تفكك اللحظة؟ أم أنك تفضل تثبيت لحظة الحاضر؟
ـ هذا السؤال يحتاج مبدئيا النظر في أعمالي، الاعتقاد بأن الهايكو لا يمكنه التعبير إلا عن الحاضر، أو اللحظة العابرة فقط هو أمر خاطئ. مثلا، في هايكو لي أقول:
«من المستقبل جاء ريحٌ يشقّ الشلال»
وهنا المستقبل يؤثر على الحاضر
وفي آخر:
«شلالٌ منصوب لغائبٍ دام ألف سنة»
أصوّر فيه مستقبلا بعيدا انطلاقا من الحاضر. هناك أيضا هايكو يعكس الماضي على الحاضر، أو يعبّر عن الماضي كما لو كان حاضرا، أو يتنبأ بالمستقبل.
ثم، مَن أصلا يستطيع تثبيت اللحظة؟ لا إله التوحيد، ولا آلهة التعدد يستطيعون ذلك. فالثبات في هذا العالم مستحيل بطبيعته.
*جميل هذا التصور، لكن هل ترى أن كتابة الهايكو يتيح فرصة أكبر للتأمل؟
ـ ما المقصود بالتأمل؟ توقف التفكير؟ حيرة أثناء المحاولة والخطأ؟ أوهام؟ التأمل لا يرتبط مباشرة بالتعبير اللغوي. إنه حالة تسبق اللغة أصلا.
*من جهة أخرى، الهايكو ليس تأملا وحده، فكيف تؤثر ثقافتك وتجربتك الذاتية في كتابة الهايكو؟
ـ بالطبع، الثقافة والتجارب الشخصية تشكّل التربة التي يُزرع فيها الهايكو، ومن هذه التربة، يمكن للهايكو أن يُنتج سيقانا وأوراقا وأزهارا وثمارا جديدة.
*وبما أنك، كما تعلم، على تواصل مع عدد من شعراء المغرب، كيف ترى تجربة الهايكو المغربي؟ وهل تلاحظ فروقات جوهرية أو تشابهات بين الهايكو المغربي والياباني؟
ـ حتى الآن، لم يتحقق تواصل كافٍ مع المغرب. مجرد تواصل عابر لا يُعدّ تواصلا عميقا، أما وجود اختلافات بين اليابان والمغرب فأمر طبيعي، فلو لم تكن هناك اختلافات لما كان البلدان منفصلين، ولا بد من قبول هذه الفروقات كأساس للتبادل الثقافي، لكن أكبر عائق في هذا التبادل هو اللغة.
*شكرا لك على مد جسور التواصل بيننا.
يمكن من خلال هذا الحوار، الوقوف عند نقاط أساسية تمكن من فهم تصور واحد من رواد الهايكو المعاصر العالميين، وهو ما يسعف من فهم سبل تكوين نص ما يزال يبحث عن إطار داخل الوطن العربي، تحديدا في المغرب، على الرغم من الجهود المبذولة في احتواء هذه التجربة، لاسيما ما قدمه بيت الشعر في المغرب منذ أواسط العقد الثاني من الألفية الجديدة، وانبثاق جماعات تهتم بهذا الاتجاه عبر التعريف به وممارسته إبداعا ونقدا، غير أنه ما زال يراهن على لحظة تأسيسية صريحة، مؤطرة، ولن يكون ذلك إلا من خلال مواكبة نقدية وفتح عوالم التأمل نحو هذا النص بمرجعياته ومنطلقاته المختلفة.
كاتب مغربي*