اخبار سوريا

تلفزيون سوريا

ثقافة وفن

متى يشيخ الوطن؟ مقاربة جمالية لفكرة الخلود الجمعي

متى يشيخ الوطن؟ مقاربة جمالية لفكرة الخلود الجمعي

klyoum.com

في مديح الأوطان، غالباً ما يُستدعى الوطن ككائن خالد، لا يشيخ، لا ينهار، ولا يموت. في الميثولوجيات الكبرى، يُنسب الوطن إلى الجبال والأنهار والسماء، ليكتسب صفات الثبات والمناعة.

لكن، ماذا لو كان الوطن، من حيث هو شعور، يخضع لقانون التحوّل والإنهاك مثل الأفراد؟ هل يمكن لوطنٍ ما أن يدخل، لا في طور الانهيار السياسي فقط، بل في زمن الشيخوخة الشعورية، حين تتراكم الخيبات، وتفقد الحماسة، وتغدو الذاكرة أثقل من المستقبل؟

في سوريا، لم يكن سؤال الوطن غائباً، لكنه نادراً ما طُرح من هذا المنظور. هل فَنيَ الوطن معنوياً، بينما نحاول ترميم بقاياه في المخيلة؟ هل بات الوطن يشبه الكهل الذي نُقبّله من جبهته احتراماً، لكننا لا نطيق العيش معه تحت سقف واحد؟

هذه المقاربة لا تزعم امتلاك إجابة، لكنها تحاول أن تستنطق صورة الوطن في المخيال السوري الحديث، حين أصبح الخوف هو القاسم المشترك، والصمت هو أبلغ اللغات، و"العودة" كلمة من زمن انقضى.

يحيل هذا التوتر بين الحنين والنفور إلى ما تسميه جوديث باتلر "الهوية المُجهضة"، حين لا يعود الشعور بالانتماء ممكناً دون المرور بسلسلة من الاعترافات المؤلمة. في الحالة السورية، فإن فشل سردية "العودة الكبرى"، كما في الحكاية الفلسطينية، فتح باباً لتساؤلات قاسية؛ هل الوطن الذي ننتظر العودة إليه، ما زال يحمل ملامحه القديمة؟ أم أنه تحوّل إلى أطلال شعورية نقيم فيها كما نقيم في الحنين؟

مخيال الانتماء المجروح.. السوري وسؤال العودة المؤجلة

منذ بدايات الفكر الإنساني، جُسّد الوطن بأشكال تُنزّهه عن الوهن. في الشعر العربي القديم، كان الوطن أرض الطلَل، وفي الرومانتيكية الأوروبية، ارتبط بالطبيعة النقية والخلود الحيوي. حتى في أدبيات المقاومة، يُعامل الوطن بوصفه الأم الكبرى التي لا تُقهَر ولا تَشيخ.

لكن علم النفس الجمعي، كما عند كارل يونغ وغاستون باشلار، يقدّم مداخل مغايرة؛ فالوطن ليس مجرد صورة خارجية، بل جهاز داخلي يعكس الحالة النفسية الجمعية. حين نشيخ كأفراد، بفعل الهزيمة أو التكرار أو فقدان المعنى، يتجعد الوطن في وعينا، ويفقد نضارته الرمزية.

في سوريا ما بعد العقد الأول من المأساة، لم يعد الوطن حلماً رومانسياً، بل أرشيفاً مثقلاً بالخسارات. صور مدن سابقة، أسماء معتقلين، أعمدة مدمّرة، وشوارع فقدت أمنها ووظيفتها الاجتماعية. شيخوخة الوطن هنا، لا تُرى على وجهه، بل في نظرة أبنائه وهم ينطقون اسمه بتردد، "هل ما زال وطناً؟ أم غدا مكاناً نحبّه من بعيد ونخشاه عن قرب؟"

تشيخ الأوطان حين يُستبدل الأمل بالواجب، والرغبة بالنجاة، والمستقبل بإعادة التدوير الممل للحنين. حين تصبح الأوطان قابلة للتكرار، لا للاختراع.

هل ما زلنا نؤمن بسوريا كما حلمنا بها، أم أننا نكرّر الحديث عنها لأننا لا نملك غيرها. في هذه الحالة، لا يكون الوطن مشروعاً، بل ذكرى محفوظة في قالب لغوي جاف، لا يمسّنا إلا حين نتذكر أننا فقدنا البدائل.

من الحلم إلى الذكرى.. في وطن يُعاد إنتاجه لغوياً

يمكن قراءة هذا التحوّل من الحلم إلى الذكرى في ضوء مفهوم بنديكت أندرسون عن "الجماعة المتخيّلة"، حيث لا تُبنى الأوطان على طبيعتها المادية فحسب، بل على الصورة التي تُنتجها اللغة والطقوس والمخيال. في سوريا، لم تعد الأمة "عائلة رمزية"، بل جماعات موزعة تعيد تعريف ذاتها على أسس مذهبية أو إثنية أو جغرافية، وتبحث عن وطن على مقاس الحاضر، لا على ميراث الأساطير.

في علم الاجتماع الثقافي، يشير مفهوم "الإرهاق الجمعي" إلى الحالة التي تدخل فيها المجتمعات مرحلة من التعب التراكمي الناجم عن الخسارات المتكررة والآمال المؤجلة. في السياق السوري، هذا الإرهاق لا يعبّر عن نفسه في الهزيمة فقط، بل في برود الانتماء، فالتعب لم يعد جسدياً فحسب، بل تعب من الانتظار، من تكرار الشعار، من الاحتفاظ بصورة وطن لم يعد موجوداً إلا في اللغة.

يكتب بول طبر عن "الشيخوخة الرمزية للمدن" في تجربته مع الحرب اللبنانية، حيث تنكفئ الأماكن على جراحها وتفقد وظيفتها العاطفية. ويمكن إسقاط هذا المفهوم على المدن السورية المهدّمة أو المهجورة، التي لم تعد فضاءات للعيش، بل شواهد على خذلان جماعي.

سرديات متكسّرة.. بين دراما الإنكار والفراغ الرمزي

تشيخ الأوطان حين تفقد مخيّلتها، وحين يُعهد بتشكيل صورتها لمؤسسات الخوف لا لمراكز الجمال. لكن، كما تشيخ الأوطان، يمكن لها أيضاً أن تولد من جديد، لا عبر الحدود، بل عبر اللغة.

هنا يمكن الاستشهاد بما يسميه إدوارد سعيد "سلطة السرد"، حيث لا يتشكّل الواقع بالحدث بل بطريقة روايته. الدراما السورية، التي قدّمت عشرات المسلسلات عن العائلة والمدينة والريف، عجزت بعد الثورة عن تقديم سردية وطنية جامعة، وانقسمت بين الإنكار الممنهج أو البكاء المتواصل. هذا الفراغ في السرد، ترك المخيلة السورية بلا جسر، وأعطى للنسيان سلطة ناعمة تتسلل بهدوء.

في سوريا، ينبغي تخيّل الوطن من جديد كعلاقة ممكنة بين المختلفين، كمساحة لا تخجل من فشلها. الدراما، الشعر، التصوير، الرواية، الحكايات الشفوية، كلها أدوات لإعادة صوغ الوطن بلغة تُشبه تعب الناس.

الوطن ليس ما كنّاه، بل ما نستطيع تخيّله رغم الإنهاك. ليس الحقيقة، بل الاحتمال الجمالي الذي يمنحنا ما يكفي من الحنين لنصبر، وما يكفي من الحلم لنكمل.

الخلود ليس خاصية للأوطان، بل أمل مؤجل في أعين من يحبونها. لكن لا خلود دون تجدد، ولا وطن دون شباب في اللغة، في الصورة، في المشاعر.

فلنكتبه إذاً كما نريده أن يكون، لا كما ورثناه، وكما نراه حياً لا محنطاً، متعباً لكن قابلاً للحياة، إن نحن منحناه قلباً لا مجرد بطاقة هوية.

 

*المصدر: تلفزيون سوريا | syria.tv
اخبار سوريا على مدار الساعة

حقوق التأليف والنشر © 2025 موقع كل يوم

عنوان: Armenia, 8041, Yerevan
Nor Nork 3st Micro-District,

هاتف:

البريد الإلكتروني: admin@klyoum.com