×



klyoum.com
tunisia
تونس  ٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥ 

قم بالدخول أو انشئ حساب شخصي لمتابعة مصادرك المفضلة

ملاحظة: الدخول عن طريق الدعوة فقط.

تعبر المقالات الموجوده هنا عن وجهة نظر كاتبيها.

klyoum.com
tunisia
تونس  ٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥ 

قم بالدخول أو انشئ حساب شخصي لمتابعة مصادرك المفضلة

ملاحظة: الدخول عن طريق الدعوة فقط.

تعبر المقالات الموجوده هنا عن وجهة نظر كاتبيها.

موقع كل يوم »

اخبار تونس

»سياسة» أنباء تونس»

الضرورة التاريخية لانتقال ديمقراطي توافقي في الجزائر

أنباء تونس
times

نشر بتاريخ:  الأحد ٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥ - ١١:١٢

الضرورة التاريخية لانتقال ديمقراطي توافقي في الجزائر

الضرورة التاريخية لانتقال ديمقراطي توافقي في الجزائر

اخبار تونس

موقع كل يوم -

أنباء تونس


نشر بتاريخ:  ٢ تشرين الثاني ٢٠٢٥ 

يعدّ تاريخ 1 نوفمبر 1954 أقوى رمز في تاريخ الجزائر، إذ عبّر عن إرادة التحرّر من الهيمنة الاستعمارية وعن السعي إلى تأسيس دولةٍ حديثة. غير أنّ الاستقلال لم يكن سوى مرحلةٍ وفقاً للحركة الوطنية؛ فالغرض الحقيقي كان تحقيق التنمية الاقتصادية وبناء الدولة الحديثة. وبعد مرور واحدٍ وسبعين عاماً على ذلك التاريخ، أين وصلت الجزائر؟

لهواري عدي & كريم نايت أوسليمان *

يبدو أنّ النفَس التاريخي لثورة نوفمبر 1954 لم يصمد بعد الاستقلال، وأنّ النخب الحاكمة فقدت البوصلة تجاه الوعد الأساسي للحركة الوطنية. إنّ تأسيس الدولة الحديثة، الذي بدأ ببناء سلطةٍ مركزية، قد أُعِيق بسبب تقلباتٍ تاريخيةٍ ينبغي تحليلها بموضوعية، مع التساؤل: ما نصيب الفاعلين في نظامٍ لم يعودوا يتحكمون في مساره؟ هل النظام هو الذي يهيمن على الفاعلين؟ أم أنّ هؤلاء، رغم مصالحهم، ما زال بإمكانهم التأثير في منطقه المجرد من الروح؟ هذه المسألة تُطرح لأنّ تاريخ البلاد أفرز نظاماً فرض على قادته منطقاً يتجاهل مصالح الأمة. ومن هنا تبرز ضرورةُ انتقالٍ لم تعد مسألةً قابلةً للنقاش لكلّ من يراقب بموضوعية المجتمع الجزائري. فالمسألة لم تعد تتعلق بمعرفة ما إذا كان الانتقال ضرورياً، بل بتحديد طبيعته وهدفه. هل هو مجرد انتقالٍ انتخابيٍّ داخل نظامٍ قائم، أم عمليةٌ توافقية قادرة على إعادة تعريف مصدر السيادة والمؤسسات التي تُمارَس في إطارها؟ وبعبارةٍ أخرى: هل يجب أن يتمّ الانتقال ضمن الأشكال الموروثة عن النظام، أم أن يُعاد تشكيلها من جديد؟ هذه هي المسألة السياسية الجوهرية في الجزائر التي تتطلب اليوم إجابةً عاجلة. ولهذا الغرض، لا بدّ من العودة إلى نشأة النظام في المرحلة ما بعد الاستعمارية وتقلباتها التاريخية.

1

ماذا يقول تاريخ الجزائر القريب؟ إنّ جذرية السلطة الاستعمارية التي كانت ترفض أيّ إصلاح، قد دفعت الحركة الوطنية إلى عسكرة العمل السياسي وإنشاء جهازٍ عسكري بهدف تحقيق التحرير الوطني. كانت السلطة الاستعمارية ترفض أيّ أفقٍ لاستقلالٍ متفاوضٍ عليه، فأنشأت جبهة التحرير الوطني جيشاً سرياً لقيادة الانتفاضة عام 1954. لكن عشية الاستقلال، خرج هذا الجهاز العسكري عن سيطرة قيادة الجبهة. ونتيجة لذلك، لم يكن للحزب القدرة على مواجهة الانقلاب الذي نفّذه أركان الجيش ضد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (GPRA)، رغم مقاومة جزءٍ من إطارات جيش التحرير الوطني في الداخل. بين شهري يونيو وأغسطس 1962، حُسم ميزان القوى عسكرياً: فقد فرضت قوات الخارج، الأفضل تسليحاً، هيمنتها على قوات الداخل. وقد رسّخ هذا الحدث المركزية العسكرية في ممارسة السلطة. واكتمل المسار في يونيو 1965 عبر الانقلاب الذي أطاح بالرئيس أحمد بن بلّة، المنتخب عام 1963، والذي كان أيضاً الأمين العام للمكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني، الهيئة التي كان يُفترض أن تجسّد السيادة الشعبية. تمّ حلّ المكتب السياسي واستبداله بـ مجلس الثورة، الذي هيمن عليه العسكريون وترأسه العقيد هواري بومدين.

وهكذا تحرّرت القيادة العسكرية من أيّ سلطةٍ مدنية، وتمّ ابتلاع السياسة داخل البنية العسكرية التي فرضت نفسها كمصدرٍ وحيدٍ للشرعية. لم يُستعد بعدها التعدد الحزبي الذي كان موجوداً قبل 1954. فعلى الرغم من أنّه كان محدوداً ضمن الإطار الاستعماري، إلا أنّه كان واقعاً قائماً. فقد كان حزب الشعب الجزائري – حركة انتصار الحريات الديمقراطية (PPA-MTLD)، والاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري (UDMA)، وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، والحزب الشيوعي، أحزاباً تُعبّر عن مختلف الحساسيات الأيديولوجية للمجتمع. بدلاً من إحياء هذه التقاليد وتوسيعها، أنهى النظام الناشئ وجودها، مُؤَسِّساً أولوية العسكري على السياسي، ومحولاً جبهة التحرير الوطني إلى ملحقٍ إداري أُوكلت إليه مهمة إدارة ذاكرة حرب التحرير.

عام 1962، لم يتم نزع الطابع العسكري عن السياسة رغم مبدأ مؤتمر الصومام الذي نصّ على أولوية السياسي على العسكري، رغم أنّ هيمنة العسكري على السياسي ليست جزءاً من الثقافة السياسية الجزائرية؛ بل وُلدت من تقلباتٍ تاريخية ارتبطت بتاريخ الحركة الوطنية التي أنشأت جهازاً عسكرياً خرج عن سلطتها السياسية. هكذا سمحت العقدة الأولى من الاستقلال بتثبيت السيادة الوطنية وإرساء سلطة مركزية في استمرارية مباشرة لمشروع الحركة الوطنية، لكنها أيضاً أرست نظاماً مؤسساتياً جَمَد الحياة السياسية بدلاً من أن يفتحها لمواكبة بناء دولةٍ حديثة قائمة على الشرعية الشعبية.

صحيح أنّ نشوة الاستقلالات قد خلقت، على مستوى العالم الثالث، حالة انبهارٍ قلّلت من وزن الحقائق الواقعية. ففي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كانت الخطابات الشعبوية للعالم الثالث تهيمن على المشهد السياسي للدول المستقلة حديثاً. ورغم رفضها للرقابة الشعبية، كانت هذه الأنظمة تؤكد ضرورة حماية الشعوب من الهيمنة الإمبريالية وتحقيق تنمية اقتصادية لم يكن ضعف البرجوازيات الوطنية يسمح بالقيام بها.

وفي هذا السياق، برز بومدين، الشاب العسكري المتأثر بعصره، كـزعيم سياسي يقدّم نفسه مدافعاً عن الطبقات الشعبية وضامناً لمشروع العدالة الاجتماعية. كان نموذجه هو التحديث السلطوي الذي يهدف إلى تصنيع البلاد. ولهذا الغرض، حظر التعددية السياسية التي كان يعتبرها عاملاً للانقسام، وألغى استقلالية النقابات، مع وعدٍ بتحقيق وعود الحركة الوطنية: التشغيل، التصنيع، الإصلاح الزراعي، وتعميم التعليم. وبما أن بومدين لم يتكون في حزبٍ أو بنيةٍ نقابية، فقد كان يرى في السياسة تهديداً للتماسك الاجتماعي وليس مجالاً لتنظيم الصراعات. كان مشروعه، الذي بدا لفظياً ثورياً، في الواقع قد فصل الدولة عن المجتمع، وفشل التنمية الاقتصادية التي وعد بها مرتبط مباشرة بهذه البنية: سياسة بلا رقابة شعبية، ولا وسائطٍ اجتماعية، ولا تمثيلٍ مستقل. فقد فتح غياب الوساطة السياسية المجال أمام اللامسؤولية والهدر والفساد. وكان من الممكن لتطبيق رقابة فعلية، سواء عبر انتخاباتٍ تعددية أو عبر حزبٍ يمتلك سلطةً سياسيةً حقيقية، أن يحدّ من هذه الانحرافات. غير أنّ بومدين رفض هذا الاحتمال، مقتنعاً بأنّ المجتمع غير قادر على حماية الدولة من الانتهازيين، في حين أنّ هؤلاء الانتهازيين أنفسهم ازدهروا تحت سلطته بدعمٍ منه. إذ شكّل النظام حول شخصه، مستنداً إلى الميثاق الوطني الذي أُقِرّ بالاستفتاء، وصُمّم كـعقدٍ مباشرٍ بينه وبين الشعب. ولتحقيق المشروع الذي كان يدافع عنه، جمع بين يديه جميع السلطات: رئيس الدولة، رئيس الحكومة، وزير الدفاع، قائد أركان الجيش بعد 1967، ورئيس مجلس الثورة.

هذا المجلس، الذي أعلن نفسه الوصيّ على السيادة الوطنية، استحوذ على الوظيفة التشريعية، مانحاً الشرعية السياسية للسلطة التنفيذية. وهكذا عمل النظام وفق سلطة تنفيذيةٍ قائمةٍ على كاريزما الزعيم لا على المؤسسات.

2

بعد وفاة هواري بومدين، أعادت الهرمية العسكرية إنتاج النظام نفسه، مع رفضها تزويده بزعيمٍ كاريزمي يمتلك سلطةً عليها. فـسلك الضباط السامين لا يقبل بظهور قائدٍ سياسي، حتى لو خرج من صفوف الجيش نفسه. باستثناء هواري بومدين، لم يمتلك لا الشاذلي بن جديد، ولا محمد بوضياف، ولا اليمين زروال، ولا عبد العزيز بوتفليقة، ولا عبد المجيد تبون، سلطةً سياسية على الجيش. إذ يقوم النظام على قاعدةٍ غير مكتوبة ولكنها بنيوية: الجيش هو المصدر الفعلي الوحيد للسلطة. وينتج عن ذلك انقسامٌ في قمة الدولة بين سلطةٍ فعلية، سيادية وغير خاضعة للمساءلة، وسلطةٍ شكلية مكلفة بتسيير الإدارة الحكومية. فالعسكريون، وإن لم يحكموا مباشرة، يُعيّنون من يشغل المناصب الرئيسية في الدولة، ويحددون التوجهات السياسية الكبرى والتوازنات الميزانياتية. وبهذه الطريقة يتمركز ثقل القرار السياسي والدبلوماسي في وزارة الدفاع وليس في رئاسة الجمهورية. أما المرشح المعيّن لتولي منصب الرئاسة، فعليه أن يقبل شرطاً أساسياً هو عدم ممارسة أي سلطةٍ على الهرمية العسكرية، رغم ما ينصّ عليه الدستور. وبهذا أصبحت الرئاسة، وهي مؤسسةٌ ضعيفة وموضوعة تحت الوصاية، تفتقر إلى السلطة اللازمة لقيادة إصلاحاتٍ تكسر منطق نظامٍ أصبح ريعياً يهدر ثروات البلاد في الاستهلاك.

لقد أعادت الهرمية العسكرية إنتاج النموذج الاقتصادي نفسه، القائم على عوائد المحروقات التي أخفت حتى الآن الاختلالات البنيوية، بينما يمثل العجز الدائم للمؤسسات العمومية قنبلةً موقوتةً وهشاشةً خطيرة يمكن أن تؤدي إلى اندلاع اضطراباتٍ في حال انخفاض أسعار النفط. فعجز المؤسسات العمومية عن تحقيق التوازن في حساباتها يولّد عجزاً مالياً تتكفّل الدولة بتمويله عبر الخلق النقدي، على حساب القدرة الشرائية. وقد أصبحت هذه الآلية عنصراً بنيوياً في الاقتصاد الجزائري ومصدراً دائماً للهشاشة الاجتماعية. وهكذا غدت ميزانية الدولة الجزائرية تُموَّل عبر الخسارة المستمرة في القدرة الشرائية للدينار، إضافةً إلى الضرائب وعوائد المحروقات، في حين أصبح فقدان القدرة الشرائية للمستهلكين هيكلياً لا أفق لإصلاحه.

والضحية الرئيسية لهذا النظام السياسي-الاقتصادي هي الدينار، تلك العملة الميتة المنفصلة عن الديناميات الدولية للتراكم. فـالدينار ليس وسيلةً للاستثمار، ولا قيمةَ ملاذٍ آمن مثل باقي العملات، بينما بنت الجزائر نظاماً سياسياً-اقتصادياً يستخدم الريع الطاقوي لاستيراد السلع الاستهلاكية لفائدة شركاتٍ أجنبية ووسطاء كمبرادوريين. وباعتبارها السلطة العليا في البلاد، فإن الهرمية العسكرية تتحمل مسؤولية مباشرة عن الإخفاقات الاقتصادية والاجتماعية للنظام منذ الاستقلال. فهي مسؤولة عن عجز البلاد عن تحقيق التنمية رغم مواردها الضخمة.

3

في الوقت الذي تغيّر فيه المجتمع الجزائري بعمق، سواء في تركيبته أو في تطلعاته، بقيت السلطة المركزية بعد الاستقلال على حالها دون تغيير. وهذا الجمود ليس مجرد خمولٍ أو ركودٍ عابر، بل هو جزءٌ بنيوي من النظام نفسه. غير أنّ الأجيال الجديدة (وخاصة جيل “Z”) لا تقبل الوضع ما بعد الاستعماري القائم؛ بل تقاومه بمجرد وجودها الاجتماعي وبما تحمله من آمالٍ جديدة. لقد أظهرت أحداث أكتوبر 1988، التي سبقت بقليل انهيار الأنظمة الاشتراكية في أوروبا الشرقية، أنّ المجتمع الجزائري كان مندرجاً في الزمن العالمي، أي في زمن التحولات السياسية، ونهاية أنظمة الحزب الواحد والاقتصاد الموجَّه.

فقد عبّرت انتفاضة أكتوبر عن مطالب سياسية واضحة: فتح المؤسسات أمام المشاركة الشعبية وإرساء تعدديةٍ سياسية حقيقية. و رفض الحزب الواحد آنذاك لم يكن حدثاً ظرفياً، بل كان قطيعةً بنيوية ومرحلةً من مسار بناء الدولة، الحزب الواحد الذي كان قد بلغ حدّه التاريخي، معيقاً تطوّر الحياة السياسية في البلاد، ومهمشاً إياها عن الديناميات الاقتصادية والفكرية والثقافية العالمية. وبفعل الضغط المتزامن للطموحات الداخلية والبيئة الدولية، اضطرت النخب الحاكمة عام 1989 إلى تعديل الدستور وإضفاء الشرعية على التعددية الحزبية. غير أنّ هذه الانفتاح، الذي تمّ اعتباره تنازلاً لا إعادة تأسيسٍ سياسية، أفرز انتقالاً زائفاً، دون عقدٍ سياسيٍّ مستقرٍّ. لم يكن لا النظام ولا المعارضة مستعدين – سياسياً وثقافياً ونظرياً – لإعادة توزيعٍ حقيقيةٍ لعلاقات السلطة. وإن إلغاء الانتخابات التعددية في يناير 1992 كان نتيجة مباشرة لغياب التوافق حول طبيعة المرحلة الانتقالية. فقد حوّل اختيار المسار الانتخابي الانتقالَ إلى صدامٍ مباشر، وفتح سلسلةً من الصراعات انتهت بسفك الدماء. منذ ذلك الحين، عادت الجزائر عملياً إلى نظام الحزب الواحد وراء واجهةٍ تعدديةٍ شكلية. فقد كانت الانتخابات بعد 1992 تُزوّر بشكلٍ منهجي من طرف الإدارة التي حوّلت إرادة الناخبين لصالح الحزبين المصطنعين للنظام: جبهة التحرير الوطني (FLN) والتجمع الوطني الديمقراطي (RND)، حزبان مصطنعان لأنهما يفتقدان لأيّ تجذّرٍ اجتماعي. ولولا الإعانات السخية من الدولة – وهي غير قانونية بموجب القوانين نفسها – وتساهل الإدارة التي كانت توفّر لهما المقرّات والموارد، لاختفيا تماماً. فقد كانت جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي، إلى جانب الأحزاب المجهرية التي أنشئت لتشويه الفعل السياسي، مجرد فرصٍ للانتهازيين عديمي الضمير لشغل المناصب الانتخابية دون أدنى إحساسٍ بالمصلحة العامة. وهكذا أصبح الرأي العام يرى الأحزاب السياسية على أنها تجمعاتٌ عديمة الجدوى عاجزةٌ عن نقل صوت الشعب داخل المؤسسات.

ما أظهرته الوضعية ما بعد 1988 للجزائريين هو أنّ التعددية السياسية، التي أُدخلت عبر الإصلاح الدستوري لسنة 1989، لم تغيّر شيئاً في طبيعة النظام. فقد تمّ الإبقاء على الأحزاب في موقعٍ تابع، محصورةٍ في دور المعارضة الشكلية دون أيّ أفقٍ حقيقيٍّ للوصول السلمي إلى السلطة. وفي مجتمعٍ ضعيف التسييس حيث التديّن يسعى إلى كبت الاختلافات الأيديولوجية، يجد الفاعلون صعوبةً في إدراك هذه الاختلافات كـتبايناتٍ يمكن حلّها ضمن الإطار السياسي-القانوني.

هذا التأخر الإيديولوجي والثقافي للمجتمع هو ما مكّن القيادة العسكرية من أن تكون فاعلاً سياسياً يمنع أي نشاطٍ سياسي لا يخضع لسيطرته. ولقد مارست تأثيراً مباشراً على الحقل السياسي عبر تجنيد أجهزة المخابرات، التي حُرّفت عن دورها المؤسساتي. كانت مهمتها هي صناعة حياةٍ سياسيةٍ مصطنعة، منفصلة عن المطالب الاجتماعية الحقيقية: البطالة الواسعة بين الشباب، هدر الموارد العامة، والفساد المستشري. وكان الهدف تحييد المجتمع المدني وخنق أي نزعةٍ نحو التغيير السياسي. فمن وجهة نظر النظام، المجتمع هو الذي يجب أن يطيع الدولة، وليس العكس.

أما المعارضة فقد نُظر إليها باعتبارها تهديداً يجب احتواؤه، بينما كان ينبغي أن تكون فضاءً للتنشئة السياسية وآليةً لتجديد شرعية السلطة عبر العقوبة الانتخابية. لكن برفضه استقلالية الأحزاب والنقابات والصحافة، قطع النظام الدولة عن جذورها الاجتماعية والإيديولوجية. وبـمفارقةٍ تاريخيةٍ لاذعة، أعادت دولة ما بعد الاستعمار إنتاج ردة الفعل الإدارية الاستعمارية نفسها، تلك التي كانت تفرض “البني وي وي” كممثلين عن الشعب.

4

في هذا السياق، تتحمّل المؤسسة العسكرية نصيباً حاسماً من المسار السياسي للبلاد. واستقرار الجزائر المستقبلي واستمراريتها لن يتحققا عبر الإبقاء على ميزان قوى تجاوزه التاريخ، بل عبر القدرة على فتح مرحلةٍ تاريخية جديدة. وفي سياقٍ إقليمي ودولي مضطرب، يتّسم بإعادة تشكيلٍ سريعة للتوازنات الجيوسياسية، من مصلحة القيادة العسكرية أن تُدرِج عملها ضمن منطق الحفاظ على الدولة كَمؤسسةٍ وطنية. وتحمّل هذه المسؤولية يعني، باسم عهد نوفمبر وذاكرة الشهداء، مواكبة انتقالٍ سياسيٍّ توافقي، دون مصادرته. الغاية هي إتاحة تشكيل عقدٍ اجتماعيٍّ جديد يُعيد إلى السياسة وظيفتها الأصلية: تنظيم المواجهة السلمية للأفكار، وهيكلة المصالح الاجتماعية، وضمان استمرارية الدولة عبر الشرعية الانتخابية. ولا يعني هذا التوجّه إضعاف الجيش، بل على العكس، توضيح و تعزيز دوره في الدفاع الوطني وحماية التوازنات الاستراتيجية. وحدها القيادة العسكرية، من خلال اتخاذها لهذه المبادرة التاريخية، تستطيع المساهمة في إغلاق الدورة التي فُتحت عام 1962 وإعادة السيادة الشعبية إلى موقعها المركزي.

إن الاستقرار المستقبلي للبلاد يفترض أن يبقى الجيش على مسافةٍ من الصراعات السياسية الداخلية في المجتمع، لأنّ تدخله فيها لا يخدم مصلحته. فـالسياسة بطبيعتها مجالٌ صراعي، تسوده الاختلافات الإيديولوجية والاجتماعية. ولا يمكن لمؤسسةٍ تنتمي لجميع المواطنين أن تتماهى طويلاً مع طرفٍ أو نظامٍ سياسي من دون أن تدخل في تعارضٍ مع جزءٍ من المجتمع.

في الدولة الحديثة، ليس على الجيش أن ينحاز إلى تيارٍ سياسي أو أن يكون الوصيَّ على السيادة الوطنية. إنه فرعٌ من السلطة التنفيذية يخضع للسلطة التشريعية المنبثقة من صناديق الاقتراع. ويُعد انسحابه من المجال السياسي شرطاً لـبناء فضاءٍ مدنيٍّ مستقل وللحفاظ على ثقة الأمة فيه.

ومن هذه الزاوية يجب فهم شعار “مدنية ماشي عسكرية” الذي ردّده ملايين الجزائريين خلال مسيرات الحراك؛ فهو يعبّر عن مطلبٍ مباشر: القطيعة مع نمطٍ يجعل القيادة العسكرية المصدر الفعلي للسلطة بدلاً من الإرادة الانتخابية. أي أنه يطالب بانتقالٍ ديمقراطي يُفهم على أنه انسحاب أجهزة أمن الجيش من المجال السياسي واقتصارها على وظيفتها الأصلية: الدفاع عن الأمة ضد التهديدات الخارجية. بينما فُسّر هذا المطلب من قبل صنّاع القرار على أنه عداءٌ للمؤسسة العسكرية. لكن في الواقع، فإنّ “مدنية ماشي عسكرية” تُحيل إلى تطلّعٍ سياسيٍّ مشروع: استعادة أولوية المدني، وإعادة تأهيل الدولة، وحماية المؤسسة العسكرية من السخط الاجتماعي الذي لن يتأخر في التركيز عليها ما دامت منخرطةً في المجال السياسي.

* جامعيّان.

31 أكتوبر 2025

الضرورة التاريخية لانتقال ديمقراطي توافقي في الجزائر
موقع كل يومموقع كل يوم

أخر اخبار تونس:

الجولة 12 من الرابطة المحترفة الأولى: الترجي ينفرد بالصدارة للمرة الأولى من بداية الموسم

* تعبر المقالات الموجوده هنا عن وجهة نظر كاتبيها.

* جميع المقالات تحمل إسم المصدر و العنوان الاكتروني للمقالة.

موقع كل يوم
12

أخبار كل يوم

lebanonKlyoum.com is 2194 days old | 183,303 Tunisia News Articles | 312 Articles in Nov 2025 | 137 Articles Today | from 16 News Sources ~~ last update: 4 min ago
klyoum.com

×

موقع كل يوم


مقالات قمت بزيارتها مؤخرا



وزارة الإعلام تطلق النسخة الثانية من مبادرة تعزيز التواصل مع المقيمين بالمملكة - sa
وزارة الإعلام تطلق النسخة الثانية من مبادرة تعزيز التواصل مع المقيمين بالمملكة

منذ ٣ ثواني


اخبار السعودية

بعد أن اختفت لمدة قرن.. هكذا ظهرت بولندا على الخارطة - ps
بعد أن اختفت لمدة قرن.. هكذا ظهرت بولندا على الخارطة

منذ ٤ ثواني


اخبار فلسطين

محمد صلاح يدخل نادي الـ250 هدفا.. احتفاء عالمي بإنجاز جديد للفرعون المصري - eg
محمد صلاح يدخل نادي الـ250 هدفا.. احتفاء عالمي بإنجاز جديد للفرعون المصري

منذ ٦ ثواني


اخبار مصر

توفير أبل مابس لمستخدمي الإنترنت - sa
توفير أبل مابس لمستخدمي الإنترنت

منذ ٧ ثواني


اخبار السعودية

الضرورة التاريخية لانتقال ديمقراطي توافقي في الجزائر - tn
الضرورة التاريخية لانتقال ديمقراطي توافقي في الجزائر

منذ ٨ ثواني


اخبار تونس

حماس: أمريكا شريكة في حصار غزة بانحيازها الأعمى للعدو الإسرائيلي - ye
حماس: أمريكا شريكة في حصار غزة بانحيازها الأعمى للعدو الإسرائيلي

منذ ٩ ثواني


اخبار اليمن

أرباح بنك الفجيرة الإماراتي ترتفع 45 في 9 أشهر - ae
أرباح بنك الفجيرة الإماراتي ترتفع 45 في 9 أشهر

منذ ١٠ ثواني


اخبار الإمارات

أمريكا تطلب من المليشيا وقف الإنتقام - sd
أمريكا تطلب من المليشيا وقف الإنتقام

منذ ١٣ ثانية


اخبار السودان

أحمد العزاوي يهاجم أبو مازن: بطل سوالفك يا أبو الهوش - iq
أحمد العزاوي يهاجم أبو مازن: بطل سوالفك يا أبو الهوش

منذ ١٣ ثانية


اخبار العراق

الشهري يصحح أخطاء النواخذة - sa
الشهري يصحح أخطاء النواخذة

منذ ١٥ ثانية


اخبار السعودية

سامسونج تطلق متصفح Samsung Internet لأجهزة الحاسوب - sa
سامسونج تطلق متصفح Samsung Internet لأجهزة الحاسوب

منذ ١٦ ثانية


اخبار السعودية

جعجع: هذا هو المطلوب في الوقت الراهن - lb
جعجع: هذا هو المطلوب في الوقت الراهن

منذ ١٨ ثانية


اخبار لبنان

* تعبر المقالات الموجوده هنا عن وجهة نظر كاتبيها.

* جميع المقالات تحمل إسم المصدر و العنوان الاكتروني للمقالة.






لايف ستايل