مسيرة الأستاذ محمّد الراجحي المؤسّس والرئيس السابق للاتحاد الوطني للمكفوفين
klyoum.com
غادرنا صباح يوم الأربعاء 09 جويلية 2025، المربّي وأول من أدخل لغة "لوي براي" إلى تونس والمؤسّس فالرئيس السابق للاتحاد القومي للمكفوفين سنة 1956 لعقود والمستشار السابق للرئيس الحبيب بورقيبة في مجال الكفيف ذوي الحاجيات الخصوصيّة، الأستاذ محمّد الراجحي عن سنّ ناهز 100 سنة وبضع أيّام.
عادل بن يوسف *
وبهذه المناسبة الأليمة وبحكم محاورتي له في بيته بضاحية المنزه في ربيع سنة 2019 بثّ على أمواج إذاعة المنستير على امتداد حلقتين كاملتين يومي الأحد 21 و 28 أفريل 2019، فإني أضع ملخّصا لهذا الحوار على ذمّة قراء مجلتنا الغرّاء، "كابتاليس"، أملا في إنصاف الرجل ونفض الغبار عليه والتعريف به للأجيال الحالية.
المولد والنشأة والدراسة:
ولد الأستاذ محمّد الراجحي يوم 11 جوان 1925 بحيّ معقل الزعيم بتونس العاصمة في أسرة وطنية دستورية. زاول دراسته الابتدائية بمدرسة بالمدينة العتيقة ثّم التحق بجامع الزيتونة حيث أحرز سنة 1950 على شهادة الكفاءة في التربية وشهادة العالمِيّة في الآداب في جوان 1951 وديبلوم المدرسة التونسية للإدارة في سنة 1953.
قصّته مع تلميذ مكفوف بمنزل جميل غيّرت مسيرته المهنيّة ومصيره:
بدأ حياته المهنية كمعلّم بمدينة منزل جميل سنة 1951 حيث انطلقت قصته مع ذوي الحاجيات الخصوصية والكفيف تحديدا. ففي حصصه الأولى لاحظ عدم قدرة تلميذين شقيقين، هما محمود وعمر بوكوم على كتابة ما يوجد في السبّورة على الكرّاس فسألهما عن سبب ذلك فقالا له: "لا نعرف" فوضعهما بالمقاعد الأمامية لكن النتيجة نفسها.
انتظر قدوم والدتهما عند الزوال للحديث معها، فأفادته أنّ عمر فقد البصر كلّية بسبب مرض الرمد منذ مدّة وأنّ هذا الأخير شهد منذ أشهر تراجعا كبيرا في النظر بسب العدوى من شقيقه. حزّ في نفسه هذا الوضع فتوجّه إلى مدير المدرسة الفرنسي للنظر معه في إمكانية إرسالهما للعلاج بالعاصمة، فما كان من هذا الأخير إلا أن أجابه ببرودة دم: "… عذرا لا يمكن السماح لهما بالدراسة في المدرسة لأنّ القوانين الفرنسية تمنع ذلك لكونهما معوقَيْنِ « Invalides» ولا بدّ أن يزاولا دراستهما بمدرسة مختصّة. " !
صُدم بهذا الجواب من قبل موظف فرنسي يمثّل السلطة الحامية بالبلاد. وفي نهاية الأسبوع تحوّل إلى العاصمة بحثا عن مؤسّسة أو جمعية تُعنى بالمكفوفين فوجد فرعا لجمعية فرنسية باحدى شوارع المدينة الأوربية. ولما طرح الأمر على رئيسها قال له: "نحن لا نُعنى إلا بأبناء الأوروبيّين". فكانت خيبته أكبر من الأولى !
ومنذ لك الحين بدأ يراسل في الجمعيات المختصّة بفرنسا وبأوروبا إلى أن تحصّل على رد إيجابي من جمعية فرنسية بباريس اقترحت عليه القدوم في العطلة الصيفية لتعلّم الأبجدية النقطية المعروفة بمنظومة "لوي براي" فشدّ الرحال نحو باريس على حسابه الخاص ليعود إلى تونس بعد تكوين وتربّص دام أكثر من شهرين حاملا معه "شهادة مدرّب مختصّ في كتابة لوي براي".
ولم يكتف بهذه الشهادة، بل واصل الدراسة عبر المراسلة بكل من فرنسا والولايات المتحدة، حيث أحرز على ديبلوم الكفاءة في التربية الخاصة والتأهيل المهني للمعوقين سنة 1952 من باريس وديبلوم في دراسة المناهج المطبّقة في التربية والتأهيل المهني للمعوقين من المعهد الوطني لبحوث الإعاقة التابع لوزارة الصحّة والتربية والرعاية بواشنطن.
مسيرة مهنيّة طويلة وزاخرة بالإنجازات:
منذ مطلع الخمسينات وإلى غاية سنة 2017 شغل الأستاذ محمّد الراجحي عديد الوظائف والمسؤوليات العليا على الصعيدين الوطني والإقليمي و الدولي. كما قام بعديد الأعمال والإنجازات الاجتماعية الإنسانية وهي تباعا كالآتي:
– التعريف بالأبجدية النقطية المعروفة بمنظومة "لوي براي" ونشرها وتدريب المكفوفين على حذقها وتعلّمها باللغتين العربية والفرنسية لأول مرّة بتونس، منذ خريف سنة 1951.
– تأسيس مدرسة خاصة بالكفيف بنهد دار الجلد بالعاصمة وسط محلّ تبرّع له به أحد أقرباهء فجهّزه من ماله الخاص في خريف 1952.
– تأسيس "جمعية الطالب المكفوف" لجمع شتات الطلبة المكفوفين بالجامعة الزيتونية وغرس الاعتماد على النفس تحت عنوان "إرفَعْ رأسك أخي الكفيف" في سنة 1954.
– تأسيس منظمة الاتحاد القومي للمكفوفين في 25 ديسمبر 1956 وتولي الأمانة العامة لها إلى غاية سنة 1982.
– تنظيم أول معرض لمنتوجات الكفيف في تونس المستقلة، أقيم بشارع "قمبطّا" (محمّد الخامس اليوم) في ربيع 1958. وقد تولى تدشينه الرئيس الحبيب بورقيبة بنفسه وكانت له حوارات مع بعض الأطفال المكفوفين.
– إحداث معهد النور للمكفوفين ببئر القصعةسنة 1959 وإدارته إلى غاية سنة 1982.
– تخطيط وتنفيذ بناء معهد الكفيف بسوسة المتخصّص في التعليم الثانوي والتقني للمكفوفين، بداية من سنة 1960. وقد فتح أبوابه بعد تدشينه رسميّا من قبل الرئيس الحبيب بورقيبة وعقيلته وسيلة بن عمّار في خريف سنة 1963. وكانت أول دفعة للباكالوريا بهذا المعهد سنة 1969.
– تأسيس المطبعة الخاصّة بالأبجدية النقطية للخط البارز ببن عروس التي ساعدت على نشر الكتب المدرسية والخرائط الجغرافية البارزة سنة 1962. كما طبعت منذ سنة 1975 القرآن الكريم وصدّرته إلى جلّ الدول العربية والإسلامية حتى يتمكّن الكفيف من قراءة كتاب الله.
وقد تنقّلت بعض الشخصيات الدولية أثناء زيارتها الرسمية لتونس إلى مدرسة النور ببئر القصعة وهذه المطبعة للاطلاع على ظروف ومناهج التدريس والطباعة بها، على غرار كل من: ملكة برسطانيا إيليزابيت وملك المغرب الحسن الثاني ورئيس فرنسا فاليري جسكار ديستان ورئيس السنغال، ليويبولد سيدار سنغور….
– تأسيس مركز التكوين المهني للمكفوفين بسيدي ثابت حيث يتدرب المكفوف الذي لم يسعفه الحظ لمواصلة دراسته على استعمال موزع الهاتف وتعلّم النسيج وصناعة بعض الأدوات المنزلية.
– تأسيس المدرسة العليا للعلاج الطبيعي للمكفوفين بتونس سنة 1969. فبعد الحصول على الباكالوريا يتمكن المكفوف من الالتحاق بها فيتخرج بعد ثلاث سنوات من الدراسة متخصصا في العلاج الطبيعي. وفي سنة 1989 أُلحقت مدارس المكفوفين بوزارة التربية والتكوين.
– إعداد الملتقى الإفريقي للنهوض بالمكفوفين بتونس تحت إشراف الرئيس الحبيب بورقيبة سنة 1963.
– تأسيس المركز النموذجي للتأهيل المهني الزراعي للمكفوفين بسيدي ثابت سنة 1968.
– تأسيس المدرسة العليا للعلاج الطبيعي للمكفوفين سنة 1969.
– تأسيس المدرسة العليا للترجمة الفورية والنقل للمكفوفين سنة 1973 وإعداد المؤتمر الأوروبي – الإفريقي للتعاون بإشراف الرئيس الحبيب بورقيبة.
– تأسيس المركز العربي للبحوث الإفريقي للبحوث وإعداد الإطارات العليا المتخصّصة في إدارة المشاريع النهوض بالمعوقين سنة 1974.
– طبع ونشر القرآن الكريم بطريقة البراي في العالم الإسلامي سنة 1975.
– تنظيم المؤتمر الدولي لتأهيل وإدماج المعوقين بتونس تحت إشراف الرئيس الحبيب بورقيبة.
– تأسيس الأكاديمية القومية لعلوم والتكنولوجيا للمكفوفين بناءًا وتجهيزا بتونس سنة 1981.
– تأسيس المصحّة المتنقلة للوقاية من أمراض العيون داخل الجمهورية سنة 1981.
وبالتوازي مع ذلك شغل خطة مستشار للرئيس الحبيب بورقيبة بالديوان الرئاسي طيلة خمس سنوات مكلفا بشؤون الكفيف وذوي الحاجيات الخصوصية لمدة أربعة عشر سنة كاملة.
– طبع القرآن الكريم ونشره بطريقة البراي لأول مرّة في العالم العربي والإسلامي سنة 1975.
– تأسيس الأكاديمية القومية للعلوم والتكنولوجيا للمكفوفين بناءً وتجهيزا بباب البنات بتونس العاصمة سنة 1981.
تأسيس المصحّة المتنقلة للوقاية من أمراض العيون داخل الجمهورية سنة 1981.
و قبل مغادرته للاتحاد القومي للمكفوفين سنة 1982 شغل منذ سنة 1975 خطة خبير مستشار في مجال ذوي الحاجيات الخاصة والكفيف وكتابة "لوي براي" لدى عديد المنظمات الإقليمية والدولية من بينها: الصندوق الفرنسي الخاصّ بإدماج المعوقين والاتحاد السويسري لهيئات المعوقين وبرنامج الأمم المتحدة ومكتب العمل الدولي… وعمل في 14 دولة وأربع قارات.
واليوم يوجد بتونس حوالي 80 ألف شخص مكفوف و حوالي 160 أف شخص يعانون ضعف البصر، وضعت الدولة على ذمتهم بعض المدارس والإعداديات والمعاهد الثانوية بكل من سوسة وصفاقس وقابس وبئر القصعة، إضافة إلى المدرسة العليا للعلاج الطبيعي التي تمّ إلحاقها بوزارة الصحة تحت اشراف ثلاثي من قبل وزارة التعليم العالي ووزارة الصحة والاتحاد الوطني للمفكوفين. ومنذ تأسيسها تخرج منها حوالي 1000 متخصص في العلاج الطبيعي تمّ تشغيلهم في العديد من المستشفيات بتونس كما درس بها العديد من المكفوفين من البلدان العربية والإفريقية الشقيقة والصديقة، نذكر في مقدمتها المغرب وسوريا وبوركينا فاسو والكونغو والسينغال ومالي… الخ. وهناك من الكفيف من واصل دراسته العليا داخل وخارج تونس ليحرز على درجة الماجستير والدكتوراه في عدة اختصاصات أدبية وعلمية نذكر من بينهم الطالب ريّان دقّاز الذي أحرز يوم 10 جويلة الجاري على شهادة الماجستير في القانون العام ونجح في مناظرة المحاماة وزياد التايب (34 عاما) الذي التحق منذ سنة 2019 بوكالة الفضاء الأميركية (NASA).
تتويج لمسار:
في سنة 2016 أهدى الأستذا فرحات الراجي مكتبته الخاصّة العادية والمتخصّصة إلى المكتبة الوطنية حيث نظمت له المديرة العامة السابقة لدار الكتب الوطنية، الأستاذة رجاء بن سلامة حفلا وتكريما بالمناسبة. ونتيجة هذه اللفتة النبية، أسّس في سنة 2017 المنظمة التونسية لدعم مكتب لوي براي وأمضى مع دار الكتب الوطنية اتفاقية تعاون فنيّ في مجال الكتابة النقطيّة.
وطيلة مسيرته المهنية والجمعياتية حصل على عديد الأوسمة والامتيازات والشهادات الفخرية والميداليات الوطنية والإقليمية والدولية نذكر من بينها:
– الصنف الثالث ثم الثاني من وسام الجمهورية سنتي 1966 و 1977.
– وسام الاستقلال سنة 1975.
– وسام الإمبراطورية البريطانية برتبة ممتاز جدا من جلالة ملكة بريطانيا العظمى سنة 1980.
– وسام جوقة الشرف الفرنسي برتبة ضابط سنة 1981.
– وسام الاستحقاق الاجتماعي من الصنف الأول للجمهورية الفرنسية.
– وسام الملك "ليوبولد الأول" البلجيكي برتبة فارس للحكومة البلجيكية سنة 1974.
– الميدالية الذهبية لمكفوفي الحرب من ألمانيا سنة 1976….
هذا وقد أقيم موكب دفن المرحوم بمقبرة الزلاج يوم الأربعاء 09 جويلية إثر صلاة الظهر وسط أفراد عائلته وأقاربه وأصدقاءه ورفاق دربه.
رحم الله الفقيد محمّد الراجحي ورزق ابنه المحامي عزيز وابنته الجامعيّة غادة وكل مكفوف
ي تونس جميل الصبر والسلوان. وإِنَّمـا المَـرءُ حَـديـثٌ بَـعـدَهُ فَكُن حَديثـاً حَسَنـاً لِمَـن وَعَـى (ابن دريد).
* باحث جامعي في التاريخ.