اخبار السودان

اندبندنت عربية

سياسة

أطفال السودان النازحون بين فقدان الهوية والمستقبل المجهول

أطفال السودان النازحون بين فقدان الهوية والمستقبل المجهول

klyoum.com

الصراع المستمر في البلاد ترك أثراً عميقاً على الصحة النفسية لهؤلاء الصغار

تجلس أم محمد وهي نازحة في أحد المعسكرات بشرق السودان، أمام خيمتها التي بهت لونها تحت أشعة شمس المخيم، تتأمل طفلها وهو يلعب بالتراب، ثم تقول بصوت خافت يختلط بالتعب "أنجبتُ محمد هنا، في هذه الخيمة. منذ لحظة ولادته، لم نعرف بيتاً حقيقياً، ولا سقفاً ثابتاً يحمينا. الحرب سبقت فرحتنا به، وانتزعت منا كل شيء".

تتنهد قليلاً قبل أن تواصل "أكثر ما يؤلمني أن طفلي بلا ذاكرة عن موطنه الأصلي. لا يعرف قريتنا إلا من صور احتفظ بها في هاتفي وحين أسأله: أتريد أن نعود إلى بيتنا؟ يجيبني ببساطة جارحة: بيتنا هنا يا أمي. هذه الجملة تهز مشاعري كل مرة". وتابعت أم محمد، "الطفل ينبغي أن يكبر في منزل يعرف جدرانه، وصوت جيرانه، وشجرة يزرعها أمام بابه. أمّا محمد فكل ما يعرفه هو صفوف الإغاثة، وصوت الخيمة حين تعصف الريح. لقد نشأ على الطوارئ وصار المخيم وطنه الوحيد".

ثم تنظر إلى الأفق وتقول بصوتٍ أكثر وجعاً "أخشى أن يأتي يوم يسألني فيه سؤالاً لا أملك له جواباً: أمي من أين نحن؟ فالحرب سلبت هويته قبل أن تتشكل، وأنا أحاول كل يوم أن أعيد إليه شيئاً لا أعرف إن كان بالإمكان استعادته".

 

عبدالرؤوف سامي معلّم نازح من ولاية دارفور يقول "منذ النزاع، توقّف التعليم النظامي في كثير من المناطق، فالمدارس أغلقت أو استخدمت كملاجئ، والبنية التحتية تضرّرت بشدّة. وحسب تقارير منظمات دولية، فإن نحو 19 مليون طفل سوداني في سنّ الدراسة أصبحوا خارج المدرسة بسبب الحرب. من بين هؤلاء حوالى 13 مليون طفل من أصل 17 مليوناً في سن الدراسة لا يتابعون أي صف دراسي"، وأضاف سامي "بعض التلاميذ الذين هم مسجّلون لا يستطيعون الوصول للمدرسة بسبب النزوح أو القتال. أعمل حالياً في فصول طوارئ داخل المخيم، مع مواد تعليمية محدودة جداً لا طاولات كافية، فضلاً عن تزايد أعداد الطلاب، إضافة إلى أن الكتب غير كافية أو غير متوفّرة بانتظام"، وواصل "أحد أكبر التحديات هو انقطاع الدراسة المستمر، فكثير من التلاميذ غابوا أشهراً عدة أو حتى عاماً كاملاً، وعندما يعودون، غالباً ما يجدون أنهم تخلفوا كثيراً. كما أن تمويل التعليم في هذه الظروف ضئيل جداً، فالمساعدات الدولية موجودة، لكن التغطية لا تلبي الحاجة الحقيقية، كما أن عدد من المبادرات غير كافٍ لتغطية جميع الأطفال النازحين. على سبيل المثال، نجد أن خطة استجابة النازحين في التعليم تتطلب عشرات ملايين الدولارات لضمان عودة بعض التنظيم للتعليم، لكن الموارد متواضعة جداً"، وزاد أيضاً "بالنسبة لي كمعلّم، ما أقوم به اليوم ليس تعليماً كاملاً كما كان في المدارس العادية، بل محاولة لتوفير تعليم طارئ، لقطع الفجوة ومنع تدمير مستقبل جيل بأكمله. لكن إذا بقي الوضع على هذه الحال، فسنواجه جيلاً ضائعاً، فهناك أطفال فقدوا السنوات الدراسية، وقد لا يكون أمامهم ملاذ لإكمال تعليمهم الرسمي بعد انتهاء النزاع".

النزوح الجماعي والصراع في السودان تركا، أيضاً، أثراً عميقاً على الصحة النفسية للأطفال النازحين، إذ أظهرت دراسة حديثة أن 73 في المئة من الأطفال النازحين يشعرون بالقلق بشكل متكرر، و68 في المئة يعانون من شعور بالحزن المستمر، فضلاً عن 36.6 في المئة من المشاركين في بعض الدراسات يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة، نتيجة الصدمات الحربية.

وتقول الاختصاصية النفسانية سارة عبد الرحيم "ما نراه يومياً بين الأطفال النازحين ليس مجرد حزن موقت بل اضطراب نفسي عميق. فكثيرون من الأطفال يبلغون عن كوابيس، وصعوبة في النوم، وخوف دائم من العودة إلى العنف، وبعضهم يعزل نفسه عن اللعب أو التفاعل مع الزملاء"، وتابعت "كما أن النظام الأسري غالباً ما ينهار، فهناك أطفال فقدوا أحد الأبوين أو يعيشون في دور رعاية موقتة ما يضاعف الشعور بعدم الأمان. وعلى رغم ذلك، فإن عدداً قليلاً جداً يمكنه الوصول إلى الدعم النفسي، فمعظم الخدمات التي نقدّمها هي من خلال مساحات صديقة للطفل أو جلسات جماعية بسيطة، لأن عدد الأخصائيين النفسيين محدود جداً"، وحذّرت من أنه في "حال استمر الوضع من دون دعم نفسي مناسب، فهناك خطر كبير لناحية انعكاس هذه الصدمات على سلوكهم المستقبلي، وأن تنخرط العلاقات الأسرية في أفق غير صحي، ونحن بحاجة إلى تمويل مخصص للصحة النفسية ضمن خطط الاستجابة الإنسانية، وليس فقط لتخفيف المعاناة الآن، بل لحماية مستقبل هذا الجيل"، وبينت عبد الرحيم أن "تصرفات الأطفال في المخيمات تعكس حال الضغط المستمر التي يعيشونها، فكثيرون من الأطفال يظهرون فرط حركة واضحاً بسبب التوتر وغياب المساحات المنظمة للّعب، بينما يميل آخرون إلى السلوك العدواني كنتيجة مباشرة للتعرّض للعنف أو مشاهدته، ونسبة كبيرة من الأطفال يتشبثون بأمهاتهم ولا يبتعدون عنهنَ أثناء الأنشطة، نتيجة فقدان الإحساس بالأمان"، ولفتت إلى أنه "في المقابل، هناك أطفال ينعزلون اجتماعياً، فلا يشاركون في اللعب ولا يتفاعلون مع الآخرين، ويبدون أقل تعبيراً عمّا يشعرون به"، وأكدت أن "اضطرابات النوم شائعة جداً، إذ يعاني كثيرون من الأطفال من كوابيس مستمرة ونوم متقطع وخوف من النوم منفردين. أمّا في جانب التعلم، فهناك صعوبات في جانب التركيز والانتباه إذ باتت واضحة، بخاصة مع الانقطاع الطويل عن الدراسة والتنقل المتكرر، ويلاحظ أن اللعب بين الأطفال غالباً ما يتّخذ طابعاً عنيفاً أو محاكاة لمشاهد الحرب، إذ يعيدون تمثيل ما شاهدوه كطريقة لا واعية للتعامل مع الصدمة"، وختمت الاختصاصية النفسانية حديثها بالقول "هذه التصرفات ليست دائمة بالضرورة، لكنها دلائل على ضغوط نفسية كبيرة لا يمكن تجاهلها، ومع غياب الدعم المتخصص تتحول تدريجاً إلى أنماط قد تلازم الطفل فترة طويلة".

على رغم الظروف القاسية داخل المخيمات، غير أن عدداً من الأطفال لديه تصوّرات متفاوتة عن مستقبل السودان، تتأثر بما يسمعونه من الكبار وما يشاهدونه يومياً من غياب الاستقرار والخدمات.

في إحدى المساحات الصديقة للطفل، يجلس عدد من الأطفال الذين وُلدوا أو نشأوا في بيئة النزوح، ونجد بعضهم يتحدث عن المستقبل بصورة بسيطة ومباشرة، مثل آدم (10 سنوات) الذي يقول إنه يريد بلداً "بلا ضرب"، وهو التعبير الذي يستخدمه كثيرون من الأطفال حين يُسألون عمّا يتمنونه.

أما شهد (12 سنة)، فتربط مستقبلها بالعودة إلى المدرسة، مؤكدة أنها "لن تستطيع أن تصبح طبيبة إذا استمرت الحرب وانقطعت الدراسة"، وهي رؤية تكررت بين عدد كبير من الأطفال الذين يعتبرون التعليم مرادفاً للمستقبل. بينما يرى معتصم (9 سنوات) أن مستقبل السودان "يعتمد على رجوع الناس إلى بيوتهم"، موضحاً أنّه لم يرَ قريته من قبل، لكنه سمع عنها من والدته، ويعتقد أن العودة إليها هي بداية "رجوع البلد لطبيعته".

وتشير سامية (13 سنة) إلى موضوع الأمان كأولوية.

وقالت المختصة الاجتماعية نرمين قاسم في هذا الخصوص "هذه الآراء تظهر أن تصورات الجيل الصغير مرتبطة بـ 3 عناصر أساسية وهي الأمان، عودة الحياة الطبيعية، والتعليم. وهي رؤية مختصرة لكنها تكشف بوضوح كيف يفهم الأطفال المستقبل ضمن بيئة نزوح مستمر وغياب مؤسسات مستقرة. وعلى رغم محدودية المعلومات التي تصلهم، إلا أن معظمهم يربط تحسّن مستقبل السودان بانتهاء الحرب واستعادة الخدمات الأساسية التي لم يعرفوها إلا من روايات الأهل".

*المصدر: اندبندنت عربية | independentarabia.com
اخبار السودان على مدار الساعة

حقوق التأليف والنشر © 2025 موقع كل يوم

عنوان: Armenia, 8041, Yerevan
Nor Nork 3st Micro-District,

هاتف:

البريد الإلكتروني: admin@klyoum.com