اخبار سوريا

درج

سياسة

من فرع الخطيب إلى فرانكفورت… هكذا حاسبت ألمانيا مجرمي الحرب السوريين

من فرع الخطيب إلى فرانكفورت… هكذا حاسبت ألمانيا مجرمي الحرب السوريين

klyoum.com

ما أثبتته ألمانيا هو أن العدالة لا تحتاج إلى أرض قريبة بقدر ما تحتاج إلى ضمير حيّ وإرادة لا تخشى المواجهة. هناك، وجدت شهادات السوريين طريقها إلى المحكمة، لا بوصفها صرخات في الفراغ، بل كأدلّة دامغة، وتحوّلت الصور التي كانت تهرّب خفية من غرف الموت، إلى مستندات رسمية تقود إلى الإدانة، ولم يعامل الألم كعبء على السلم، بل كحقيقة لا يمكن بناء مستقبل من دون مواجهتها.

من كان يظنّ أن الطريق إلى العدالة في سوريا يبدأ من فرانكفورت؟ وأن الجلّاد الذي كان يعتقد أنه نجا بنفسه حين وصل إلى ألمانيا لاجئاً، كان في الحقيقة يشقّ طريقه، بخطى واثقة، نحو قاعة محكمة ألمانية؟ من كان ليتخيل أن محكمة تبعد عن دمشق أكثر من أربعة آلاف كيلومتر، وتفصلها عنها حدود وقارات ولغات، ستكون أكثر جدّية في ملاحقة مجرمي الحرب السوريين من أي مؤسّسة قضائية داخل البلاد التي نزف فيها كلّ شيء؟

في مفارقة يصعب تصديقها لولا أنها حدثت فعلاً، وجد بعض المتورّطين في جرائم تعذيب وقتل داخل معتقلات الأسد أنفسهم، لا في منفى آمن، بل أمام قضاة ألمان يقرأون ملفّاتهم بصبر شديد، ويستمعون إلى شهادات ضحاياهم بلغات مترجمة، ويصدرون في النهاية أحكاماً لا تهاون فيها.

رجال الأسد يحاكَمون في المنفى

في مدينة كوبلنس، بدأت أولى المحاكمات التي ستُعرف لاحقاً بمحاكمة فرع الخطيب، حين اعتُقل العقيد السابق أنور رسلان العام 2019، بعدما لجأ إلى ألمانيا محاولاً الإفلات من تاريخه في إدارة أحد أكثر فروع المخابرات شهرة في دمشق. لم ينجُ من المحاسبة، وفي كانون الثاني/ يناير 2022، أصدرت المحكمة حكمها بالسجن المؤبّد، بعد إدانته بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية، شملت تعذيب أكثر من أربعة آلاف معتقل، ومقتل ما لا يقل عن 58 شخصاً داخل الفرع الذي كان يترأسه.

ولم يكن رسلان وحده، ففي القضيّة ذاتها، أُدين إياد الغريب، وهو عنصر سابق عمل تحت إمرته، بالسجن أربع سنوات ونصف السنة، بعدما ثبت أنه شارك في عمليّات توقيف مدنيين سلميين وتحويلهم إلى آلة التعذيب في الخطيب، وشكّلت هذه المحاكمة سابقة عالمية، كونها الأولى التي تنظر في جرائم النظام السوري عبر آليات قانونية أوروبية مستقلّة، وتفتح الباب أمام مساءلة من كانوا يعتبرون أنفسهم في مأمن من القانون.

بعد كوبلنس، توجّهت الأنظار إلى فرانكفورت، حيث خضع الطبيب السوري علاء موسى للمحاكمة بتهم تعذيب وقتل معتقلين داخل مستشفيات النظام. ولم ينكر موسى، الذي كان يعمل في مشفى المزّة العسكري، وجوده في سوريا خلال تلك السنوات، لكن إفادات عشرات الشهود من زملاء وضحايا، روت قصصاً مفزعة عن عمليات قتل بالإبر، وحرق مباشر باستخدام الكحول، وبعد ثلاث سنوات من المحاكمة، صدر الحكم في حزيران/ يونيو 2025 بالسجن المؤبّد، مع توصيف الجريمة كجزء من هجوم ممنهج على المدنيين.

وفي شباط/ فبراير 2023، أُدين موفّق الداوة، وهو عضو سابق في ميليشيا "حركة فلسطين الحرّة"، بالسجن المؤبّد، بعد أن ثبت أنه أطلق قذيفة مضادّة للدروع على تجمّع للمدنيين في مخيم اليرموك أثناء توزيع مساعدات إنسانية، ما أدّى إلى مقتل أربعة أشخاص.

وفي هامبورغ، أصدرت المحكمة في كانون الأول/ ديسمبر 2024 حكماً بالسجن عشر سنوات على أحمد. ح، وهو قائد ميليشيا محلّية، بعد إدانته بإدارة حواجز مسؤولة عن التعذيب والابتزاز والعمل القسري بحقّ المدنيين.

ولم تقتصر المحاكمات على من تمّ توقيفهم داخل ألمانيا، ففي حزيران/ يونيو 2018، أصدرت السلطات مذكّرة توقيف دولية بحقّ مدير إدارة المخابرات الجوّية السابق جميل حسن، بتهمة الإشراف على منظومة تعذيب وقتل منهجية، جرت داخل مراكز الاعتقال التابعة لجهازه خلال السنوات الأولى من الثورة السورية.

كما طالت المحاكمات أيضاً، شخصيات بارزة من فصائل معارضة متطرّفة، كما في حالة سليمان. س، العضو السابق في تنظيم "جبهة النصرة"، الذي أُدين في عام 2017 بالسجن ثلاث سنوات ونصف السنة، بعد ثبوت تورطه في جريمة اختطاف داخل سوريا. ورغم أن انتماءه لا يرتبط بالنظام، إلا أن قضيّته تمثّل مرجعاً مهماً لفهم اتّساق المعايير القضائية الألمانية في التعامل مع الجرائم الجسيمة، أياً كان الفاعل، وأياً كانت خلفيته السياسية.

كيف نجحت ألمانيا في بناء "العدالة" خارج الزمان والمكان؟

اعتمدت ألمانيا في محاكماتها على قانون الجرائم ضدّ القانون الدولي (VStGB) الذي أُقرّ العام 2002، والذي يمنح القضاء صلاحيّة ملاحقة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية والإبادة الجماعية، من دون الحاجة إلى أن يكون للجريمة أي صلة مباشرة بألمانيا. وشكّل المبدأ المعروف بالولاية القضائية العالمية، الأرضية القانونية التي انطلقت منها أولى القضايا المتعلّقة بسوريا، بداية من محاكمة رسلان والغريب، وحتى علاء موسى وموفّق الداوة.

لكنّ البنية القانونية ما كانت لتثمر لولا وجود بنية مؤسّسية داعمة، حيث أنشأ مكتب الادّعاء العامّ الفيدرالي وحدة مختصّة بجرائم الحرب في مدينة كارلسروه، عملت بصمت ومنهجية على جمع آلاف الشهادات من اللاجئين السوريين، وتحليل الوثائق والفيديوهات والتقارير الحقوقية ضمن ما يعرف بـ"الإجراء الهيكلي"، وهو مسار لا يستهدف الأفراد فقط، بل يحاول بناء فهم شامل للمنظومات المسؤولة عن الانتهاكات، مثل الأجهزة الأمنية والميليشيات التابعة للنظام.

إلى جانب ذلك، لعبت منظّمات حقوقية دولية ومحلّية دوراً حاسماً في بناء الملفّات، أبرزها "المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان" (ECCHR) و"المركز السوري للإعلام وحرّية التعبير"، بالإضافة إلى "الشبكة السورية لحقوق الإنسان" ومنصّة "ملفّات قيصر"، ولم تكتف هذه الجهات بالتوثيق، بل قامت برفع دعاوى مدنية، وترجمت أدلّة الطبّ الشرعي، ورتّبت لقاءات بين الضحايا والادّعاء العامّ الألماني.

إلى جانب ذلك، تحوّلت الشهادات الفردية، التي ظلّت لعقد من الزمن محاصرة بالصمت والخوف، في قاعات المحاكم إلى أدلّة دامغة. من ناجين من التعذيب وأطباء عملوا تحت الضغط، ومنشقّين عن أجهزة النظام، ذكروا تفاصيل دقيقة عن أوامر التعذيب، وأساليب القتل، وأسماء المسؤولين، وسلسلة القيادة التي أفرزت هذا العنف المؤسّسي.

ولعبت الصور والوثائق دوراً محورياً في تلك المحاكمات، وكان أبرزها ملفّ "قيصر"، الذي هرّب من داخل أجهزة الأمن السورية، ويضمّ آلاف الصور لجثث معتقلين قضوا تحت التعذيب. ولم تُعرَض هذه الصور أمام القضاة فقط، بل شكّلت رابطاً مادياً بين شهادات الناجين وبين ما جرى داخل الأقبية الأمنية السورية، حيث وثّقت مشاهد الموت الجماعي، وحدّدت تواريخ وأسماء وسجلّات، بحيث لم يعد بالإمكان إنكار الجرائم أو تبريرها.

في دمشق… إعادة تدوير رموز النظام

في الوقت الذي كانت فيه المحاكم الألمانية تدير جلساتها في كوبلنس وفرانكفورت، مستمعة إلى شهادات الناجين، راصدة تفاصيل الجرائم التي ارتكبتها أجهزة النظام السوري، وأصدرت أحكاماً قاسية، كان آخرها ضدّ الطبيب علاء موسى، كانت شوارع دمشق تشهد مشهداً مختلفاً تماماً، حيث ارتدت وجوه مألوفة من زمن القمع أقنعة جديدة، ودخلت من بوابات السلم الأهلي والمصالحة المجتمعية، وكأن شيئاً لم يكن.

وأثارت عمليات التسوية التي تجريها الإدارة الجديدة في سوريا لعناصر الأمن والعسكريين في النظام السابق، موجة من الجدل ما بين مؤيّد لهذه الخطوة بهدف تخفيف وطأة الانتقامات الفردية، وبين مطالب بعفو عامّ وآخر مطالب بالاعتقال والمحاسبة.

وتفجّرت عاصفة الجدل مع ظهور اللواء طلال مخلوف، أحد أقارب رئيس النظام السابق بشّار الأسد، والقائد السابق لـ"اللواء 105″ في قوّات الحرس الجمهوري، في مقرّ "حزب البعث" ، بعد تسليم سلاحه وتسوية أوضاعه مع الضبّاط والعناصر الذين كانوا ضمن اللواء، وحديثه للإعلام عن شعوره بـ"الأمان".

وأُدرج اسم اللواء طلال مخلوف، في صدارة المتّهمين بارتكاب جرائم وانتهاكات واسعة ضدّ المدنيين منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011، حين كان يتولّى قيادة الحرس الجمهوري، الذراع العسكرية الأشدّ نفوذاً في النظام السابق.

ويتّهم مخلوف بالمشاركة المباشرة في مجازر وعمليات تهجير ونهب ممنهجة في عدّة مناطق، أبرزها حلب الشرقية، الغوطة، وادي بردى، ودرعا. كما ورد اسمه في تقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش" كأحد الذين أصدروا أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين، وأُدرج لاحقاً على قوائم العقوبات الدولية، حيث فرضت بريطانيا عقوبات عليه منذ العام 2015، تبعتها وزارة الخزانة الأميركية بعقوبات مماثلة في 2017، على خلفيّة مسؤوليّته المباشرة عن جرائم موثّقة ضدّ المدنيين.

كما ظهر اسم فادي صقر، القائد السابق لميليشيا "الدفاع الوطني" في دمشق، الذي يشتبه بتورطه المباشر في واحدة من أبشع المجازر الموثّقة في الحرب السورية في حيّ التضامن العام 2013. ورغم تداول اسمه إعلامياً وحقوقياً بعد نشر تسجيلات الإعدام الجماعي التي وثّقتها صحيفة "غارديان"، لم يفتَح أي تحقيق رسمي بحقّه في سوريا، بل ظهر مجدداً كمفاوض في صفقة للإفراج عن معتقلين، وكممثّل عن "المصالحة الوطنية"، في مشهد بدا صادماً لعائلات الضحايا ولكثير من الناجين.

كما أثار ظهور سقراط الرحية، أحد عناصر الشبّيحة المعروفين في ريف دمشق، الذي ظهر في تسجيلات قديمة وهو يشارك في حملات اعتقال وضرب للمتظاهرين، استياء كبيراً في أوساط الصحافيين والناشطين والحقوقيين في دمشق. وبات رحية اليوم يقدَّم في الإعلام المحلّي كرئيس لفريق تطوّعي يعمل في مشاريع إنسانية وإعادة إعمار، وتحوّل الرجل من رمز للترويع المحلّي إلى واجهة للعمل المدني، من دون أي اعتراف أو مساءلة أو اعتذار.

وفي المستوى الإداري والمالي، عاد رجال الأعمال الذين شكّلوا العمود الفقري الاقتصادي للنظام، من دون أن تمسّهم أي عمليّة تدقيق. محمد حمشو، الذي فُرضت عليه عقوبات أميركية وأوروبية منذ 2011، عاد إلى نشاطه التجاري بعد تسوية غامضة مع السلطات الجديدة.

أما رجل الأعمال سليم دعبول، ابن الراحل محمد ديب دعبول المعروف بلقب "أبو سليم"، الذي أدار لعقود مكتب القصر الجمهوري في عهدي حافظ وبشّار، واكتسب سمعة بكونه عرّاب القرارات الأمنية، انسحب من المشهد بهدوء، من دون أن يطلَب منه المثول أمام أي لجنة تحقيق أو مساءلة، ثم عاد إلى مدينته ديرعطية في ريف دمشق وكأن شيئاً لم يكن.

في كلّ هذه الحالات، لا يتعلّق الأمر فقط بعدم المحاسبة، بل بإعادة دمج هذه الشخصيّات في بنية الحكم والمجتمع، وكأنها لم تكن جزءاً من آلة القمع، وبات بعضهم يظهر كصوت عاقل في زمن الفوضى، وكأنه لم يكن جزءاً من تلك الفوضى حين كانت مدعومة بالسلاح والنفوذ والولاء.

درس في العدالة الانتقالية

أما في سوريا، وبعد كلّ ما حدث، بقيت المحاسبة مؤجّلة، والجلادون أحراراً، وأصوات الضحايا عالقة في الهواء، تُصنّف إما كجزء من الفوضى، أو كتهديد لـ"التوافق الوطني".

لم يحاكَم الجلّاد لأنه خسر، بل لأن أحداً ما قرّر أن يقول الحقيقة، ويصرّ عليها، حتى سمع القاضي يقول: نعم، ما حدث جريمة. وهذا وحده، حتى لو لم يُنهِ المعاناة، كان كافياً لمنح الضحايا بعضاً من العدالة. ليست العدالة ترفاً، ولا تهديداً، بل هي الأرض الوحيدة التي يمكن أن يُبنى عليها شيء حقيقي. وبين بلد يفتح الملفّات ولو كانت على بُعد آلاف الكيلومترات، وبلد لا يجرؤ على النظر في أعين ضحاياه، يبقى السؤال معلّقاً: هل يمكن لسوريا أن تبدأ فعلاً من جديد، إذا لم تبدأ من الحقيقة؟

*المصدر: درج | daraj.com
اخبار سوريا على مدار الساعة