مقاهي تونس تسع الجميع... ترويح للعامل وملاذ للعاطل
klyoum.com
أخر اخبار تونس:
وائل نوار.. طائرات درون تحلق فوق أسطول الصمودتفضلها الغالبية لسهولة دخولها في أي وقت بأقل الكلف وباتت فضاء جاذباً للهاربين من ضغوط العمل ومسؤوليات المنزل
لم يعد المقهى في تونس مجرد فضاء لاحتساء القهوة، بل أصبح مكاناً للذاكرة الجماعية، ومرايا تعكس التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية للبلاد.
يقول الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار إن البيت هو "كوننا الأول الذي نختبر فيه شعوراً بالدفء" لكن عندما تنقلب المعادلة وتصبح المقاهي ملجأ البعض للهرب من الواقع والمكان الذي يشعرون فيه بالراحة النفسية والتحرر الفكري يكون الأمر مثيراً للاهتمام، إذ أصبحت المقاهي أحياناً بديلاً لفضاءات أخرى ثقافية على غرار دور الثقافة والنوادي والمسارح وقاعات السينما وأصبح المكان الذي يقضي فيه البعض ساعات طويلة ربما هرباً من البيت.
يقول مراد صاحب مقهى في منطقة لافيات بالعاصمة تونس إن "المقهى أصبح البيت الثاني ورواده أصبحوا أفراداً من العائلة، حتى إن بعضهم بات يضبط ساعته يومياً على قضاء بعض الوقت هنا بخاصة بعد العمل وكأنهم يبحثون عن راحة ومتنفس لم يجدوه في مكان آخر".
مهيب العاشوري رجل خمسيني يجلس في ركن من أركان المقهى يقول "لا شيء يعوض راحة البيت لكن المقهى شيء آخر، فهو ذلك المكان الذي نتحدث فيه بأريحية ونضحك ملء قلوبنا، فهذا المكان هو المتنفس الوحيد الذي يفهم متطلباتنا ويراعي كل ظروفنا".
في الوقت الذي لا يتجاوز فيه عدد دور الثقافة بتونس 225 دار ثقافة، يبلغ عدد المقاهي المنظمة نحو 20 ألف مقهى تمكنت من استقطاب جميع فئات المجتمع الذي عجزت عن استقطابه الفضاءات الثقافية بشتى أنواعها.
في هذا الصدد يقول الباحث في علم الاجتماع طارق السعيدي إن "المقهى يمكن تسميته اجتماعياً المكان الثالث أو الفضاء الثالث، بعد الفضاء الأول وهو البيت الذي يتميز بالمسؤوليات والأدوار والفضاء الثاني العمل، وهو في حد ذاته مكان لتأدية واجب ودور محدد".
ويواصل السعيدي "هنا يأتي المجال الثالث بينهم وهو المكان الأصلي للتواصل الاجتماعي الحقيقي والفعلي وليس الافتراضي"، موضحاً "لهذا الفضاء خصائص تجعله المفضل لدى الغالبية، وأهمها سهولة الولوج إليه، أيضاً لا يقع وصم الناس اجتماعياً عند الذهاب إليه يومياً والجلوس بين مقاعده وطاولاته، إضافة إلى انتشاره في كل الشوارع والمدن والقرى، بالتالي يتميز بالقرب".
ويضيف الباحث في علم الاجتماع "المقهى عكس الفضاءات الأخرى على غرار النوادي ودور الثقافة والسينما والمسارح، فالدخول إليه متاح في كل الأوقات وبأقل الكلف وقريب من الجميع، في المقابل الفضاءات الثقافية الأخرى أكثر تعقيداً في الولوج إليها يوميا"، مردفاً "أيضاً يجب على رواد هذه الفضاءات أن يكون لهم رصيد رمزي من الثقافة بحسب الفضاء، بينما المقهى لا يحتاج من يذهب إليه إلى معارف خاصة كإتقانه الموسيقى أو الشطرنج أو غيرها من الأنشطة الثقافية أو الرياضية".
من جانب آخر، يواصل السعيدي "المقهى فيه حرية المواضيع وتنوعها فهو فضاء النقاش العام الذي يحتوي الجميع، وهو مكان لتبادل وجهات النظر وحتى حل بعض الإشكاليات"، مستخلصاً "من خلال هذه الخصائص والدور الاجتماعي المهم الذي يلعبه هذا الفضاء، فقد أصبح مكاناً جاذباً أكثر حتى من الفضاء الأول والثاني أي المنزل والعمل".
وبخصوص انتشار المقاهي في تونس يقول السعيدي "من الناحية الاقتصادية المقهى كمشروع يعد الأفضل والأقل كلفة مقارنة بمشاريع أخرى، إضافة إلى أنه مربح، واجتماعياً امتلاك مقهى بالنسبة للبعض فيه نوع من الاستقرار".
يشار إلى أن أول المقاهي في تونس وجدت في العهد العثماني وتطورت خلال الاستعمار الفرنسي حيث أصبحت مراكز للنقاش والمقاومة الثقافية.
ومن أهم أنواع المقاهي نجد مقاهي شعبية وأخرى عصرية وأيضاً مقاهي ثقافية وأخرى سياحية، فمن أهم المقاهي في تونس وهي مقاه قديمة لها طابع خاص نجد مقهى "تحت السور" وجمع قديماً عديد المثقفين، ومقهى "الهوا" ومقهى "العالية" وأيضاً مقهى "لونيفير" بشارع الحبيب بورقيبة، وهو مقهى يتلاقى فيه أصحاب فكر اليسار من كتاب ومثقفين.
من جانب آخر أكثر واقعية فإن انتشار البطالة أنعش المقاهي وزاد من عدد روادها، بخاصة من فئة الشباب الذي يرى في هذا الفضاء مكاناً للتلاقي والاختلاط بالمجتمع.
الشاب الثلاثيني مروان عمدوني يقول إنه يومياً يأتي إلى المقهى لملاقاة أصدقائه وقضاء بعض الوقت الثقيل بسبب البطالة. ويضيف "المقهى هو المكان الوحيد الذي أشعر فيه بالراحة، بخاصة أن المنزل والعائلة أصبحوا مصدر إزعاج وخجل، أشعر فيه وكأن لا أهمية في وجودي بينما المقهى هو المكان الذي ألتقي فيه بأشخاص تشبهني نبحث معاً عن حلول وطرق للخروج من مأزق البطالة".
وتلفت الباحثة في علم الاجتماع صابرين الجلاصي إلى أن "الواقع الاقتصادي الصعب رفع نسب البطالة والفقر والتهميش، فالفراغ النفسي والمهني هو من أبرز أسباب اكتظاظ المقاهي".
وتشير الجلاصي إلى أن "ظاهرة ارتياد المقاهي بكثرة ترجع إلى أسباب مختلفة اجتماعية واقتصادية ونفسية وحتى سياسية". وتوضح أن "الفراغ الاجتماعي الذي يعيشه التونسي وغياب وسائل الترفيه والأماكن التي من شأنها أن تغير مزاجه، جعلاه يجد الحل في المقهى للترويح عن النفس، فضلاً عن صعوبة الحوار والتعايش داخل الفضاء الأسري وكثرة المشكلات العائلية التي تجعله يهرب إلى مكان أكثر أماناً".
تضيف الجلاصي "لهذا نجد أكثر رواد هذه الأماكن من الرجال، أولاً لأنهم لهم حرية التحرك أكثر من المرأة في كل الأوقات بينما تنشغل المرأة في مجتمعنا بمهام منزلية شاقة".