من قلب المذبحة ..جواد العقاد من غزة : أحزم أمتعة القلب وأخوض غمار البؤس
klyoum.com
أخر اخبار اليمن:
البيض: تحرير صنعاء وهم متطرف .. واستقلال الجنوب مشروع واقعيحاورته: رين بريدي
في غزة تحوّلت الأرض إلى مرآةٍ دامية للمعاناة الإنسانية وميدانٍ مفتوحٍ لاختبار ضمير العالم، لا شيء يتوقف: حصارٌ يخنق الأنفاس، نزوحٌ جماعيٌّ يفرّغ البيوت والأحلام، قصفٌ يلتهم ما تبقى من الأمان، وذاكرة نكبةٍ تنزف منذ أكثر من سبعين عاماً بلا توقف. هنا، لكل بيتٍ حكاية فقد، ولكل شارعٍ أرشيف دمٍ وركام، ولكل حجرٍ شهادة اقتلاع متجدّد. غزة هي قلب فلسطين النابض بالمقاومة، وصوت البشر المطالبين بحقهم الأصيل في الأرض والكرامة والحياة. ومن بين هذا الركام القاسي يولد الشعر والأدب والصحافة كفعل مقاومة، وكحراسة للذاكرة، وتثبيتٍ للوجود الفلسطيني في وجه المحو. ومن هنا، يأتي هذا الحوار مع الشاعر والكاتب الفلسطيني جواد العقاد، بوصفه شهادة حية من الداخل، تفتح للقراء نافذة على مأساة يومية تؤرّخ لمرحلة لا يستطيع العالم أن يشيح بوجهه عنها.
*في ظل هذا الواقع الدموي، ما أبرز الصعوبات التي تواجهك في جمع الحقائق وصياغتها أدبياً أو صحافياً؟
ـ بكل بساطة، لست مضطراً إلى جمع المعلومات كما يفعل الصحافي والكاتب التقليدي، فأنا ابن الحالة ذاتها، أحمل تفاصيلها في دمي وأعرف مواضع الألم في جسد البلاد، كما أحفظ اسمي. أكتب من التجربة الحية، من الحرب والدم والخسارة والتشرد، فأنا لا أنقل عن الآخرين، بل أكتب عن نفسي، وحين أكتب عن نفسي فإنني أكتب عن مليوني إنسان في غزة، ما بين شهيد وجريح وأسير ونازح مشرَّد. إن حرارة التجربة ومرارتها تحضر في كل سطر، فتغدو وجهة نظري هي الحقيقة بأعمق معانيها. أنا ابن الشارع والخيمة والشقاء الفلسطيني، لا أحتاج إلى وسيط بيني وبين الحقيقة، لأن الحقيقة تسكنني وتسكن كتابتي.
*ومن موقعك الإنساني والشعري، كيف ترى تعامل الناس مع أوامر الإخلاء والنزوح القسري؟
ـ أرى أن أوامر الإخلاء والنزوح القسري فعل اقتلاع كامل، اقتلاع الروح من جسدها، ومحاولة لطمس إنسانٍ من جذوره. في غزة، وفي فلسطين كلها، المكان ليس بيتاً أو شارعاً فقط، بقدر ما هو دمٌ وسيرة وذاكرة، فكيف يُختَصر الرحيل إلى حركة جماعية نحو المجهول؟ يخرج الناس مثقلين بما لا يُحتمل: بقايا خبزٍ وذكريات، وألم يترسَّب في كل حجرٍ يتركونه وراءهم.
النزوح كلمة خبيثة في الوعي الفلسطيني، جرح ممتد منذ النكبة، يطلّ علينا في كل حربٍ كوجهٍ أسود يعيد فتح المقابر في الذاكرة. وهو أكثر ما يوجعني كشاعر وإنسان؛ أن يتحول الرحيل إلى قدر دائم، وأن يُفرض علينا أن نمشي بلا وجهة، وكأن الانكسار صار وطناً آخر.
*كتبت في مجموعتي الشعرية «أقود الطيور من المذابح»:
وأنا من رحيلٍ إلى رحيل،
تسأل ما الرحيل؟
وأنا من رحيلٍ إلى رحيل أمشي بلا خطيئة،
خُطاي انكساري،
وانكساري وطنٌ من تعب.
أحزم أمتعة القلب: الأيام القادمة وأحلامي الشظايا،
أخوض غمار البؤس،
أسقط دماءً وأنا عطش المعنى لرمل الذاكرة.
هذا هو النزوح كما نعيشه: موتٌ مؤجل، ورحيلٌ لا ينتهي، وامتحانٌ دائم للقدرة على البقاء. لكنه أيضاً صرخة ضد هذا العالم، أننا مهما تكرر اقتلاعنا سنظل جذوراً راسخة.
*ما أكثر ما يحتاجه المدنيون اليوم من المجتمع الدولي أو المؤسسات الإنسانية، في رأيك؟
ـ المجتمع الدولي مُطالَب اليوم، وبإلحاح لا يحتمل التأجيل، أن يقف وقفة أخلاقية وإنسانية وسياسية حقيقية إلى جانب الشعب الفلسطيني المقهور، الشعب الذي سُحق تحت وطأة الحرب، وفقد كل ما يملكه من بيتٍ وذاكرةٍ وأمان، بل فقد معه أي معنى للحياة الكريمة. ليس المطلوب فتات المساعدات ولا ذر الرماد في العيون، بل المطلوب إنصافٌ سياسيّ أوّلاً: الاعتراف بحق هذا الشعب في دولته المستقلة وسيادته على أرضه، لأن القضية في جوهرها وطن مسلوب وشعب يُقتلع يومياً من جذوره. الدعم الإنساني مطلوب، نعم، لكن لا ليُسكِت الجوع مؤقتاً، أو ليُبقي الفلسطيني حياً كي يموت في الغد، بل ليُثبّت وجوده على أرضه، رغم كل محاولات الاقتلاع. الدعم يجب أن يُقرن بالبعد السياسي، وإلا صار مجرّد مسكّن لجرح غائر. على العالم أن يدرك أن الفلسطيني لا يطلب إحساناً، ولا ينتظر شفقةً، بل عدلاً. وكل ما عدا ذلك خيانة للإنسانية ذاتها.
*ما أصعب موقف شخصي أو مهني مررت به خلال تجربتك في غزة، والمستمرة؟
ـ أصعب المواقف التي مررت بها، وما زالت تتوالى عليّ كصفعات متكررة، هي لحظة الاضطرار إلى مغادرة البيت والمدينة تحت القصف، كأنك تُقتلع من جذورك دفعةً واحدة، وتُرمى في العراء بلا جهة ولا ملاذ.
ما أثقل أن ترى جموع النازحين تسير نحو المجهول، تحمل ما تبقّى من حياةٍ على أكتافها، فيما العالم يكتفي بالتفرّج، كأن هذا الشعب كتب عليه أن يكرّر مأساته منذ أكثر من ثمانين عاماً، بلا إنصاف ولا عدالة. أنا شخصياً عشت ذلك الجحيم: خرجتُ ليلاً من بيتي تحت وابل القذائف، وانتهى بي النزوح إلى البحر، حيث تتلاشى الجهات. كتبتُ من الشارع، من قلب التشرد، حيث انطفاء الروح. لم أتوقف عن حمل الكلمة، حتى وأنا محاصر بالموت. أنا ابن هذه الحرب القاسية، ابن الخسارات المتراكمة، أحملها في دمي وأكتبها بلهيب روحي.
*في كتابك «أكتب موتي واقفاً»، ما أصعب لحظة كتبتها أو عشتها أثناء تدوين التجربة؟
ـ الحقيقة أن كل لحظات الكتابة في «أكتب موتي واقفاً» قاسية، لأنها تخرج بكل حرارتها وطزاجتها من أعماق قلبي المحاصر والمستهدف، من خلال التشرد، وقتل الأصدقاء، وانهيار الذكريات. الكتابة لحظة مواجهة، مجابهة وقتال باسل شرس مع الواقع من أجل أن أقول (لا) لهذا الانهيار الشامل، وإن كان لا بد أن يحدث، فليكن بناءً جديداً يضمن للإنسان وبلاده حرية. وقت الكتابة صعب، فأنا أبذل جهداً كي أوفر مساحة خاصة للتأمل، للرجوع إلى الذات، وللاستحضار الكامل لحالة الكتابة. وكتابة الحالة نفسها موجعة.. في هذا الكتاب الموجع كتبت الذكريات، البيت المهدم، المدينة اليباب، المكتبة المحروقة، الحسرة الثقيلة. لحظات التشرد والنزوح، لحظات الفقد قاسية جداً.. ولا أعتقد أنني أمتلك رفاهية الاختيار بين القاسي والأقسى. كل لحظة فيها ألم وغضب، وكل كلمة فيها صرخة لا تهدأ، لأنها تخرج من قلب حي يُقاوم الموت والظلم.
*تقول دائماً إن «الكتابة فعل وجود ونضال» كيف ترى دور الكاتب الفلسطيني في هذه المرحلة؟
ـ الكاتب الفلسطيني يحرس الوعي الوطني كما يحرس الإنسان أرضه وجذوره وتاريخه. ينحاز كلياً لشعبه، كما ينحاز للإبداع، بعيداً عن الأفكار المعلبة والأيديولوجيات، التي تصادر الحرية والفكر، ويناضل من أجل الحقيقة بلا مجاملة. هذا الانحياز ليس جديداً، بل امتداد لمسيرة الأجيال الأولى التي خطّت أبجديات الكفاح الثقافي: نوح إبراهيم، إبراهيم طوقان، عبد الكريم الكرمي، مروراً بمحمود درويش وسميح القاسم وغسان كنفاني وراشد حسين، وصولاً إلى المتوكل طه وأنور الخطيب. في كل قصيدة، ورواية، وقصة، وفي كل لوحة أو فيلم، تستمر مسيرة الإبداع الفلسطيني، وتترسخ البنية الثقافية الوطنية، التي تؤكد الارتباط العميق بالأرض، بالإنسان، بالوطن وبالمستقبل. الكاتب الفلسطيني اليوم يكتب بغضب صادق، كلمته سلاح، وحضوره فعل مقاومة، ووجوده استمرار للنضال الذي لا يتوقف مهما حاول العالم أن يطمس الحقائق. الإبداع هنا واجب وطني، وشهادة على صمود الإنسان الفلسطيني وحقيقة أرضه.
*كرئيس تحرير وصحافي، كيف يساعدك عملك المهني على تحويل المشهد الميداني إلى نصوص أدبية؟ وهل تعتقد أن الأدب قادر على حفظ ذاكرة الحرب بشكل أعمق وأصدق من التقارير الإخبارية؟
ـ الأديب يعيد خلق الواقع ويثوِّره ويحمِّله دلالات وأبعادا جديدة.. فالمشاهد اليومية في الحرب والحياة، هي مشاريع أدبية قابلة للكتابة بشروط معينة. فأنا أراقب الحياة وتفاصيلها والعالم ومفرداته.. في الوقت الذي تستعصي الكتابة عليَّ.. أتأمل وأخزِّن في ذاكرتي. هناك وظيفتان منفصلتان لكل من الأدب والإعلام، وإن كان ثمة نقاط التقاء كثيرة. جوهر الأدب عالم موازٍ يطرح رؤية جديدة ترفض القائمة وتسعى إلى هدمها.. فالأدب الذي لا يتضمن رؤية هو قاصر وعاجز عن البقاء. أما الإعلام فوظيفته النقل الحرفي عن الواقع بصدق وأمانة وحياد.. وانحياز لقيم العدالة. وغير ذلك يكون موضع شك. الأدب قادر أيضاً على الولوج إلى دواخل الإنسان وكتابة المشهد من الداخل بكل تفاصيله. وهو يضاف إلى التراث الإنساني الحضاري.
*ما الذي تغيّر في لغتك الشعرية بعد هذه الحرب الأخيرة؟
ـ لغتي أنا، وما تغير فيّ تغير فيها. حزن عميق، شقاء مستمر، خوف من التلاشي وقتل الأحلام والمستقبل. قاموسي دخلته كلمات جديدة تتكرر بلا رحمة: النزوح، التشرد، الموت المتكرر، المذبحة، الحلم الممزق، الذكريات، الطيور، البلاد، الرحيل، الانكسار، الأرض، واتخذت لغتي شكلاً جديداً في الكتابة والإبداع، بعداً نفسياً قاسياً وحزيناً، غاضباً على كل ما سرقته الحرب. لغتي صارت مرآة للذات المهشمة، التي تحاول الالتئام رغم كل الجراح، لكنها لا تتراجع عن غضبها ولا عن صرخاتها الصامتة.
*هل تعتقد أن الشعر الفلسطيني سيولد من جديد بعد هذه المرحلة كما وُلد بعد النكبة والنكسة؟
ـ الشعر الفلسطيني دائماً يولد من جديد، كما وُلد بعد النكبة والنكسة، ويولد من الألم والانكسار والغضب. كل التحولات السياسية والثقافية والاجتماعية التي مرّ بها العالم العربي، كانت غالباً انكسارات، وهذا الانكسار نفسه كان وقود الشعر. بعد النكبة ظهر جيل من الشعراء الفلسطينيين، لهم سمات خاصة، يصورون ملامح حياة اللجوء والشقاء، على رأسهم معين بسيسو وهارون هاشم رشيد. وبعد النكسة، جاءت الصدمة التي غيرت خريطة السياسة العربية، وغيرت أيضاً خريطة الشعر العربي، فشاهدنا نزار قباني يتحول من شاعر غزلي إلى شاعر غضب سياسي، يكتب روائع تجسد الانكسار والغضب الشعبي، مع بعد ساخر حاد. ومحمود درويش تعمّق شعره الوطني والقومي بعد النكسة، مثل أغلب شعراء فلسطين، الذين جعلوا الألم لغة وجودهم. واليوم، يولد جيل جديد من الشعراء الفلسطينيين، يعبر بصدق عاطفي عميق عن الواقع، لكنه لا يزال يكتشف ملامحه وشكله النهائي. التجربة الآن لم تكتمل، ومن المبكر الحكم عليها، لكنها تحمل بذور لغة قوية، وغضباً أصيلاً، وصدقاً لا يقبل المساومة، كما لو أن الروح الفلسطينية تعلن وجودها بكلمات متفجرة، صلبة، لا تنحني أمام أي طمس أو احتلال.
*أي دور تلعب الرموز الفلسطينية، مثل (الأرض، الزيتون، البحر، الطيور) في نصوصك الجديدة؟
ـ لكل شاعر قاموسه وفق مرجعيته الثقافية والحياتية، وأنا ابن واقع مأزوم قائم على الصراع السياسي والتاريخي والحضاري، لذلك، من الطبيعي أن تتكرر في نصوصي مفردات لها امتدادات وطنية وعاطفية قوية تؤدي وظيفتها الدلالية داخل الجملة الشعرية الصادقة. الأرض، الزيتون، الجذور، وغيرها من رموز الارتباط موجودة في قاموس كل شاعر فلسطيني بقوة، وتؤدي أدواراً دلالية تصل بالمعنى الوطني إلى أقصى حد، معبرة عن رسوخ الفكر الوطني ووضوح الرؤية.
* لم تتاجر بآلام شعبك كما فعل كثيرون من أصحاب أنصاف المواقف، أو «المؤثرين»، كيف تفسر هذا الخيار الصعب في حياتك الأدبية والإنسانية؟
ـ أنا أكتب من قلب غزة، من دمها المهدور ومن صرخة شعبٍ يعيش اقتلاع الروح والجسد معاً. الكتابة عندي موقف وصرخة وحرية. أحذر دائماً من البكائيات الرخيصة، ومن الحماسة الزائفة التي يتحايل بها البعض على وجع الناس، فكل جملة هنا تحمل وزْرَ الحقيقة وصدق الوجدان الفلسطيني. أن أفشل في ذلك يعني أن أخون شعبي وأهلي وناسي، وأخون نفسي قبلهم جميعاً. المثقف الحر، كما أراه، عليه أن يرفض كل إملاء، كل شرط، كل محاولة للمتاجرة بوجع الآخرين. كثيرون اختاروا الطريق الأسهل، وحوّلوا آلام شعبنا إلى سلعة رخيصة تُباع وتُشترى. أنا لا أكتب إلا وجعي، قهري، غضبي، وبحثي عن الحقيقة، دون أن أستجدي اعترافاً أو فرصة أو جائزة. الفرص تأتي، لكنها لا تعني شيئاً أمام ضمير ضائع أو أخلاق ميتة. الكتابة بلا ضمير تصبح جثة هامدة، لا روح فيها، ولا صدى، ولا موقف. لا يمكن النظر إلى غزة بوصفها مأساة إنسانية منفصلة عن جذورها السياسية. ما تكشفه هذه الشهادة الحيّة أن الغزّي لا يطلب شفقةً ولا مساعدات عابرة، بل حقا كاملا وعدالةً حقيقية. إن كان العالم قد فشل في وقف الحرب، فبإمكانه على الأقل أن يسمع هذه الأصوات، وأن يتخذ موقفا أخلاقيا لا يحتمل التأجيل.