اخبار الاردن
موقع كل يوم -صحيفة السوسنة الأردنية
نشر بتاريخ: ١٩ تموز ٢٠٢٥
في ظل تعاظم التحديات الاقتصادية التي يواجهها الأردن، من بطالة ومديونية ونسب نمو تصل في احسن حالاتها 2.7%، تتجه الأنظار نحو خطة التحديث الاقتصادي التي أُطلقت في عام 2022، والممتدة حتى 2033، بوصفها خارطة طريق وطنية لتصحيح المسار. ومع أهمية تلك الخطة، تظل النتائج مرهونة ليس فقط بما كُتب فيها، بل بكيفية التفكير في تنفيذها ومواجهة العقبات المتوقعة. هنا تبرز أهمية تبني نماذج عملية ومنهجيات مجربة عالميًا في تحسين الأداء، ومن أبرزها نموذج 'كايزن' الياباني القائم على التحسين المستمر وحل المشكلات بطريقة تشاركية ومنهجية واقعية.
يعتمد نموذج كايزن على فكرة بسيطة وعميقة في آن: لا تنتظر الحل الجذري الكامل، بل حسّن بنسبة صغيرة كل يوم، بمشاركة الجميع، من أعلى الهرم الإداري إلى موظفي الصفوف الأمامية. وهو ما يمكن إسقاطه بمرونة على الحالة الأردنية، لا سيما ونحن أمام مشاكل متداخلة، تتطلب تشخيصًا واقعيًا وتحليلًا جادًا. فحين نناقش مسألة البطالة، مثلًا، فإننا غالبًا ما نحصر النقاش في أرقام نسبية ونغفل عن الأسباب الجذرية المتعلقة بضعف البيئة الاستثمارية، وتضخم القطاع العام، وتراجع التعليم المهني، وتفاوت الفرص بين العاصمة والمحافظات.
إن أول خطوة في كايزن هي تحديد المشكلة بوضوح. وفي السياق الأردني، البطالة ليست مجرد رقم يتجاوز 22%، بل هي عرض لمرض اقتصادي أعمق. فالسؤال هنا ليس: كم عدد العاطلين؟ بل: لماذا لا تُخلق فرص عمل حقيقية؟ ولماذا لا يتوسع الاستثمار؟ ولماذا يعزف الشباب عن العمل في بعض القطاعات؟ هذا النوع من الأسئلة يقودنا مباشرة إلى المرحلة الثانية في كايزن: تفكيك المشكلة إلى أجزائها الصغيرة. فعلى سبيل المثال، يمكن أن نميّز بين بطالة الخريجين، وبطالة النساء، وبطالة الأطراف، وكل واحدة منها لها أسبابها ومسارات حلها المختلفة.
وبعد تحديد الفروع، يأتي دور تحليل الأسباب العميقة. ويستخدم كايزن أداة 'لماذا خمس مرات؟' للوصول إلى جذور المشكلة. لماذا لا توجد مشاريع في الكرك؟ لأن الكلفة التشغيلية مرتفعة. لماذا الكلفة مرتفعة؟ لأن الضرائب متعددة ولا توجد حوافز. لماذا لا تُمنح الحوافز؟ لأن السياسات لا تستهدف المحافظات بشكل خاص. وهكذا، ندرك أن المشكلة لا تتعلق فقط بنقص التمويل أو ضعف الطلب، بل بتصميم السياسات الاقتصادية نفسها، ومدى استجابتها للفروقات المكانية والاجتماعية.
عند هذه النقطة، تصبح الخطة ليست مجرد وثيقة وطنية، بل مسارًا يوميًا يتطلب خططًا تنفيذية مرنة تراعي الواقع. لا يمكن أن نُحدِث أثرًا حقيقيًا دون أن تُصمَّم السياسات على مستوى الميدان، وأن تُشارك فيها البلديات، وغرف التجارة، والجامعات، والمجتمع المحلي. الإصلاح لا يبدأ من الديوان الملكي أو الوزارات، بل من الورش، والمزارع، والمصانع الصغيرة، والمراكز الشبابية. وتلك هي الروح الحقيقية لفلسفة كايزن، التي ترفض الحلول المركزية البعيدة عن الواقع.
التحدي الأكبر ليس في وضع الخطط، بل في تجاوز الفجوة بين التشخيص والتنفيذ. كم من مبادرات ومشاريع طُرحت ثم تراجعت بسبب ضعف المتابعة أو التعارض بين الجهات أو التغيرات السياسية؟ إن فلسفة كايزن تدعونا إلى بناء آليات مستمرة للتقييم والتعديل والتعلم من الخطأ. بدلًا من البحث عن حلول مثالية مرة واحدة، نحتاج إلى مرونة دائمة في تعديل المسار، وتعلم سريع من التجارب، واستيعاب لما يطرأ من تغيّرات في السوق المحلي والعالمي.
ولا يمكن أن نغفل أهمية إشراك الناس في هذه العملية. المواطن الأردني ليس مجرد متلقٍ للسياسات، بل يجب أن يكون شريكًا في صياغتها ومراقبتها. تحسين الخدمات في الطفيلة والمفرق لا يجب أن يُصمَّم في مكاتب عمان الغربية، بل من خلال جلسات استماع مع السكان ورواد الأعمال هناك. إن كايزن يُعلي من قيمة الإنسان في العملية الاقتصادية، ويعيد تعريف دوره بوصفه محورًا للفهم والحل وليس مجرد رقم في تقرير.
هكذا، نبدأ بالتحسين المستمر، ونتجنب عقلية القفزات الكبرى. لا نحتاج إلى اختراعات كبرى بقدر ما نحتاج إلى مراجعات صغيرة، متتالية، عميقة. أن نُعيد النظر في آلية الترخيص، في بيئة التمويل، في نظام التعليم، في علاقة الدولة بالسوق، في عقلية المسؤول، في دور المواطن. فخطة التحديث الاقتصادي، بكل ما تحمله من آمال، لن تنجح إذا بقيت بعيدة عن منطق التدرج، والمشاركة، والشفافية، والتقييم الدوري.
إن الأزمة الاقتصادية في الأردن ليست قدرًا، بل نتيجة تراكمات قرارات وسياسات. وإذا كنا نريد حقًا أن نخرج من عنق الزجاجة، فعلينا أن نعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، بين المركز والأطراف، بين الرؤية والتنفيذ. وكايزن، في جوهره، ليس مجرد نموذج إنتاجي، بل هو ثقافة كاملة تدعو إلى الفهم، والإصغاء، والتعديل، والمثابرة. والأردن، بما يملكه من طاقات بشرية وموقع استراتيجي، قادر على التحول إن هو غيّر طريقة تفكيره قبل أن يغيّر أدواته.