اخبار سوريا

تلفزيون سوريا

ثقافة وفن

"الخَضْرَمة" في الأدب والسياسة.. بين فتح مكة وتحرير دمشق

"الخَضْرَمة" في الأدب والسياسة.. بين فتح مكة وتحرير دمشق

klyoum.com

في جامعةٍ سوريةٍ من جامعات الثورة جاء مدرّس مادة أدب صدر الإسلام لطلبة السنة الثانية في اللغة العربية تحت عنوان "أدب صدر الإسلام مدرسة الأمس لليوم" بسؤالين:

ربطاً بكلامٍ سابقٍ عرضه عليهم في الموضوع، منه قول بنت الشاطئ: "إن منطق الخضرمة لا يحكم مرحلة الانتقال فيما بين شعر الجاهلية والإسلام فحسب؛ ولكنه يصدق كذلك على كل مرحلة انتقالية بين عصرَين، أيِّ عصرين"، فكلامها ينسحب على كل مراحل الاتصال الحضاري.

ويُحمد لطلبة ما زالوا في أوَّل دَرَج التعليم الأكاديمي أنهم أبدعوا فيهما؛ مع أن الواقع السوري اليوم يشهد أن كثيرين لا يستوعبون ذلك على حقيقته، فيأخذون الأمر بالطُّرف أو التقريع؛ وأظهرُ ما في هذا إطلاق مصطلح "تكويع" ومشتقاته حتى صارت "ترند"!

وبالعودة إلى مصطلح "الخضرمة" نتذكر أنه أُطلق على مَن أدركوا الجاهلية والإسلام، ثم توسعوا فيه فأطلقوه على مَن عاصروا الأمويين والعباسيين فأسمَوهم: مخضرمي الدولتَين. والنظر سريعاً في أصل اللفظ لغةً يوقفنا على معانٍ عدة كلها متصلة بالمصطلح ودلالاته بعد النقل عن أصله اللغوي، من ذلك معنى الاختلاط فيكون فيه آثار من كلتا الحقبتَين؛ فضلاً عن الاتساع لأنه امتد فأدرك حقبتَين زمنيتَين، والقطع من حيث انقطاعُه عن الجهة الأولى التي كان عليها.

ما للمكوّعين اليوم يُطلب منهم الاعتذار فتأخذهم العزّة بالإثم ويرون الاعتذار مهانة، دون أن يروا كذلك ما كانوا عليه لسنوات وهم في صفوف المجرمين مصفّقين أو مشاركين بالفعل في الإجرام؟

ومَن ينظر إلى ديوان حسان بن ثابت يجد آثاراً جاهلية كما كان عليه الجاهليّ من التغني بالخمر مع الشَّرب (الصحب في الشراب) والتكسب على أبواب ملوك الغساسنة ودعوات الثأر والقتل ضد الأوس شركائهم في يثرب، وبين قصائده ومقطعاته في ذلك ترتفع قصائده الإسلامية في الدفاع عن الدين ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ورثائه. ومع ما في وصول تلك الآثار الجاهلية من الإنصاف في تاريخ أمتنا وتراثنا العظيم دون تشنّج؛ ففيه شواهد على الاختلاط في الإنتاج والآثار عند مَن يدرك حقبتَين مختلفتين، دون أن يطعن ذلك في حسان؛ فقد كفر بماضيه الجاهلي وتجاوزه إلى الإسلام وأقام نموذجه الجديد على ذلك.

ولكن ثمّة ملاحظات تفيدنا في واقعنا اليوم.

أول ذلك أن قيام النموذج الجديد لا يكون فوراً؛ فالخضرمة بما فيها من اختلاط تعني أننا سنبقى مدة نرى التداخل والصراع بين النموذج القديم والنموذج الجديد حتى يستقر على ما يغلب عليه، فاستقامة حسان على الإسلام لا يلغي أن الذين ارتدُّوا اضطربوا وانتهوا إلى الخروج عن النموذج الجديد وعادوا لما ألْفَوا عليه الآباء والكبراء! فلا نحكم لِـمَن "كوّع" ونصدّره قبل أن يستقرّ أمره ونعرف على أي الجانبَين ينام، فلا ينقلب مع أول صيحة كما حصل مع الذين هتف بهم هاتف الردة فارتدوا وكادوا يقضون على الدين ودولته الوليدة.

ثاني ذلك أن حسان بن ثابت أيّده روح القدس وهو يهجو المشركين؛ ولكن في وقت الحرب، وللدفاع عن النبي الكريم والدعوة؛ فلما انتهى الصراع وحُسم الأمر بفتح مكة طُويت تلك الأشعار، وحُظر من القيادة ممثَّلة بالنبي ثم خلفائه الراشدين كلُّ ما يبعث الأحقاد؛ وهذا ملحظ مهم لابد منه حتى يكون انتقالٌ حقيقيّ من الصراع إلى التعافي، وما أحوج السوريين إلى هذا الوعي اليوم وهم في أُوْلى الخطى على طريق التعافي الطويلة.

***

وقبل أن تحتدّ عليّ أيها القارئ الكريم تحسب أنني أفرّط بالحقوق فهذا ثالث التنبيهات: نعود إلى أدب صدر الإسلام، لنجد أن من أهم ما تميز فيه من الموضوعات الاعتذار؛ اعتذار مَن ناصبوا الدعوة العداء وقالوا منكراً في ذلك، وما أكثر ذلك في شعر مَن اصطفوا مع المشركين ضد المسلمين طوال سنوات الصراع، ومثل ذلك عند مَن وافقوا المرتدين وشاركوهم القول أو الفعل؛ وكانوا على خوف شديد ألَّا تُقبل توبتهم ويُعفى عنهم؛ فما للمكوّعين اليوم يُطلب منهم الاعتذار فتأخذهم العزّة بالإثم ويرون الاعتذار مهانة، دون أن يروا كذلك ما كانوا عليه لسنوات وهم في صفوف المجرمين مصفّقين أو مشاركين بالفعل في الإجرام؟

ولعل ذلك أن أولئك كانوا عرباً رجالاً أعزّة رغم ما كانوا عليه، لم يروا في الاعتذار انتقاصاً من رجولتهم، بل الاعتذار عن الخطأ من تمام الرجولة ورجاحة العقل؛ فعلى مَن وافق المجرم الهارب بأي نوع من الموافقة أن يعتذر عما سبق منه، وأن يرجو القَبول والعفو قبل أن يتشدق ويطلب حقوقاً كان طوال سنوات الثورة والحرب متنازلاً عنها لأسياده؛ فالعفو من قيادة النصر والتحرير لا يفسح لأولئك أن يتعالَوا، فإن أخذت القيادة بنهج العفو فليكن أولئك على قدر رجولة الجاهليين أو المرتدّين عند إسلامهم وتوبتهم. فضلاً عن عدم التفريط بحقوق الناس؛ فلْتسامح القيادة وتعلن العفو تِلو العفو، ولكنّ حقوق الناس لهم أنفسهم، وليس لقيادة ولا لدولة أن تسامح بها أو تعفو عنها؛ ولكن المطالبة بها عبر الطرق القانونية؛ حتى لا تكون فوضى وتنبعث الثارات. ولا عفو ولا صفح عن كبار المجرمين؛ دون أن يتحسس من هذا اللطفاء رافعو لواء الحب والعفو،  فالذي يُنسب إليه "اذهبوا فأنتم الطلقاء" عند فتح مكة حدّد بعض رؤوس المشركين وأمر بقتلهم حتى وإن تمسكوا بأستار الكعبة، وهذا من تمام العدل وإنصاف الضحايا وذويهم.

ورابع ذلك أننا أمام المخضرمين في صدر الإسلام لم يعِب أحد على النبي صلى الله عليه وسلم إعلاءه من شأن صحابته الذين شاركوه آلام الجوع والتهجير القسري، بل بقي يكرر ذلك وأن منهم مَن لا يُكافأ كأبي بكر الصدّيق رضي الله عنه، ومَن اعتذروا من بعد جفاء مع الدعوة وأهلها انخرطوا جنوداً في معارك الفتح، ولم يقدّم الخلفاءُ مَن ارتدوا أو مَن أسلموا عند الفتح فوراً في مناصب قيادية ولا هم طالبوا بذلك، فكفاهم العفو وقبول التوبة، لينخرطوا جنوداً في جيوش الدعوة الجديدة، ثم ليتقدم بعد ذلك مَن يثبت منهم فينالها بجدارة، حتى لا يكاد يُصدّق أن عمرو بن معدي كرب أو طلحة بن خويلد كانا يوماً قادة في الردّة بعد أن تصدّروا حروب الفتوحات وقادوا معارك فيها وحققوا انتصارات للدعوة التي كانوا قبل سُنيّات مرتدّين عنها محاربين لها قولاً وفعلاً.

ومع ذكر الردّة والمرتدّين نستحضر هنا ما كان في حقبة الخضرمة الأولى من ذاك التمرّد الواسع؛ كيف كان تعامل القيادة وقد ارتدَّت أكثر القبائل كلٌّ منها ينادي بدعوة وزعامة؟ حتى إن بعضاً من أقوى قيادات المسلمين آنذاك تردّدوا في مواجهة المرتدين، حتى كان موقف الخليفة الصدّيق رضي الله عنه وهو الحليم؛ لكنه أعلنها مزمجرة بقتال مَن يفرّق بين أركان الدعوة وينادي بأجندة خاصة وانفصالية عن الدولة ويمنع موارد الزكاة المخصصة. فاشتدّ في حرب المرتدين حتى استقرت الدولة وخبت نار الفتنة، ثم عفا عن أفراد المرتدين وسمح لهم بالانضمام إلى صفوف جيوش الفاتحين التي خرجت للفتح ثم انشغلت بحربهم حين ارتدّوا ثم أكملت طريقها معهم.

إنْ كان الأدب من الثقافة التي هي جزء من هوية الأمة فالأدب القديم هويتها من جهة الأدب ومن جهة التاريخ؛ وحريّ بنا ونحن على أبواب مرحلة تاريخية فاصلة أن نرجع البصر في تاريخنا وأدبنا ففيهما من الدروس كثيرٌ مما يُستفاد منه لواقعنا ونهضتنا.

*المصدر: تلفزيون سوريا | syria.tv
اخبار سوريا على مدار الساعة

حقوق التأليف والنشر © 2025 موقع كل يوم

عنوان: Armenia, 8041, Yerevan
Nor Nork 3st Micro-District,

هاتف:

البريد الإلكتروني: admin@klyoum.com