المسنون في تونس بين التجاهل والحاجة للرعاية
klyoum.com
تشهد البلاد تحولاً ديموغرافياً ملحوظاً يتمثل في ارتفاع نسبة كبار العمر
يعيش عدد كبير من المسنين في تونس أوضاعاً صعبة بين العزلة الاجتماعية وتدهور الحال الصحية وغياب الرعاية الكافية، في ظل منظومة اجتماعية وصحية لا تزال عاجزة عن الاستجابة لحاجاتهم المتزايدة، مما زاد في عزلتهم الاجتماعية، وعلى رغم تطور المؤشرات الديموغرافية وارتفاع نسبة كبار السن في المجتمع، لا تزال السياسات العمومية الموجهة إليهم محدودة أو غير فاعلة.
وعلى رغم مساعي وزارة المرأة والأسرة وكبار السن لإيجاد معادلة تضمن لكبار السن حقهم في حياة كريمة وهادئة، فإن الطريق نحو تحقيق هذا الهدف لا يزال غير ممهد، وسط تحديات بنيوية واجتماعية واقتصادية تبقي هذه الفئة في دائرة الإقصاء والتجاهل.
العم صالح الوهايبي، مسن سبعيني، يجلس يومياً منذ ساعات الصباح الأولى في مقهى حيهم الشعبي بالعاصمة تونس مع مجموعة مسنين يتجاذبون أطراف الحديث ويناقشون أوضاع البلاد والعباد وظروف الحياة الصعبة، ومعاناتهم في المستشفيات العمومية التي أرهقتهم وزادت من عذاباتهم.
يقول العم صالح "أجلس هنا لأمضي بعض الوقت الذي أصبح طويلاً جداً بخاصة أنني مسن، ولم أعد أستطيع العمل على رغم أنني أشعر بأن صحتي جيدة وبأني قادر على العمل. كنت أعمل سائق سيارة أجرة بعد أن تقاعدت من عملي في مصنع أحذية، لكن بعد أعوام من العمل رفضوا تجديد رخصة سوق السيارة لأنني تجاوزت السن القانونية. تمنيت لو واصلت العمل لأعيل نفسي وزوجتي المسنة والمريضة، لكن القانون أحياناً جائر ولا يدرك جيداً الحالات الاجتماعية التي يعيشها المسنون مثلي".
أما العم عبدالسلام الوغلاني، وهو سبعيني أيضاً ومدرّس متقاعد، فيقول "الوقت يمر ثقيلاً وتشعر بأنك لا تفعل شيئاً لنفسك ولا لمن حولك. عملت أكثر من 30 عاماً في المدارس العمومية، وعلمت أجيالاً، وحتى بعد التقاعد درست في مدارس خاصة لكن اليوم لم أعد مهماً لأحد. اليوم في عمر الـ 78 سنة لم أعد قادراً على العمل بسبب المرض والشيخوخة".
ويرى العم عبدالسلام أن المسن في تونس يوضع على الهامش وينتهي دوره في الحياة مع انتهاء عمله، متمنياً أن يكون في حيه الشعبي مكان مخصص للمسنين والمتقاعدين يحوي أنشطة فكرية وثقافية وحتى يدوية لتمضية الوقت وتحسين الحال النفسية والعزلة التي يعيشها المسن.
وإن كان العم عبدالسلام والعم صالح محظوظان، نسبياً، إلا أن الخالة مريم تعيش في منزلها بمفردها بعد موت زوجها من دون راتب تقاعدي وتعتمد على مساعدات الخيّرين وجمع قوارير البلاستيك، وتقول "كل يوم، منذ الصباح الباكر، أقوم لجمع القوارير التي يتركها لي أهل المنطقة حيث أعيش من أجل ضمان قوتي اليومي. وبسبب الأمراض المزمنة التي أعانيها أصبحت الكلف كثيرة جداً، إضافة إلى كلف الحياة الأخرى"، وتشدد على ضرورة قيام الدولة بالبحث عن وسيلة لمساعدة أو إعالة المسنين "ومن لديهم ظروف اجتماعية صعبة مثلي".
يشار إلى أن تونس تشهد تحولاً ديموغرافياً ملحوظاً يتمثل في ارتفاع نسبة كبار السن في المجتمع، وتفيد إحصاءات رسمية بأن هذه النسبة بلغت 11.4 في المئة، ومن المتوقع أن تصل إلى 18 في المئة بحلول عام 2030، وقد تزيد لتصل إلى 21 في المئة عام 2034. وهذا التحول الديموغرافي يؤكد الحاجة الملحة إلى بنية تحتية قوية لرعاية كبار السن وإلى أطر قانونية متينة تنظم هذا القطاع الحيوي.
في هذا الصدد قال الكاتب العام للجامعة العامة للمتقاعدين التابع للاتحاد العام التونسي للشغل عبدالقادر نصري "تزايد أعداد كبار السن يستلزم اتخاذ تدابير قانونية وسياسات استباقية لمعالجة الطلب المتزايد على خدمات رعاية المسنين وضمان رفاهية كل من كبار السن ومقدمي الرعاية لهم"، مضيفاً في تصريح خاص أن "الوضع العام للمسنين في تونس صعب جداً، وكارثي أحياناً. عدد المتقاعدين الذين يتحصلون على رواتب تقاعدية من الدولة يبلغ نحو مليون و200 ألف شخص من بينهم قرابة 700 ألف من متقاعدي الوظيفة العمومية، يعانون ظلماً يتمثل في حصولهم على رواتب تقاعدية تقل عن مستوى الأجر الأدنى، ويتقاضون منحة شيخوخة لا تتجاوز 350 ديناراً أي نحو 100 دولار فقط"، وسأل نصري عن مصير هؤلاء "في ظل تراكم الأمراض المزمنة وتجاهل الدولة لهم ولحاجاتهم؟". وأشار أيضاً إلى أن جامعة المتقاعدين وجهت عدداً من المراسلات إلى وزارة الشؤون الاجتماعية لبحث مطالب هؤلاء المسنين، لكنها لم تتلقَّ أي رد على رغم تثمينها قرار الترفيع في الأجر الأدنى المضمون. وتحدث نصري عن معاناة عدد كبير من المسنين في تونس تتمثل في التأمين الصحي وعدم تسلّم مستحقاتهم من الصناديق الاجتماعية.
من جانبها أفادت رئيسة الجمعية التونسية لطب المسنين وعلوم الشيخوخة إيمان القسنطيني بإدراج بداية من شهر ديسمبر (كانون الأول) المقبل اختصاص طب الشيخوخة كاختصاص قائم بذاته، على غرار بقية الاختصاصات الطبية الأخرى لتكون الدفعة الأولى خلال الأعوام الخمسة المقبلة. وأضافت القسنطيني على هامش افتتاح أشغال المؤتمر الوطني الرابع لطب المسنين وعلوم الشيخوخة أنه تمت المصادقة، خلال اجتماع ممثلي الجمعية مع وزير الصحة بتاريخ الـ25 من أغسطس (آب) الماضي على إحداث هذا الاختصاص بهدف إحاطة المسنين وتوفير الرعاية الصحية اللازمة لهم، معتبرة الأمر حدثاً رئيساً لمستقبل طب الشيخوخة في تونس، وبيّنت أنه ستجري مناقشة القوانين المطروحة في ما يتعلق بهذا الاختصاص المهم في البلاد لما تشهده من تهرم سكاني.
وبحسب الباحث السوسيولوجي ممدوح عز الدين، فقد تغيرت بنية الأسرة التونسية من النمط الممتد إلى الأسرة النووية (أسرة تتألف من الأم والأب والأبناء فقط) ببروز ظواهر مثل العزلة الأسرية، ولفت إلى أن هذا التحول يعبّر عن انتقال من نموذج "السلطة العمرية" إلى نموذج "الفاعلية الاقتصادية"، إذ "يقاس الدور الاجتماعي بمقدار القدرة على توفير المال والقدرة على الإنتاج لا على الحكمة أو التجربة في الحياة".
في السياق، رأى الفيلسوف وعالم الاجتماع أندريه غورز أن الرأسمالية الحديثة تفرز ما يمكن تسميته "اللاجدوى الاجتماعية"، وهي حال تهمش ضمنها فئات لا تنتج اقتصادياً على رغم امتلاكها رأسمالاً رمزياً وثقافياً كبيرين، وفي ظل سيادة منطق النجاعة الإنتاجية يصبح كبار السن، بحسب تفسير غورز، عبئاً بدلاً من أن يكونوا مورداً معنوياً وثقافياً، مما يجعلهم عرضة للإقصاء الصامت.
وسط هذه الأجواء، أكدت وزارة المرأة والأسرة والطفولة والمسنين عبر بيان لمناسبة إحياء اليوم العالمي للمسنين في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام أن هذه المناسبة الأممية تشكل فرصة سنوية لتأكيد التزام تونس تنفيذ تعهداتها الدولية وتوجهاتها الوطنية في مجال رعاية كبار السن، ومواصلة العمل على التعاطي الفاعل مع قضاياهم وتعزيز مكانتهم وتدعيم حقوقهم، انسجاماً مع أحكام الدستور والتشريعات الوطنية المتلائمة مع منظومة حقوق الإنسان. وأضافت وزارة المرأة أن هذه المناسبة تشكل فرصة لتجديد الالتزام الوطني بدعم حقوق كبار السن، من خلال اعتماد مقاربة تشاركية تتسم بالشمولية، لضمان جودة حياة كبار السن ورفاههم ونشر ثقافة "الشيخوخة النشيطة والدامجة"، ودعم المواطنة الكاملة والفاعلة لكبار السن والاستفادة من خبراتهم والاستئناس بتجاربهم وتشجيع مبادراتهم في ظل التحولات والمتغيرات المتسارعة. وشددت في هذا الصدد على الدور الفاعل والحيوي لكبار السن في بناء تونس وتشييد منجزها وتنشئة أجيال الغد وتعزيز مقومات التماسك الأسري والتوازن المجتمعي، لافتة إلى أن تونس تحرص على انتهاج مقاربة وطنية متعددة الأبعاد تضمن تمكين هذه الفئة من عيش كريم وشيخوخة آمنة ونشيطة، ضمن منظومة رعاية شاملة تشمل الدعم الأسري والرعاية المؤسساتية البديلة لفائدة فاقدي السند العائلي والمادي، إذ كثفت الوزارة من تدخلاتها عبر جملة من الآليات والبرامج الخصوصية الموجهة لهذه الفئة.
يشار إلى أن الوزارة وسعت من شبكة الفرق المتنقلة لتقديم الخدمات الصحية والاجتماعية في البيت ليصل عددها إلى 49 فريقاً العام الحالي تغطي 19 محافظة، وتقدم خدماتها إلى نحو 5000 مسن ومسنة، ودعّمت برنامج الإيداع العائلي لكبار السن الذي ينتفع به حالياً 456 مسناً ومسنة.
ويبلغ عدد مؤسسات رعاية كبار السن 13 مؤسسة، تسع منها وظيفية وأربع في طور التهيئة أو إعادة البناء، فضلاً عن شروعها في مراجعة وتحيين المنظومة التشريعية المتعلقة بكبار السن، بما في ذلك القانون عدد 114 لسنة 1994 المتعلق بحماية المسنين، والعمل على إعداد قانون أساسي جديد يتعلق بحماية حقوق كبار السن، ومراجعة كراسات الشروط المتعلقة بإحداث وتسيير مؤسسات الرعاية والإيواء، بما يستجيب لمتطلبات الجودة ودفع الاستثمار في هذا القطاع الاجتماعي الواعد.
وجددت الوزارة التزامها تنفيذ الاستراتيجية الوطنية متعددة القطاعات لكبار السن في أفق عام 2030 من خلال العمل على استكمال إعداد الخطة التنفيذية لهذه الاستراتيجية وفق مقاربة تشاركية والانطلاق في تنفيذها خلال المرحلة المقبلة.