اخبار المغرب
موقع كل يوم -الأيام ٢٤
نشر بتاريخ: ١ كانون الأول ٢٠٢٥
لم يكن الفيديو المسرب من اجتماع لجنة أخلاقيات المهنة والقضايا التأديبية بالمجلس الوطني للصحافة مجرد لقطة عابرة من داخل مؤسسة تنظيمية يفترض فيها الهدوء والرصانة. ما جرى كان أشبه بفتح باب غرفة أُغلقت لسنوات بدعوى حماية الأخلاق المهنية، فإذا بها تكشف صراعا لغويا وسلوكيا وقانونيا يضع التنظيم الذاتي في المغرب أمام أزمة وجودية غير مسبوقة.
فقد أثار الفيديو موجة غضب عارمة داخل الأوساط الإعلامية والنقابية والقضائية والمهنية، وفتح نقاشا حول الشرعية القانونية للمجلس المؤقت، واحترام استقلال الصحافة، وحدود السرية المهنية.
التوقيت لم يكن بريئا، فالمجلس يعيش منذ فترة على إيقاع الجدل حول انتهاء ولايته الأصلية وتسييره عبر لجنة مؤقتة مُعَيّنة حكوميا، في خطوة اعتبرها كثيرون تقويضا لجوهر التنظيم الذاتي. تزامن ذلك مع طرح مشروع قانون جديد لإعادة تنظيم المجلس أثار احتجاجات واسعة من نقابات إعلامية ومنظمات حقوقية، رأت فيه محاولة لتفريغ الاستقلال الذاتي من محتواه وتسليم مفاتيحه لتدخلات سياسية مباشرة. وسط هذه الظروف، جاء تسريب الفيديو ليصب الزيت على نار مشتعلة أصلا، ويحول الجدل إلى صدمة أخلاقية وقانونية.
الفيديو، وفق ما تداوله ناشرون وصحافيون، لم يقدم فقط مداولات داخلية يفترض أن تكون محمية بالسرية، بل كشف لغة حادة وُصِفت بالمهينة، وتلميحات انتقامية تفوق سقف النقد المهني، استهدفت الصحافي حميد المهدوي بشكل جعل النقاش التأديبي أقرب إلى تصفية حسابات شخصية. كما تضمن إقحاما لأطراف خارج المجلس وتلميحات لموضوعات قيد المتابعة القضائية، وهو ما اعتُبر ضربا لمبدأ استقلال القضاء إذا ثبتت صحته، وتجاوزا واضحا لوظيفة التأديب التي يجب أن تبقى محصنة من أي تأثير خارجي.
اللجنة المؤقتة رأت في نشر الفيديو خرقا للقانون، مستندة إلى المادة 18 من نظامها الداخلي التي تمنع تسريب المداولات. أما من سربوه، وعلى رأسهم المهدوي، فيبررون الخطوة بكونها 'تبليغا عن تجاوز خطير يمس المصلحة العامة'. وبين السرية والشفافية يقف سؤال الأخلاق المهنية حائرا: هل يحق للصحفي كشف التجاوز عندما يتعلق الأمر بممارسات غير مشروعة داخل مؤسسة تنظيمية؟ أم أن حماية السرية إطار ملزم مهما كانت الانتهاكات؟
وسط هذا الجدل، برز موقف قوي لاتحاد الناشرين الذين اعتبروا أن اللجنة المؤقتة لا تملك أساسا الشرعية القانونية لاتخاذ أي قرارات، بعدما انتهت ولايتها بموجب القانون، معتبرين أن جميع قراراتها باطلة ولاغية. وطالب الاتحاد بفتح تحقيق لا يقتصر على واقعة التسريب، بل يمتد إلى كامل مسار اللجنة منذ تعيينها، وما إن كانت قد استُغلت لتوجيه القطاع وخدمة فئات بعينها.
الأزمة لم تعد مهنية فقط، بل اكتسبت بعدا سياسيا وإعلاميا دوليا، مع تحذيرات من منظمات دولية تعتبر أن إعادة تشكيل المجلس في هذا الظرف قد تتحول إلى خطوة تقيد استقلال الصحافة بدل أن تعززه. وفي المقابل، يخشى صحافيون أن تُستخدَم الضجة الحالية لتشريع قوانين أكثر تقييدا أو لتصفية حسابات داخل القطاع نفسه، بدل تصحيح منظومة التنظيم الذاتي.
ما حدث، في العمق، لم يكن مجرد تسريب، بل كشفا لمدى هشاشة النظام التأديبي، وعمق أزمة الشرعية القانونية للمجلس الحالي أو اللجنة المؤقتة، واختلال العلاقة بين السلطة الحكومية والتنظيم الذاتي. كما أعاد طرح سؤال قديم بصيغة أكثر إلحاحا: هل يمكن للصحافة المغربية أن تحاسب ذاتها باستقلال، أم أن التنظيم الذاتي صار بدوره بحاجة إلى من ينظم أخلاقه ويحمي استقلاله؟
بين سرية المداولات وحق الجمهور في المعرفة، وبين القانون والأخلاق، يقف القطاع اليوم أمام لحظة حاسمة ومسؤولية ثقيلة. تحقيق مستقل وشامل لم يعد ضرورة فقط لإزالة اللبس، بل خطوة أولى لإعادة بناء الثقة وترميم ما تبقى من صورة التنظيم الذاتي، حتى لا تتحول 'غرفة الأخلاق' مجددا إلى فضاء لتصفية الحسابات بدل حماية شرف المهنة.



































