انتصار الثورة السورية ونهاية متلازمة الإقصاء والتطرف
klyoum.com
منذ بداية الألفية الثانية، وتحديدا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2001، درج مصطلح الإرهاب العالمي وأخذ مفهوما فضفاضا للتحكم بإسقاطه على الفئة المستهدفة حسب الحاجة ونفيه عن فئة أخرى لأسباب سياسية ودينية أيضا.
ضخ إعلامي هائل وندوات فكرية مكثفة بدأت تحصر الإرهاب بكل جماعة تنتمي للدين الإسلامي، ومع احتلال العراق أصبحت فكرة ربط الإرهاب بالإسلام أكثر بلورة وأشد جرأة على ما يعتقده المسلمون أنه من عقائدهم، لتأتي بعدها أحداث الربيع العربي وخصوصا في سوريا وظهور تنظيم "داعش" كأول تنظيم محسوب على الجهادية العابرة للحدود يتبنى نظرية الخلافة بشكل عملي.
كل هذه الأحداث أطلقت العنان لعشرات المؤسسات الفكرية التي بدأت بنبش كتب التراث ووضع النصوص الدينية من القرآن الكريم والسنة النبوية على مشرحة النقد الذي في معظمه عبارة عن ردة فعل هجومية أكثر مما هي علمية موضوعية، فهذا يرى الحل للقضاء على التطرف بإيجاد دين جامع مستقى من كل الأديان وذاك يرى الحل بتغيير النصوص الدينية وغيره يرى الحل بتغيير الخطاب الديني وما إلى ذلك من أطروحات تتسم بالطفولية، لكن لم يطرح أحد السؤال الأهم، ماذا عن دور الإقصاء وتهميش الهوية الدينية لشعوب المنطقة في توليد فكرة التطرف في عقول الشباب ولا سيما المراهقين؟
التطرف الطارئ على الحياة السورية
على مدى التاريخ لم تعرف منطقة بلاد الشام تشددا دينيا لا على المستوى الفقهي ولا العقدي، فالفقه الذي كان دارجا لعقود طويلة كان على المذهب الشافعي ثم الحنبلي ثم المالكي حتى جاءت الدولة العثمانية فأعلت من شأن المذهب الحنفي.
على المستوى العقدي كان المذهب الأشعري والماتريدي ومذهب أهل الحديث الذين يسمون اليوم السلفية متخالفين في سوريا ولكن بشكل سلمي ولم تشهد البلاد أن حدثت صراعات عسكرية منطلقة من فكر تكفيري في سوريا، إلا ما يأتي من خلال "الخوارج".
معالجة التطرف لا تتم عبر ندوات فكرية تستهدف المسلّمات الدينية وتحاربها، وإنما يكفي الشباب المسلم في سوريا خاصة، أن لا يتعرض لإقصاء فكري حتى يكون مسالماً
ولقد شهدت دمشق في القرن الثامن الهجري أوج الصراعات العقدية، بين أهل الحديث الحنابلة والشافعية الأشاعرة، من خلال مناظرات وأطروحات كان ابن تيمية وابن القيم والذهبي روادها من جهة أهل الحديث وتاج الدين السبكي وابن مخلوف المالكي وابن دقيق العيد من جهة الأشاعرة، ومع ذلك تعايش الطرفان سوية بل حاربوا مجتمعين ضد التتار، وظلت هذه الخلافات رهن الكتب وقاعات المناظرة دون أن يتدخل السيف بحسمها، وابن تيمية رغم سجنه عدة مرات بمكيدة خصومه لم يقم بنفسه أو عن طريق طلابه بثورة مسلحة ضد مناوئيه، وعلى العكس تماما كان يعود مخالفيه إذا مرضوا ويعزي أهلهم حين ماتوا، حتى إن خصمه اللدود القاضي المالكي ابن مخلوف قال فيه: "مارأيت كريماً واسع الصدر مثل ابن تيمية فقد أثرنا الدولة ضده، ولكنه عفا عنا بعد المقدرة، حتى دافع عن أنفسنا وقام بحمايتنا، حرضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا".
كانت دمشق في تلك الحقبة تحتضن مختلف التيارات الدينية من الصوفية المغالية كأتباع الشيخ الأكبر ابن العربي كما يسميه محبوه إلى السلفية القحة كأمثال مدرسة ابن تيمية، والواقع السياسي كأن أشد قتامة، حيث الأمة ممزقة والبلاد اجتاحها التتار والمماليك الحاكمين في منتهى الهشاشة من الحكم، والخلافة العباسية في مصر مجرد صورة، ورغم ذلك لم تفرز هذه الظروف عن جماعات مسلحة تقاتل بعضها بعضا من منطلق تكفير عقدي، ولعل السبب في ذلك عدم شعور التيارات الإسلامية بأنها مقصاة من المشهد ولا تعيش أزمة هوية فرضها عليها نظام عالمي كما حصل في القرنين العشرين والحادي والعشرين مع فرض النظام العالمي وصاية على هوية الشعوب المهزومة بعد انهيار الخلافة العثمانية.
ما بعد الحرب العالمية الأولى
منذ إعلان نهاية الخلافة العثمانية رسمياً عام 1923، أحست الشعوب المسلمة بهزيمة نفسية عبرت عنها بحركات إحياء دينية تصارعت فكريا مع الوافد الجديد الممثل بالأحزاب القومية التي تمكنت من تكوين قاعدة شعبية وجدت فيها ملاذا للتعبير عن الهوية القومية الجامعة في مواجهة الاستعمار ومارس بعضها قمعا فكريا للأحزاب الإسلامية وتمكنت من الإمساك بزمام السلطة في البلاد التي تخلصت من الاستعمار الفرنسي والانجليزي، لكنها فشلت في تحقيق متطلبات الشعوب وانقشع سراب شعاراتها بعد نكبة فلسطين ومن ثم النكسة، فبدأت التيارات الإسلامية تستغل فشل الأحزاب القومية لتقدم نفسها بديلا عنها.
ومع سقوط أفغانستان بيد السوفييت وممارسة الشيوعية تغريبة وجدانية متوحشة ضد الدول المسلمة تطور نضال الجماعات الإسلامية من سياسي إلى مسلح تمكن من تحقيق هدفه في دحر السوفييت، لكن الاحتلال الأميركي اللاحق لأفغانستان أعاد انتكاسة هذه الجماعات وأحست بأنها تواجه حلفا عالميا يستهدف الإسلام، ومن خلال هذه "المظلومية" استطاعت أن تستقطب آلاف الشباب من شتى البلدان الإسلامية.
وعقب الاحتلال الأميركي للعراق وما خلفه من مصطلحات تتعلق بالإرهاب؛ ازداد شعور هذه الجماعات بحمل مسؤولية ما اعتبرته استرداداً لهوية الأمة الضائعة من أنياب التوحش العالمي الذي يستهدفها بشتى الوسائل.
وبعد انطلاق الثورة السورية وتخاذل المجتمع الدولي عن رفض الظلم عن الشعب السوري الذي تعرض لعمليات إفناء ممنهجة تستهدف هويته قبل كل شيء ازداد شعور الشباب المنتمين للتيارات الجهادية بحجم ما وصفوه بأنه "مؤامرة تستهدف الهوية الدينية للمكون الأكبر في سوريا"، ولذلك أصبحت أي فكرة جهادية تستهويهم، وإن كانت بعيدة عن التعقل والمنهجية. حتى إذا ما انتصرت الثورة السورية وأدرك الشباب السوريون المقاتلون من كافة الفصائل أنهم استردوا هويتهم، بدأ التطرف العدائي الطارئ يتلاشى تدريجيا من وجدانهم، مستعيدين توازنهم النفسي وطبيعتهم المسالمة غير العدائية، طالما أنهم لا يشعرون بالغربة الفكرية ضمن بلدهم وغير مقطوعين عن تراثهم.
والحال، فإن معالجة التطرف لا تتم عبر ندوات فكرية تستهدف المسلّمات الدينية وتحاربها، وإنما يكفي الشباب المسلم، في سوريا خاصة، أن لا يتعرض لإقصاء فكري حتى يكون مسالماً يحق له النضال من أجل الحياة في بلد يشعر بالانتماء التام إليه.