أبناء الجبل في تونس يعانون ولا يبرحون الذرى
klyoum.com
أخر اخبار تونس:
تنس.. تونس تحصد 5 ميداليات في بطولة إفريقيا للناشئينيرفضون النزول إلى المدن ومفارقة مرابع الأجداد على رغم شح المياه وقسوة الطبيعة وانصراف الدولة
ونحن في أعلى قمة من قمم سلسلة جبال الظاهر ومطماطة التي تربط تونس بالجزائر غرباً، وبليبيا شرقاً، حضرتنا المقولة الشهيرة المنسوبة إلى طارق بن زياد عند فتح الأندلس "أيها الناس... أين المفر؟" لنتخيل أن أول من اتخذ من هذا المكان مسكناً منذ القدم توجه بالخطاب إلى أبناء عشيرته من عرب وبربر وأمازيغ ولسان حاله يقول "البحر وراءكم، والعدو أمامكم، وقمم الجبال من خلفكم، وها هنا أنتم بين أحضانها آمنون، بعيدون من أخطار العدو".
هنا سنحاول استكشاف قصة أبناء الجبل في هذه المناطق النائية جنوب شرقي تونس، ورصد مظاهر عيشهم، أفراحهم وأتراحهم، وحلهم وترحالهم في هذا المكان على رغم شظف العيش وقساوة الظروف، لنجيب بالتالي عن التساؤل: كيف فعلوا ذلك وما زالوا يفعلونه إلى الآن؟
مطماطة وتوجان وتمزرط وتاوجوت وغيرها من القرى الجبلية المنتشرة في سلسلة جبال الظاهر ومطماطة، وحدها بقيت شاهدة على تاريخ المنطقة التليد والفريد من نوعه عالمياً بفضل تمسك أهلها بها على رغم صعوبة العيش إلى درجة الاستحالة في بعض الأحيان، فبيوتها منحوتة في أعالي الجبال لا تزال تروي قصة شموخ أهلها.
بعد مرورنا بتوجان الجديدة في سفح الجبل، استقبلتنا قرية توجان الأمازيغية القديمة المعلقة في أعلى قمة الجبل، والتي تعني باللغة الأمازيغية "عين الجبل"، وهنا لا تكاد تميز مباني القرية من صخور الجبل، بينما تتخللها بعض أشجار الكروم والنخيل.
في مدخل توجان القديمة أسس ابن المنطقة بشير الحسناوي استراحة لضيوفها، يعد لهم أشهى الأطباق الخاصة بالأمازيغ، والتي تقوم أساساً على ما تجود به هذه القرية الجبلية من منتوجات فلاحية ولحم الضأن.
بشير الذي رفض كغيره من شباب الجبل النزول إلى المدن ومغادرة مسقط رأسه، حدثنا عن توجان وعن مشروعه الذي ضمن له البقاء هنا. يقول إن اسم توجان يعني "أم القبائل" أو "بداية الوادي الجبلي" نسبة إلى العيون التي كانت هنا كما روى له أجداده.
ويضيف أن سر اختيار المكان يعود إلى الجانب الأمني بالأساس، فهي في قمة الجبل، فضلاً عن أنها تطل على البحر والصحراء معاً، ما يعطيها بعداً استراتيجياً يساعد على التخفي والهرب من الغزوات والغارات التي كانت تحدث بالمنطقة في قديم الزمان، فضلاً عن تميزها بالإنتاج الفلاحي من عسل وزيتون وكروم.
يقول الحسناوي إن معظم أهل توجان هجروها الآن بسبب الجفاف ونقص الأمطار، وأكبر إشكال تعانيه البقية الباقية منهم هو شح الماء. ومع ذلك اختاروا البقاء والتمسك بالمنطقة، فهي الروح ورائحة الأجداد بالنسبة إليهم.
غير بعيد منه تمسّك بكار بمعصرة الزيتون التقليدية وبعض الكروم والماعز لإعالة عائلته الوفيرة العدد، داعماً نشاطه بمتجر صغير على الطريق يعرض فيه منتجات ضيعته. أما عن سبب تمسكه بالجبل فهو الحنين لماضي أجداده والقرية المباركة، كما يقول.
بشير وبكار جمعهما الجبل وسحره وتاريخه الأصيل، لكن المصاعب وضيق ذات اليد وندرة المياه والعزلة جمعتهما أيضاً، حياتهما هنا صعبة للغاية، والمدى يصير أضيق يوماً بعد يوم.
تبعد أقرب قرية في طريقنا غرباً عن توجان نحو 50 كيلومتراً. تاوجوت، هذه القرية الجبلية الأمازيغية مئة في المئة، تقطنها نحو مئة عائلة، ويعمل سكانها في الحرف التقليدية والزراعة والرعي والتجارة، التصاقهم بالجبل يكاد يكون كاملاً، فمنازلهم محفورة فيه، وبها عدد من الأنفاق المرتبطة ببعضها بعضاً، والتي استعملها سكانها الأوائل للتخفي من الغزوات.
هناك التقينا علي، الناشط في مجال المحافظة على تراث المنطقة، الذي حدثنا عن "قصر أغاسرو" في أعلى جبل تاوجوت، حيث تجمع حوله الأهالي في مجموعة غيران وغرف محفورة وبعض البيوت المبنية بالحجارة، تجمع بينها أنفاق يتيح بعضها الهرب في حال الغزو، كما أنها تطل على الجهات الأربع لرصد المغيرين والمعتدين عند قدومهم، وعلى رغم صعوبة الحياة هنا يرتبط علي بقريته المباركة بكل موروثها وروحانيتها، كما يقول.
وللنسوة أيضاً من التمسك بقرى الجبل نصيب. منى رمضاني تلك الشابة التي حفرت منزلها مع عائلتها هنا حولت شغفها بالمكان إلى أعمال إبداعية تقوم على الموروث المادي وغير المادي، وبخاصة الصناعات التقليدية والحلي الجبلية ونسيج صوف الحيوانات. تقول منى التي أطلقت مشروعاً حرفياً على رغم البعد والعزلة إنها تريد أن تكون مثالاً للفتيات من تاوجوت حتى لا يقتل اليأس أملهن في العيش هنا على رغم الفقد، ولا يغرهن بهرج المدينة ليتركن الجبل.
ولئن كان أهالي المناطق الجبلية قد قاموا بنحت معظم منازلهم في الصخور، فإن فئة أخرى منهم حفرتها بحسب طبيعة المكان والتضاريس، وما ساعدهم على التأقلم هو اعتمادهم على الاكتفاء الذاتي، يحرثون الأرض خريفاً ويحصدون صيفاً، ويربون الماشية بين هذا وذاك.
الكيلاني دربال، أحد سكان ديار الحفر بقرية قصر بن عيسى في منطقة مطماطة القديمة، يعود منزل عائلته إلى أكثر من 300 سنة، وعاشت فيه أربعة أجيال من عائلته. إن جبالهم صامدة، وآمالهم واعدة على رغم كل شيء، يقول محدثنا، فسكان ديار الحفر يعتمدون على مبدأ الاكتفاء الذاتي، وهذا سر بقائهم وصمودهم هناك، ولا نية لديهم في المغادرة مهما كانت الصعوبات.
جولتنا في أعالي سلسلة جبال الظاهر بينت لنا مدى تمسك أهالي هذه القرى الجبلية بها، وعمق حرمان هذه المناطق من حقوقها في الحصول على الخدمات الأساسية مثل الماء والرعاية الصحية والتعليم الجيدين والبنية التحتية.
المفارقة تبدو صعبة بين اختيار البقاء أو الرحيل بالنسبة إلى أبناء الجبل الذين لا يزال جلهم متمسكاً بمسقط رأسه، وهنا كان لزاماً على بعض الأطراف من التدخل لفائدتهم ما بين مجهودات الدولة ومنظمات المجتمع المدني.
انطلقت جمعية "مبادرة مدنين" عام 2014 في إطار تعاون لا مركزي بين محافظة مدنين التونسية ومقاطعة نيرو الفرنسية. يقول مؤسسها نور الدين الكسيكسي إن هدفها تشجيع شباب المناطق النائية والجبلية عبر تقديم قروض لمساعدتهم على إنشاء مشاريع خاصة بهم، ووجهت تدخلاتها إلى مناطق سلسلة جبال الظاهر لتكرس مفهوم السياحة البديلة من الشواطئ إلى الجبال عبر تثمين الموروث المادي وغير المادي لهذه المناطق قصد إحيائها ومساعدة سكانها على البقاء فيها.
ووفق الكسيكسي مولت الجمعية عشرات المشاريع في المناطق الجبلية، وساعدت شبانها من أبناء الجبل من حيث التمويل والمرافقة في مجال السياحة البديلة وكل ما يتعلق بتنقل السواح من المناطق الشاطئية والساحلية إلى الجبلية، وبخاصة في سلسلة جبال الظاهر ومطماطة بدءاً من محافظة تطاوين إلى حدود محافظة قابس، وفي أقصى جنوب الصحراء التونسية بمنطقة قصر غيلان.
وما ساعد على بعث هذه المشاريع ودعم أبناء مناطق الجبل في رحلة البقاء بهذه المناطق العصية على السكن، هو تثمين الموروث الثقافي والمعالم الأثرية والتاريخية التي تزخر بها المنطقة الزاخرة بقصور البربر والمساكن المنحوتة في الجبال.
إن مقاربة موضوع تمسك سكان الجبل وأبنائه بالعيش فيه، وقدرتهم على الصمود هناك على رغم قساوة العيش وندرة الماء والكلأ وغياب التنمية الحقيقية، لا يمكن أن تستقيم من دون فهم الجذور التاريخية لسكان هذه المناطق والبنية المجتمعية والأنثروبولوجية التي تحكمهم.
يقول الباحث في التاريخ محمد ذويب، إن سكان الجبل في الجنوب الشرقي التونسي هم من السكان الأصليين الأمازيغ وقبائل بني هلال التي هاجرت إلى المنطقة من صعيد مصر، وهو ما يفسر قدرتهم على التأقلم مع طبيعة المكان ويفسر تمسكهم به، لذلك تجدهم يرفضون النزول من هذه الأماكن على رغم الدعوات المتلاحقة لذلك، ففرادة سكان هذه المناطق الجبلية وخصوصياتهم مستوحاة من واقعهم المعيش هناك.
ويضيف ذويب أن المستعمر الفرنسي كرس ما وصف بـ"كونفيدرالية ورغمة"، وظلت مناطق جبال الظاهر مناطق عسكرية مغلقة، لتعقب ذلك فترة بناء الدولة بعد الاستقلال التي لم تول تلك الجهة حقها من التنمية الحقيقية، مما زاد في عزلة هذه المناطق، وبقي نمطها الاقتصادي قائماً على مبدأ سد الرمق.
تؤكد الباحثة في الإنثروبولوجيا منيرة الرزقي، أن القرى الجبلية في الجنوب التونسي يعود إنشاؤها إلى 1800 سنة قبل الميلاد، وسكانها الآن هم أبناء السكان الأصليين لهذه المناطق، الذين لم ينصهروا مع بقية القبائل المجاورة، أو يندمجوا مع بقية قبائل المنطقة، وهو ما يفسر تمسكهم بهذه المناطق وارتباطهم الوثيق بها ومحافظتهم على عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم المجتمعية التي لم يفرطوا فيها.
وتضيف الرزقي أن ظاهرة سكان الجبل وأبنائه متعددة الأبعاد بين ما هو رمزي ومادي وسلوكي وعاطفي، وهو ما يعني نظاماً من الرموز المكثفة التي أسهمت في تشكيل الهوية الجماعية لأهل هذه المناطق.
إن الشعور العميق بالانتماء والارتباط العاطفي بالمكان يتجاوز مفهوم "مسقط الرأس" أو المكان الذي يقضي فيه الإنسان مرحلة ما من عمره بما فيها من ذكريات وروابط اجتماعية، وفق الرزقي، التي تؤكد أن المسألة تتحول إلى ارتباط بالهوية والانتماء الجماعي الذي لا وجود للفرد خارجه، بالتالي لا وجود له خارج هذا المكان الذي هو الجبل في هذه الحال.