اخبار اليمن

شبكة الأمة برس

ثقافة وفن

لماريو يوسا : رواية «حفلة التيس» لـ ماريو يوسا… كيف يصنع الطغيان وحوشه؟

لماريو يوسا : رواية «حفلة التيس» لـ ماريو يوسا… كيف يصنع الطغيان وحوشه؟

klyoum.com

هيفاء بيطار*

كثيرة هي الكتب التي حكت عن الطغاة، ووصفت الطغيان، لكن رواية «حفلة التيس» لماريو يوسا تخطفنا من الصفحات الأولى إلى أعماق عالم الطغيان لنتفرّج مبهورين على شخصية الزعيم الطاغية، الذي يهيمن على الناس، ويتحكم بحياتهم وأقدارهم، لدرجة يشوش تفكيرهم، ويحولهم إلى قطيع لا يمكنه العيش إلا برضى الزعيم عنه.

تبدأ الرواية بعودة أورانيا إلى بلدها الأصلي الدومينيكان بعد غياب أكثر من ثلاثين سنة، بل بَعد قطيعة متعمّدة مع وطنها طوال هذه السنين، أورانيا التي عادت

لترى والدها المُقعد والمشلول والمنهار، دون أن تبدي ذرة حب أو حتى شفقة على أبيها، بل إنها لم ترد على رسائله واتصالاته طوال تلك السنين. درست أورانيا المحاماة في نيويورك وتعمل في أحد أشهر مكاتب المحامين، تغرق نفسها في العمل، كي تنسى مأساتها الشخصية، تلك المأساة التي نعرفها في الصفحات الأخيرة من الرواية… تتماهى مأساة أورانيا مع مأساة شعب ووطن، بل نشعر بأن لا فرق بين مأساة فرد ومأساة وطن..

في الواقع يمتلك ماريو يوسا قدرة مذهلة على خطف أنفاس القارئ، ففي كل رواية من رواياته من «مديح الخالة» إلى «الفردوس على الناصية الأخرى»، وحتى في «شيطانات الطفلة الخبيثة»، وروايته المدهشة «حفلة التيس»، نراه يمسك كل خيوط العمل الإبداعي بيده، ويحلل الشخصيات ويتجوّل في أعماقها، بمهارة غطاس يستكشف قاع المحيط. إنني مبهورة حقا من قدراته الهائلة في رسم الشخصيات، خاصة شخصية الطاغية، فهو رجل ذكي نجح في جعل كل معاونيه يعيشون حياة منافسة أبدية، في ما بينهم لينالوا رضاه، وجَعَلهم يعيشون طول عمرهم في قلق مؤبد. كل واحد منهم يريد أن يكون مُقربا أكثر منه، لكنه في الوقت ذاته، كان يعرف كيف يكافئ ولاءهم، فكان يغمرهم بالهدايا باهظة الثمن، والأموال، ويدخلهم شركاء معه في مشاريعه التجارية والصناعية والزراعية.

يصف يوسا نظرة الطاغية فيقول: لا يمكن لأحد تحمّل نظرته دون أن يخفض بصره مرعوبا، مسحوقا بالقوة التي تشع بها حدقتاه الثاقبتان، نظرة تقرأ أشد الأفكار سرية، والرغبات والشهوات الخفية، فتجعل الناس يشعرون بأنهم عراة.. لقد حوّل الطاغية شعبه إلى أشخاص مهووسين، مخبولين بالتلقين العقائدي والعزلة، ومحرومين من حرية الاختيار والإرادة، وحتى من الفضول بسبب الخوف وممارسة التذلل والخنوع. فلم يجرؤ أحد على مقاومة هيمنة الطاغية، حتى الحاشية المقربة منه، والتي يدفنها بالمال والعطاءات. كان حريصا على إذلالها، كما لو أنه يستخرج من أرواح حاشيته ميلا مازوشيا، يحولهم لكائنات تحتاج إلى من يبصق عليها، لأنها بالتحقير تجد ذواتها. كما لو أن أهم قاعدة للطاغية هي إغراق حاشيته بالمال مقابل إذلالها.

يسمي يوسا أسرة الطاغية بالأسرة العصابة، ذات الامتيازات التي لا يمكن المساس بها، فثروات البلاد مُسخّرة لهم، ويتمتع أولاده بصلاحيات مطلقة، لا يوجد قانون يحد من حريتهم وانتهاكاتهم، لكن من جهة أخرى نجد الابن الأكبر للطاغية يشارف على الجنون، ويدخل إلى مصحات نفسية في عواصم أوروبية عديدة لمعالجته من جنون السلطة، فهو يملك ما شاء من المال والنساء، والثياب، لكنه مهزوز من الداخل، لأنه حين يمارس كل أشكال انتهاك حقوق الناس ويغرق في السكر والعربدة، فإنه يشوه ويُهين الإنسان الذي في داخله، وينتهي به الأمر إلى الانهيار العصبي..

لكن والده يُصر على أن يلحقه بالمدرسة العسكرية في أمريكا، لكنه يُطرد منها بسبب سلوكه الماجن، وبسبب علاقاته الجنسية مع عاهرات، وممثلات شهيرات، ويتسبب بالعديد من الفضائح لوالده، ولدولة الدومينيكان، تلك الدولة التي تتوسل دوماً للولايات المتحدة كي تقدم لها معونات وقروضا.. إلى أن انفجر أحد أعضاء الكونغرس في أمريكا وصرخ محتجا: إن ابن الطاغية يهدي الممثلات والعاهرات هدايا تكلف ما يعادل المساعدة العسكرية السنوية التي تقدمها واشنطن للدومينيكان! ويتساءل ما معنى أن نقدم الأموال لتلك الدول الفقيرة، إذا كان ابن الحاكم يبدد مثل هذه المبالغ على العاهرات؟ المخيف في هذه الرواية أن ماريو يوسا يبين للقارئ أن الإنسان حين يختار طريق الذل، وحين يقرر أن يكون ظلا لطاغية، راضيا بالامتيازات المادية على حساب كرامته فإن هذا الذل يقوده إلى الانحطاط الأخلاقي التام، إذ لا يوجد اعتدال، أو حد وسط في التدهور الإنساني، كما لو أن الذل بئر دون قرار، ومن يرضى أن تُهان كرامته وإنسانيته منذ البداية، فعليه أن يُهان أكثر وأكثر، وعليه أن يتحمّل. إن الطاغية الذي حوّل أتباعه إلى شخصيات بلا كرامة، مسعورة لإرضائه، ومتلهفة لتقبّل عطاياه السخية، جعل هذه الشخصيات تفقد أي ملمح إنساني، وشوه أعماقها، ونسف ما يُسمى الضمير والأخلاق. فوالد أورانيا الذي عاش عمره في خدمة الطاغية، يُصاب باليأس التام حين يشك الطاغية بولائه، ويجن من الألم والحسرة، حين يشعر بأن الوشاة والحاسدين قد أوقعوا بينه وبين سيده، ويحتار كيف يستعيد لغة الطاغية، وحين ينصحه أحد أصدقائه أن يرسل ابنته الوحيدة المراهقة التي لم تكمل عامها الرابع عشر ليقضي الطاغية معها ليلة، وبأنه بهذه الطريقة يثبت لسيده حبه وولاءه..

ورغم أنه يحب ابنته فهي يتيمة الأم، ووحيدة، لكن روحه الذليلة الخانعة تقبل أن تكون ابنته كبش فداء، فيرسلها إلى قصر الطاغية، المصاب بهوس فض البكارة، وتجد الطفلة نفسها أمام رجل في السبعين من عمره يشرب الكونياك ويدخن السيجار ويتأملها بشهوة، تُـصعـق وهـي تتســاءل غـيـر مصدقـة كيف يمكـن لوالـدها أن يـرمي بهـا فــي قـلـب الجحيم.. ألا يعرف أي أذى سيلحقه بها! ولم يستطع العجوز أن يضاجع الفتاة لأنه مصاب بعجز جنسي، فيمزق بكارتها بأصابعه، وهو يشتمها ويشتم والدها، ثم يبكي بحرقة وحسرة لأنه عنين.. سيد الوطن لا يبكي آلام شعبه، بل يبكي عنانه! وتقف هي مرتجفة من الذعر، والدم يغطي فخذيها، لاتجرؤ حتى على البكاء، تـُلـزم نفسها بالصمت لأنها ترتجف من ردود فعله فيما لو بكت.. ثم يأمرها أن تقوم بكل ما يمكن أن تقوم به عاهرة لإثارته، فتذعن.. الطفلة المسكينة المُنتهكة والمُغتصبة تجد نفسها ملزمة ومضطرة أن تتحول لعاهرة، وتنفذ كل ما يطلبه منها سيد الوطن، الذي تحوّل اسمه إلى أسماء شوارع وحدائق، ومدارس، لكنها لم تفلح في مهمتها، فالعجوز عنين.. فيطردها، ويطردها من الغرفة التي يمارس فيها اغتصابه لكل فتاة تعجبه.. لا قيمة للناس بنظر الطاغية إلا لتلبية نزواته وخدمته. وتخرج أورانيا تحمل جرحا بليغا في روحها سوف يرافقها كل حياتها، ولا تعود لبيت والدها، بل تلجأ إلى الراهبات، اللاتي يعطفن عليها، ويساعدنها على السفر إلى الخارج..

تتماهى قصة أورانيا المستباحة والمنتهكة مع قصة انتهاك وطن، من قبل طاغية أحاط نفسه بحاشية مُنحّطة، لا أخلاقية، ارتضت أن تبيع ضميرها وتخون شعبها مقابل مكاسب مادية كبيرة… ويصور لنا الكاتب ببراعة تقشعّر لها الأبدان كيف أن الإنسان حين يدوس كرامته ويبيع ضميره يتحول إلى وحش، يمارس أفظع أنواع التعذيب والتنكيل بمن يعتقد أنهم خصومه، وحشية تفوق قدرة الخيال على التصوّر. كيف يمكن أن نصدق أنه توجد وحشية تدفع الجلاد أن يعذب رجلا حتى الموت، ويجبره أن يبتلع البراز، ثم يخيط له جفونه كي لا يرى، ويخصيه، ويطعمه خصيته، ثم يجوّعه لأيام، وبعد ذلك يقدم له طبقا شهيا من اللحم الطازج المطهو، فيبدأ المسكين الجائع بالتهام اللحم بشراهة حتى يشبع وبعدها يفاجأ بالطاغية ينفجر ضحكا وهو يقول له إنه أطعمه لحم ابنه، ورفض السجين أن يصدق، إلى أن وقف الحارس يلوح برأس ابنه المقطوع من نافذة السجن، وحشية تفوق قدرة الكلمات على الوصف، وحشية تدعو للإحساس بالخزي من الجنس البشري.. إذ يتفجر السؤال: كيف يمكن لبشر أن يبلغوا تلك الدرجة من السادية الفظيعة؟ لكن أتذكر هنا قولا لغويا، انعدام الضمير يوّلد الوحوش.

رواية يوسا ليست مجرد غوص عميق في عالم الطغاة والطغيان، بل إنها تحذرنا بطريقة ذكية من أن الإنسان حين يرضى أن يدوس كرامته ويبيع ضميره مقابل مكاسب مادية، فإنه يتحول إلى وحش، ويصبح مع الوقت قابلا وجاهزا، أن يبيع أولاده، ويقدمهم كبش فداء من أجل الحفاظ على بريق المنصب، وأن يعذب شعبه ويخونه من أجل أن يستمر في الاستحواذ على امتيازات مادية كبيرة، وليكون شرفه

الوحيد، أنه مُقرّب من الأسرة العصابة، أسـرة الطاغية التي لا يمـكن المساس بها. رواية رغم قسوتها تستحق أن تقرأ مراراً. «حفلة التيس» رواية 440 صفحة من القطع كبير. الناشر : دار المدى / الكاتب: ماريو بارغاس يوسا. المترجم : صالح علماني.

كاتبة سورية

*المصدر: شبكة الأمة برس | thenationpress.net
اخبار اليمن على مدار الساعة