الحرية التي ثار لأجلها السوريون .. قيود جديدة تكبّل الحريات بعد سقوط النظام؟
klyoum.com
إن كان هناك من كلمة يمكنها اختصار مطالب الثورة السورية وغايتها وهدفها الذي ناضل السوريين/ات من أجله فهي "الحرية".
الكلمة التي هزّت نظام "بشار الأسد" وحوّلته إلى وحشٍ يضرب ما حوله بعشوائية إثر غيظه من شبح الحرية الذي يهدّد عرشه، كانت كافيةً لينزل السوريون إلى الشوارع وينادون لها ويحلمون بها.
كان الاعتقاد السائد منذ 2011 أن الحرية ستتحقق حتماً في اللحظة التي سيسقط فيها نظام "بشار الأسد"، ومعه سيسقط الصمت والرعب والخوف، وسيتمكّن السوريون من ممارسة حريتهم التي حلموا بها بعد عقود من القمع والديكتاتورية والرأي الواحد والحزب الواحد والفكر الواحد.
رغم طول أمد الانتظار وقسوة سنوات المواجهة سقط النظام بعد نحو 14 عاماً من اندلاع الثورة، وخلّفت الأيام الأولى لسقوطه نوعاً من الحرية المطلقة في ظل غياب السلطة حيث انتهى القمع والترهيب والفروع الأمنية ورقابة المخابرات على الكلام والأفعال وحتى النوايا.
وسرعان ما تولّت "هيئة تحرير الشام" زمام السلطة باعتبارها القوة الأبرز في قيادة عمليات "ردع العدوان" التي أفضت لسقوط النظام، لكن ذلك أثار مخاوفاً منذ اللحظة الأولى تتعلّق بالحريات العامة في ظل سلطةٍ يحمل تاريخها ميراثاً لا يعرف عنه الحرص على الحريات، سواءً من ناحية الإيديولوجية السلفية الجهادية للهيئة أو من ناحية ممارساتها خلال السنوات الماضية في "إدلب" حين كانت السلطة الحاكمة فيها.
تختصر مفردة "الحرية" أنواعاً كثيرة من الحريات التي طالب بها السوريون/ات وتطلّعوا لانتزاعها من النظام البائد ليعيشوا حياتهم كما باقي الدول الحرة، ابتداءً من حرية الرأي والتعبير وحرية ممارسة العمل السياسي حتى وإن كان معارضاً للسلطة الحاكمة، وليس انتهاءً بحرية ممارسة الشعائر الدينية من جهة، واحترام الحريات الشخصية من جهة أخرى من حيث طريقة العيش والملبس والعادات والممارسات اليومية، فضلاً عن الحرية الاقتصادية في ممارسة العمل دون قيود وتضييق وفرض إتاوات وترسيخ المحسوبيات وغيرها من ممارسات النظام السابق.
على صعيد الحرية السياسية، فتحت السلطات الانتقالية الباب أمام ممارسة الأنشطة السياسية، لكنها في الوقت ذاته لم تضع قانوناً لذلك يتم عبره ترخيص الأحزاب السياسية مثلاً، إلا أن المشهد العام أظهر أن مجال العمل السياسي بات مفتوحاً إلى حد كبير. حيث شهدنا عدة حوادث بينها حادثة الاعتداء على وفد من ناشطين سياسيين بينهم أعضاء من حزب "الانتماء الوطني الديمقراطي" كانوا في طريقهم من "السويداء" إلى "الرقة" لحضور فعالية سياسية وتعرّضوا للتوقيف والتعذيب والإهانة قبل أن يتم الإفراج عنهم ما أثار جدلاً واسعاً وانتقادات حادة للحادثة.
في الأثناء، حاولت السلطات الجديدة أن تقول عبر مسؤوليها أنها تحترم الحريات ولن تكون أداة قمع لها، حيث قال الرئيس "أحمد الشرع" أن السلطة ستعمل على معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية وتكريس الحريات وحقوق الإنسان في البلاد.
على الرغم من الخطاب الرسمي للسلطة القائم على احترام الحريات والتنوع، وإقرارها لذلك في الإعلان الدستوري، إلا أن الأحداث على الأرض لم تكن كذلك، وبدا أن هناك تباينٌ بين خطاب السلطة وبين عقيدة نسبة من العناصر المنتمين لها على الأرض.
ومن المؤكد أن مجازر الساحل الطائفية، والأحداث الأخيرة في ريف دمشق والسويداء، يمثّلان المحطات الأبرز لهذا التباين في الخطاب المعلن والممارسات العملية، ويشترك كلاهما في الحديث عن وجود "فصائل غير منضبطة" خرجت عن الأوامر الرسمية وارتكبت ممارسات لا تمثّل الرؤية الرسمية.
في وقتٍ كانت تتكرّر فيه حوادث يتم تحميلها لـ"الحالات الفردية"، مثل اعتداء على شبّان بالضرب والإذلال بذريعة السير مع فتاتين دون وجود صلة قرابة، والفصل -بدون قرار رسمي مكتوب- بين الرجال والنساء في حافلات السفر، وتطبيق "منع الاختلاط" في اللقاءات الرسمية مثل "مؤتمر الحوار الوطني" وحتى في وسائل النقل العامة، دون أن تعلن السلطة بوضوح أنها تقف ضد هذه الإجراءات.
وصولاً إلى اليوم، مع انتشار مقطع مصوّر سجّلته كاميرا المراقبة في أحد مطاعم "دمشق" يظهر هجوم عسكريين على المطعم واعتدائهم على زبائنه بالضرب باستخدام مؤخرة البنادق، الأمر الذي حظي بتبرير سريع للأصوات الموالية للسلطة عبر وسائل التواصل، بدأ بأن المطعم يسبب إزعاجاً للجيران ووصل إلى اتهام الزبائن بممارسة الدعارة.
هذه الأصوات التي تبرّر كل ممارسة من السلطة لا تتذكّر بالمطلق مبدأ "الحرية"، الذي يشمل الحريات الفردية في ممارسة الحياة اليومية كما يحلو لكل إنسان أن يفعل دون أن يؤذي غيره، بل وإنها "ملكية أكثر من الملك" حيث استهجنت حتى اعتراف السلطة بخطأ الاعتداء وإعلانها توقيف العناصر المعتدين على المدنيين وإحالتهم للقضاء.
سنوات طويلة حلم بها السوريون/ات بالحرية وناضلوا لأجلها ودفعوا أثماناً باهظة في سبيلها، وهي حرية لا تتوقف عند حدود التعبير عن الرأي السياسي فحسب، بل تشمل حرية الحياة والشؤون الشخصية دون أن يتدخّل أحد بطريقة الملبس وأماكن الجلوس وغيرها، في وقتٍ تظهر فيه هذه الممارسات بمثابة ارتدادٍ عن الحرية الموعودة وعن مبادئ الثورة التي انطلقت من أجل حرية كل السوريين/ات، ومن أجل تقدّم البلاد على صعيد الحريات لا من أجل الردّة إلى الخلف.