قريبة من القلب

الفنانة السورية ميس حرب تقارب الروح الرحبانية في حفل إطلاق ألبومها الثالث 'تموز' الذي أقيم في دار الأوبرا بدمشق.

قاربت الفنانة السورية ميس حرب الروح الرحبانية، في حفل إطلاق ألبومها الثالث 'تموز'، الذي أقيم في دار الأوبرا بدمشق، إذ كتبت وانتقت كلمات أغانيها بعناية، محاولةً التلوين في المواضيع، بين الحب والغزل واللوعة والحنين والعتب والحلم والوطن، وجاء بعضها بلغةٍ فيها الكثير من الطَّرافة وخِفة الظِّلّ، وجميعها توالفت مع الألحان التي جاءت مندغمة مع روح الموضوع. وعلى الرغم من بساطتها الظاهرة، إلا أنّها ذات بنية متينة متماسكة، وقادرة على ترصيع الكلام بدراما إضافية وتعبيرية جميلة، لا سيّما مع صوتها الدافئ، وتطويعها له بتمَكُّن، ومن دون تكلُّف، ليُبرز جماليات فنية من نوع السَّهل الممتنع، التي تستعصي على كثيرين.

وزاد من ألق الحفل التوزيع المميز لرشيد هلال، قائد أوركسترا 'سيد درويش'، التي شاركت حرب أمسيتها، بحيث لم يتمَّ الركون إلى نمط واحد، بل جرى تسخير مجمل الآلات الموسيقية، الوترية والنفخية والإيقاعية، بنمطيها الشرقي والغربي، وإفساح مجال لصولويات وحواريات بينها، وفق تشكيل جمالي يستنبط روح كل أغنية، ويفرش طريقها، بتناغم مدروس وقدرات تعبيرية هائلة، إلى أذن المتلقّي.

أغنية 'بتعاتب خيالَكْ' كانت فاتحة الحفل، وهي من كلمات حرب وألحانها، بالشراكة مع هلال. ورغم أنّها من أغنيات ألبومها الجديد، إلا أنّها لتناغم كلماتها مع لحنها، تخال أنّك سمعتها من قبل، فهي ملاصقةٌ لوجداننا، والعتب الذي يتشارك فيه صوت المغنية السورية مع بقية الآلات، ولا سيّما البزق بتفريداته الجميلة، ينبش صوراً تتوالى في داخل كل منّا، راسمةً مشاهِد نألفها، لكنّها الآن مموسقة ببهاء، وأقل ما يُقال عنها إنّها 'قريبة من القلب'، فكيف مع كلمات 'بتعاتِبْ خيالَكْ.. في ظِلّ صورة، وما حدا قبالك/ بترجّعُنْ من غيبتُنْ.. وبتطلّعُنْ ع بالَكْ/ هِنّي الل كانوا يفرحوا بس يلمحوا خيالك'.

وما أن انتهى العتب، حتى سمعنا صوت حنين موسيقي، صاغه البيانو والإيقاع بدايةً، لتُكمله جوقة الكمنجات، ضمن مُحاولة لتعريف ماهية ضحكة المحبوب، التي وصفتها كلمات أغنية 'تموز' للشاعرة السورية لما القيّم، بسؤال: 'بتعرف شو هيي ضحكتك؟!. همس الندي للكوز/ وبعدو الصبح بأولو.. وبالشمس مش مخبوز/ وبعدو الهوى ما شَمَّرْ كمامو.. والليل شي إنّو غفي ومْنَهْنَهَةْ عضامو/ بتكرج بحضنوا ضحتك.. ويجاكروا تموز/ هوِّي الل مسأسأ غابتك.. وصنوبرا المكنوز/ بتعرف شو هيي ضحكتك؟!. همس الندي للكوز'، هُنا تبختر صوت ميس غنجاً ودلالاً، بحيث بات هو 'الصبح بأولو'، كَارِجَاً مع تنهيدات الموسيقى، وشعر القيّم المندغم بالريف، ليصبح هو الآخر مُفردة ريفية بكامل بهائها وطبيعيّتها.

ولعل من أبلغ ما وُصِف به فن الرحابنة وفيروز، أنّه حافظ على جماليات بدايته، وظلّ يبدأ لعشرات السنين، ويبدو أنَّ ميس حرب تسعى للسير على النهج نفسه، إذ إنّها، بتوزيع موسيقي مغاير لألحانها، حققه ابنها سلطان هلال، أعطى فيه مساحة إضافية للآلات النفخية والغيتار الكلاسيكي، برز أداؤها بنكهة جديدة، وهي تقول من كلمات الشاعر اللبناني مارون ماحولي: 'بحبّكْ مَسافِةْ صَوْتْ ما بيعرف مدى.. وكلما تِعِبْ ها الصّوتْ بيكفّي صدى/ بتعرف حبيبي أجمل حكاية.. إنو السنة الجاية.. رح حبك من جديد'.

صوتٌ مُتجدِّد بالحب مع كل أغنية في هذا الحفل، ومنها أغنية 'مَسّيتِكْ'، التي قدَّمت فيه لحناً من تراث أهل جبل العرب، مسقط رأسها، قام الملحن سالم معروف بتجديده بطريقة عصرية، من دون المساس بجوهره وأصالته، لتأتي كلمات جبر المقت: 'مسّيتِكْ وخيوط الروح مسّيتي.. ومتل البلسم ع المجروح مَرّيتي/ مَرّيتي وغاروا الحلوين.. من الدَّقَّةْ وسِحْرْ الياسمين/ والدَّقَّة بقلب المسكين صَحّيتي'، عميقة الأثر في جمهور دار الأوبرا، الذي تفاعل مع الأغنية بالتصفيق المرافق للإيقاع وتفريدات البزق، ومثل ذلك حصل مع أغنية 'العين تبكي'، التي كتب كلماتها غسان شرّوف، وأيضاً مع وصلة من التراث الفراتي، قدَّمت فيها 'المولية' و'عاللالا' و'يُمّه تعاليلي'، وكذلك مع أغنية 'تحت التفاحة' التي استطاعت فيها مُقاربة جماليات أداء فهد بلان، مع مفارقة أنّها بصوت أنثوي ناعم.

أما أغنية 'مالك حِلِّة'، فقاربت فيها من خلال كلماتها وألحانها أسلوب زياد الرحباني في أغانيه الناقدة والساخرة، التي صاغها على نمط الجاز الشرقي، ويحتل فيها صوت الترومبيت والآلات النفخية مساحة كبيرة، إلى جانب تنويعات البيانو. تنتقد المغنية السورية في هذه الأغنية المُنظِّرين المُترفِّعين عن الواقع، حيث تقول: 'يا بابا مالك حلة.. قاعدلي براس التلة/ بتنظر على هاد وهاد.. وعلى عقلاتك يا دلّي/ نازل شل الحواري.. مفلِّيهُنْ حارة حارة/ لا بتخجل لا بتداري.. لا من جار ولا جارة/ وبدلوك قاعد تدلي.. شي بتفضي وبتملي/ وعلى عقلاتك من عقلاتك على عقلاتك يا دلي'.

ولإبراز المزيد من جماليات صوتها غنّت ميس أغنية 'وجك بيذكر بالخريف' لفيروز، بمرافقة صولو كمان لابنها سلطان من دون بقية الفرقة، وأهدت 'الأيقونة السورية ميادة بسيليس'، كما وصفتها، أغنية 'وحدي بلا رفيق'، لتستمر لوعة الحب في 'يا ليتني'، من كلمات الشاعرة الكويتية ميسون السويدان، وفي 'نيال بالو' التي كتبها مهران أبو بكر. أما الحنين وألم الفراق، فكان من خلال أغنية 'وشلون أدير الراح'، التي كان من المفترض أن تكون ثامن أغنيات الألبوم، لكن ظروفاً حالت دون ذلك، لتبدع حرب في أدائها لكلمات الشاعر السوري عدنان العودة بكل ما تحمله من أسى، وتعزَّز ذلك مع صولويات للكمان والتشيللو، بالتوازي مع نبض قوي للآلات الإيقاعية وتهدُّجاتها، تقول الكلمات: 'وشلون أدير الراح.. ما راح من بالي/ أقبل عليّ صاح.. يبكي على حالي/ وشلون أدير المي.. والمي من دمعي/ يللي عبرت وياي.. بالك على شمعي/ تعبان قلبني السفر.. منفى على منفى/ تعبان خَلَّصتْ النَّفَسْ.. وما ماتت اللهفة/ تعبان واسمي تعب.. شلون التعب يغفى/ يا نخل ببلادي.. يا ريتني براسك معلَّق ولو سعفة'.

على مدى ساعة ونصف الساعة استطاعت ميس حرب و'فرقة سيد درويش' تقديم رؤيتهم الخاصة لمجموعة أغنيات قصيرة، كلماتها مميزة، وألحانها جميلة مكثفة، فيها طربية مخففة، وإيقاعية محببة، ودينامية متجددة، والتركيز الأساسي فيها على التعبير الموسيقي الذي يتناغم مع درامية النص الغنائي، وكأنّهم في كلِّ ذلك اتّبعوا نصيحة جبران خليل جبران، الذي نادى في كتابه 'حديقة النبي' بالأغنية القصيرة، عندما قال: 'سيروا في سبيلكم وأنتم تغّنون، لكن لتكن كلُّ أغنية قصيرة، لأنَّ الأغاني التي تموت باكراً على شفاهكم، هي وحدها التي تعيش في قلوب الناس. قولوا حقيقة جميلة في كلمات قليلة'.