اخبار سوريا
موقع كل يوم -الوكالة العربية السورية للأنباء
نشر بتاريخ: ٢٠ تموز ٢٠٢٥
إدلب-سانا
على أطراف المدينة القديمة في إدلب، حيث كانت الأيدي تصنع الجمال من الطين والخيوط، تنتصب اليوم ورشات مهجورة كأنها شواهد على زمن لم يعد له مكان، بين أصوات الحرب التي غطّت على أصوات الأدوات اليدوية، تتلاشى تدريجياً مهنٌ شكّلت جزءاً عميقاً من الهوية السورية.
الحرف اليدوية التراثية، من الفخار إلى النسيج والتطريز، تترنّح تحت وطأة التهجير والفقر والنسيان الثقافي، هذا التقرير الاستقصائي يبحث في أسباب اندثار هذه الحرف، ويُعيد الاعتبار لأصوات الحرفيين الذين ما زالوا يقاومون الهامش.
الحرف القديمة… بين النزوح والتجاهل المؤسسي
قبل عام 2011، كانت إدلب تضم عشرات الورشات التي تنتج الأدوات التقليدية، عمر بعضها أكثر من نصف قرن، واليوم لم يتبقَّ منها سوى عدد ضئيل، أغلبها يُدار بشكل فردي وبإمكانات محدودة جداً، وفقاً لمسح غير رسمي أجري في بداية عام 2025، انخفض عدد الورشات الفاعلة بنسبة تجاوزت 80%، بينما أُغلقت أخرى بسبب النزوح الداخلي أو تحول الحرفيين إلى مهن أكثر مردوداً.
الأسباب متعددة: انعدام الدعم الحكومي، غلاء المواد الأولية، انقطاع سلاسل الإمداد، وتراجع الطلب المحلي، ولم يتم حتى الآن إدراج هذه الحرف ضمن أي خطة وطنية للحفاظ على التراث أو إعادة تأهيل الصناعات التقليدية.
حكاية أبو نزار… بقايا الأصابع التي تنقش على الذاكرة
في قلب إدلب القديمة، قابلنا أبو نزار الشامي، 65 عاماً، أحد آخر صانعي الفخار التقليدي، الذي يحاول الحفاظ على مهنته رغم كل المعوقات. يقول: 'الطين كان لغة تواصل بيني وبين الأرض… واليوم صار حواراً مع الماضي فقط'.
ورشته المتداعية التي كانت تعج بالطلاب والزبائن، أصبحت معرضاً شبه مجاني للأطفال الذين يزورونه في العطل، ليشاهدوا كيف كان الأجداد يحولون التراب إلى تحف فنية، فعلى الرغم من فقدانه لابنه في الحرب، وتهدّم أجزاء من منزله، يصرّ أبو نزار على استمرار المهنة، ولو كنوع من الوفاء للذاكرة.
انعكاسات ثقافية واجتماعية
اندثار الحرف لا يعني فقط اختفاء مهن تقليدية، بل يشير إلى تراجع في الروابط الثقافية بين الأجيال، الأطفال اليوم لا يعرفون الفرق بين النول والمخرطة، وغالباً ما يظنون أن الفخار يُصنع بالآلات الحديثة، وخصوصاً في المحافظات التي فقدت جزءاً كبيراً من بنيتها السكانية والثقافية بسبب النزوح والدمار.
جهود خجولة… تحركات فردية على أكتاف مرهقة
ظهرت مؤخراً بعض المبادرات الصغيرة، كمشروع 'تراثنا بأيدينا'، الذي أطلقته مجموعة من الشباب لتعليم الأطفال أساسيات الحرف اليدوية خلال العطلة الصيفية، فعلى الرغم من حماس القائمين عليه، يعاني المشروع من غياب التمويل والدعم الرسمي، ولا توجد أي جهة حكومية تبنّت حتى الآن مشروعاً لتوثيق أو إحياء هذه الحرف ضمن خطة واضحة.
كما حاول بعض الحرفيين توثيق أعمالهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكن الوصول ظلّ محدوداً نتيجة ضعف البنية التكنولوجية والانقطاع المستمر للإنترنت.
توصيات
إطلاق برنامج وطني لحماية الحرف التراثية: عبر إدراجها في المناهج التعليمية، وتخصيص منح صغيرة لتأهيل الورشات.
تفعيل الإعلام الثقافي المحلي: لإبراز أهمية الحرف اليدوية ونقل قصص الحرفيين إلى الجمهور العام.
إنشاء أرشيف مرئي للحرف: يوثّق كيفية تصنيع الفخار والنسيج والتطريز، ويُتاح للأجيال القادمة كجزء من الهوية السورية.
ختاماً: بين الطين والنسيج، وما تهدم من ورشات، وما بقي من ذاكرة، تقف إدلب شاهدة على صراع الهويّة مع النسيان، هذا التقرير لا يوثّق نهاية مرحلة، بل يفتح نافذة على إمكانيات العودة، ففي كل يد تعرف كيف تصنع الجمال من التراب، هناك احتمال لانبعاث جديد… لو اختارت المؤسسات أن تُنصت لصوت أبو نزار، قبل أن يُغلق باب ورشته إلى الأبد.