اخبار الاردن
موقع كل يوم -جو٢٤
نشر بتاريخ: ١٩ تموز ٢٠٢٥
د.عبدالرزاق بني هاني يكتب عن اقتصاديات الرويبضة والدولة اللامعيارية #عاجل
أستكمل حديثي في هذا الجزء، وهو الثاني حول ما تخيلته في رواية غاردينا. ذلك المجتمع الخيالي، الذي رصدت فيه خصائص غريبة عن مُجتمع يقول بأنه يريد أن يتقدم ويبني ويصنع التاريخ. وقد صنفت الخصائص إلى إحدى عشرة خاصية، تُبين بأنه مجتمع يترنح على حافة الانهيار المنظومي الشامل. إنه نظام اجتماعي لا تُعرِّفهُ هياكله (Structures)، بل فراغها وجوفها؛ ولا تُعرِّفهُ قيمه، بل أداؤها الاستعراضي الساخر. هو مجتمع يعاني من حالة متأخرة من 'اللامعيارية' (Anomie) — وهي حالة من غياب القواعد والمعايير، يتشظى فيها الوعي الجمعي، تاركاً الأفراد تائهين في بحر من اللايقين وانعدام الثقة والفزع الوجودي. ويمكننا أن نطلق على هذا المجتمع اسم 'الدولة اللامعيارية'، أو ربما بتعبير شاعري أكثر، 'الكيان الزائل'، وهو مكان لا يُبنى فيه شيء ليدوم، وبخاصة الثقة والأمل. سيتعمق هذا التحليل في العوامل الحراكية (الديناميكيات) المترابطة لهذا المجتمع، مستكشفاً كيف تغذي أمراضه النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بعضها بعضاً في حلقة مفرغة مدمرة وتعزز نفسها ذاتياً.
الأساس النفسي: الوقتية، والاغتراب، وعدم اليقين:
في صميم الدولة اللامعيارية تكمن علة نفسية عميقة؛ إنها الشعور المتفشي بأن وجود المرء مؤقت، وهو العَرَض الرئيسي الذي تنبع منه أعراض أخرى كثيرة. وهنا لا أقصد ما نسميه الوعي الفلسفي الدنيوي بحتمية الفناء؛ بل هو الاقتناع المزعزع للاستقرار بأن مكانة الفرد وسلامته ورزقه ومستقبله هي أمور هشة في جوهرها، ويمكن أن تزول في أي لحظة. هذا الإحساس بالهشاشة يُلوث كل جانب من جوانب الحياة. فلماذا يستثمر المرء في مجتمع أو مهنة أو حتى علاقة إذا كان الأساس الذي بنيت عليه يُنظر إليه على أنه زائل؟ ويتضخم هذا الشعور بشكل مباشر بسبب حالة اللايقين السائدة والانتظار السلبي لمستقبل مجهول. فالمستقبل في غاردينا ليس أفقاً للفرص التي يُخطط لها، بل هو تهديد غامض يُنتظر بقلق. هذا المزيج يشلّ أي عملٍ بنّاء، طويل الأمد ويُعزز عقلية يائسة وقصيرة النظر وقائمة على رد الفعل.
والنتيجة الحتمية لهذه الحالة الداخلية هو شعور عميق أطلق عليه كارل ماركس الاغتراب (Alienation)؛ الاغتراب الاقتصادي، والاغتراب الاجتماعي، والاغتراب السياسي، والاغتراب النفسي. فإذا كان المرء لا يستطيع أن يربط نفسه بمستقبل مستقر، فإنه لا يستطيع أن يربط نفسه بكيان جمعي مستقر. فالنسيج الاجتماعي يُنسج من افتراضات مشتركة والتزامات متبادلة وإيمان بمصير مشترك. وفي الدولة اللامعيارية، تقطعت هذه الخيوط، وتتقطع كلما بُنيت بناء على حاجة آنية، من السلطة التي لاتفكر إلا بكيفية إدامة وجودها. وفيها يشعر الفرد بالانفصال عن 'المجتمع' ككيان مجرد لأن هذا الكيان فشل في توفير الحاجة النفسية الأساسية بعد البقاء: الشعور بالديمومة والانتماء. فالناس ليسوا مواطنين يشاركون في مشروع مشترك، بل ذرات معزولة تتصادم في بيئة فوضوية، وأحسن ما يُمكن يُصفوا به أنهم مجرد رعايا، كالخراف في المراعي، كلما احتاج الراعي أن يأكل يأتي بواحدٍ منها إلى مقصلته، وفي حال دعا الراعي جيرانه إلى وليمة فإنه يأتي بجماعة من الخراف إلى المذبح. وقد تعيش الخراف على مقربة من بعضها بعضاً، لكنها كجماعة منعزلة عاطفياً وروحياً، كجزر من القلق في أرخبيل من انعدام الثقة.
هذه الحالة النفسية تخلق أرضاً خصبة للتفسخ الاجتماعي المرئي. إنها تجيب على السؤال الجوهري 'لماذا؟'. لماذا يتصرف الناس بهذه الطرق المدمرة؟ لأنهم يشعرون بأنه لا مصلحة لهم في النظام، ولا مستقبل يحمونه، ولا أحد يعتمدون عليه سوى أنفسهم.
التجلي الاجتماعي: لعبة صفرية المجموع (Zero-sum Game) يخوضها الجميع ضد الجميع:
عندما يُعرّف الجوهر النفسي للمجتمع بالوقتية والاغتراب، تصبح تفاعلاته الاجتماعية لعبة وحشية صفرية المجموع. ويُصبح الدافع لسرقة الممتلكات العامة نتيجة منطقية تماماً، وإن كانت مأساوية، لهذه العقلية. يُنظر إلى الممتلكات العامة — سواء كانت بُنية تحتية أو موارد دولة أو مساحات مشتركة — على أنها مجموعة من الأصول التي لا مالك لها. إن المنطق القائل: 'إن لم آخذه أنا، سيأخذه غيري' هو النشيد الوطني للدولة اللامعيارية. إنه يكشف عن غياب تام للملكية الجماعية. لا يوجد 'نحن' أو 'ممتلكاتنا'؛ لا يوجد سوى 'أنا' وفرصة مؤقتة للكسب قبل أن يغتنمها الشخص التالي. هذه هي 'مأساة المشاع' التي تُطبق على نطاق وطني، حيث لا يُحتمل استنزاف الموارد المشتركة فحسب، بل يُتوقع حدوثه.
يمتد هذا المنطق المدمّر، في غاردينا، من الجمادات إلى العلاقات الإنسانية. فتطبيع الخيانة هو المعادل الشخصي لنهب الممتلكات العامة. ففي مجتمعٍ خالٍ من الثقة، لا يكون الولاء فضيلة بل عبئاً. فالثقة تتطلب إيماناً بالمعاملة بالمثل في المستقبل، وهو مفهوم تخلت عنه الدولة اللامعيارية. لذلك، تصبح الخيانة أداة عقلانية للبقاء والتقدم. سيغش الشركاء التجاريون بعضهم بعضاً، وسيقوض الزملاء بعضهم بعضاً من أجل ترقية، وسيبيع الأصدقاء المزعومون بعضهم بعضاً من أجل ميزة تافهة. هذا السلوك يُمزق آخر بقايا التماسك الاجتماعي. يُنظر إلى كل تفاعل من خلال عدسة من الشك، وكل علاقة هي علاقة مؤقتة، قابلة للإنهاء في اللحظة التي تتوقف فيها عن كونها مفيدة.
وما يزيد هذا الانهيار تعقيداً هو الطبيعة الاستعراضية للفضيلة. فالناس يتظاهرون بأنهم أخلاقيون ومتدينون، لكنهم يتصرفون على عكس ذلك. هذا ليس نفاقاً بسيطاً؛ بل هو استراتيجية اجتماعية متطورة. ففي عالمٍ خالٍ من القواعد الأخلاقية الحقيقية، يصبح مظهر الأخلاق عملة قيّمة. فالدين والأخلاق لا يعودان مصدراً للهداية، بل أقنعة تُرتدى، وأدوات لنزع سلاح الآخرين، والإشارة (زوراً) إلى الجدارة بالثقة، وإضفاء الشرعية على الأفعال الأنانية. وهذا يخلق سخرية مجتمعية عميقة، حيث يُشتبه فوراً في أن أي دعوة للفضيلة هي تكتيك تلاعبي، ما يزيد من تسميم بئر الخطاب العام. وبالمثل، يتحدث الناس عن الوطنية دون فهم معناها العميق. وتُختزل الوطنية إلى شعارٍ أجوف، وعَلَمٍ يُلوّح به لإظهار الولاء أو إسكات المعارضة. إنها منفصلة عن المعنى الحقيقي لكلمة 'الوطن' — الأرض التي يرعاها المرء، ويضحي من أجلها ويسعى إلى تحسينها للأجيال القادمة. في الدولة اللامعيارية، 'الوطنية' هي أداة للدفاع عن الوضع الراهن الفاسد، وليست حباً لشعب الأمة أو لإمكاناتها.
العفن الهيكلي: الضائقة الاقتصادية والقيادة المعكوسة:
لا يحدث التحلل النفسي والاجتماعي بشكل منفصل عما يجري على المستوى الاقتصادي والسياسي. إنه سبب ونتيجة للإخفاقات الهيكلية الكارثية في الاقتصاد والحكومة. فارتفاع معدلات البطالة والتضخم الجامح يوفران الواقع اليومي الساحق الذي يُعزز منطق اليأس. فعندما تُغلق السبل المشروعة لتأمين حياة كريمة، يُدفع الناس نحو السبل غير المشروعة. يجعل التضخم المدخرات عديمة القيمة، وهو ما يثبط التفكير طويل الأمد ويشجع على الاستهلاك أو الامتلاك الفوري وغير الرشيد في كثير من الأحيان. وتخلق البطالة المرتفعة جيشاً جراراً من الأفراد اليائسين، وهو ما يُخفض من قيمة العمل والولاء، ويجعل الناس أكثر استعداداً للانخراط في سلوكٍ فاسد أو غادرٍ لتأمين وجود ضئيل. فالضغط الاقتصادي هو القوة المستمرة الطاحنة التي تجعل فلسفة الوقتية المجردة تجربة حية وملموسة.
ولعل السمة الأكثر إدانة للدولة اللامعيارية هي الانعكاس الكامل لهياكل القيادة والجدارة فيها. فهناك حقيقة مؤلمة، مفادها أن لا أحد يستمع لأصحاب المعرفة والحكمة، وهذا الحال هو بمثابة ناقوس الموت لأي إمكانية للتعافي. فعندما تُبخس قيمة الخبرة وتُرفض، فإن المجتمع يعمي نفسه. لم تعد القرارات تستند إلى الأدلة أو العقل أو البصيرة طويلة المدى، بل إلى الأيديولوجيا أو الخرافات أو الولاء أو القوة الغاشمة.
ويؤدي هذا مباشرة إلى حالة من 'حكم الأراذل' أو الكاكستقراطية (Kakistocracy). فالجهلة يشغلون المناصب العليا، ويقررون في أمور لا يفهمونها. هؤلاء ليسوا مجرد أفراد غير مؤهلين؛ بل هم أناس غالباً ما يترافق جهلهم مع غطرستهم. إنهم عاجزون عن تشخيص مشاكل الأمة، ناهيك عن صياغة حلول فعالة. وقراراتهم، المولودة من رحم انعدام النجاعة (الكفاءة)، لا تؤدي إلا إلى تفاقم الأزمات القائمة، وتعميق السخرية العامة، وتسريع الدوامة الهابطة. وقد لاحظت في خيالية غاردينا بأن وزير المالية لا يفهم الاقتصاد، ووزير الصحة يرفض العلم، ووزير العدل لا يحترم القانون — هذه الشخصيات هي مهندسو خراب الأمة.
والعنصر الأخير، وهو أن الشخص المناسب في المكان الخاطئ، هو النتيجة المأساوية والحتمية لهذا النظام. إنه يعني أن النجاعة (الكفاءة) والموهبة قد لا تزالان موجودتين داخل المجتمع، لكن النظام نفسه، في غاردينا مصمم على توزيعهما بشكل خاطئ. قد يكون مهندس لامع عالقاً في دور بيروقراطي لا يمكنه فيه الابتكار. وقد يُهمّش قائد ذو رؤية في منصب بلدي لا حول له ولا قوة. وقد يُعيّن قاضٍ نزيه في محكمة لا ولاية لها على الأقوياء. هذا هو الفشل المنظومي المطلق: نظام لا يكتفي بترقية غير الأكفاء، بل يعمل بفعالية على تحييد الأكفاء. إنه يضمن أنه حتى لو وجدت الحلول، فلا يمكن تنفيذها أبداً.
الخاتمة: الحلقة المفرغة التي تعزز ذاتها في غاردينا:
الدولة اللامعيارية هي حلقة مغلقة من الخلل الوظيفي. فالرعب الوجودي من الوقتية وعدم اليقين يولد الاغتراب والسلوك الأناني قصير المدى. وهذا السلوك، الذي يتجلى في السرقة العامة والخيانة الخاصة، يدمر الثقة الاجتماعية اللازمة لمجتمع فعال. وتوفر الضائقة الاقتصادية الناتجة عن التضخم والبطالة السياق اليائس الذي يجعل مثل هذا السلوك يبدو عقلانياً. ويترأس هذا النظام المعطوب برمته هيكل سلطة معكوس حيث يُحتفى بالجهل، وتُتجاهل الحكمة، وتُهمّش الكفاءة بشكل منهجي. ويعمل الأداء الأجوف للأخلاق والوطنية كمخدر ثقافي، يُخفي رائحة العفن دون معالجة المرض الأساسي.
كل عنصر يعزز العناصر الأخرى. فالقرارات غير الكفؤة للحكومة تزيد الاقتصاد سوءاً، ما يزيد من يأس الجمهور، ويعمق شعورهم بالوقتية، ويبرر الخيانة والسرقة، ويؤكد للجميع أن المجتمع ميؤوس منه. إن كسر هذه الحلقة مهمة جبارة. سيتطلب الأمر صدمة عميقة لدرجة أنها تفرض إعادة تقييم المبادئ التأسيسية للمجتمع. وسيتطلب ظهور قيادات ليست كفؤة فحسب، بل يُنظر إليها على أنها جديرة بالثقة — وهو إنجاز شبه مستحيل في أرض أصبحت فيها الخيانة هي القاعدة. وبدون هذا التحول الجذري، فإن مصير هذا الكيان الزائل هو تحقيق نبوءته الذاتية: أن يكون مجرد ترتيب مؤقت، يتلاشى ليصبح حكاية تحذيرية عن مجتمع فقد روحه، وبذلك، خسر مستقبله.