اخبار السودان

اندبندنت عربية

سياسة

في السودان دولة غائبة وشعب يكافح للبقاء

في السودان دولة غائبة وشعب يكافح للبقاء

klyoum.com

النظام القضائي تراجع والتعليم انقطع والكهرباء والمياه تغيب بالأسابيع والمواطنون يكابدون لتوفير مقومات الحياة البسيطة

يشهد السودان منذ اندلاع الحرب في أبريل (نيسان) 2023 انهياراً شاملاً وواسعاً في مؤسسات الدولة الأساسية، شمل تعطل القضاء وغياب العدالة وإغلاق المدارس والجامعات، وانعدام المياه والكهرباء وانهيار القطاع الصحي، مما انعكس مباشرة على حياة ملايين المدنيين الذين باتوا في حال صراع يومي من أجل البقاء.

ووسط هذا الواقع يجد السودانيون أنفسهم أمام تحدي العيش بلا خدمات أساس، معتمدين على مبادرات محلية وجهود فردية وأخرى جماعية تطوعية لتأمين الماء والغذاء والدواء، فإلى أي مدى استطاع الإنسان السوداني مجاراة هذا الوضع المتردي؟

منذ اندلاع النزاع تراجع النظام القضائي السوداني بصورة ملاحظة، إذ تعرضت المؤسسات القضائية لحملات قصف ونهب وتدمير شملت المحاكم ومقار النيابات العامة، وهو ما أوقف سير المرافعات القضائية وعطل ملفات مئات المدنيين، وفي الوقت ذاته تحول القضاء إلى أداة قمعية، فصدرت آلاف الأحكام، بعضها بالإعدام أو السجن المؤبد، وغالباً بلا أدلة واضحة أو إجراءات نزيهة وعلنية.

ويصف المحامي طه النعيم حال الجهاز القضائي بعد اندلاع الحرب بأنه "انهيار كامل للعدالة، فالمحاكم أغلقت أو دمرت في كثير من المدن، والنيابات العامة توقفت عن استقبال الشكاوى، بينما فرّ معظم القضاة والكوادر القانونية من مناطق النزاع، وهذا التعطل شل مسار آلاف القضايا المدنية والجنائية وأفقد المواطنين ملاذهم الأخير في مواجهة الانتهاكات، وبغياب إنفاذ القانون تفشى الإفلات من العقاب، حيث ترتكب جرائم قتل ونهب واعتداءات جنسية من دون مساءلة أو محاسبة".

 

وأضاف النعيم أن "الأثر الأكبر ظهر في حياة الناس اليومية، مثل نزاعات الأراضي والميراث التي تركت من دون حسم، كما تعثرت حالات الطلاق والنفقة، فضلاً عن أن الجرائم العادية تسوى بطرق قبلية أو تنتهي بالعنف المضاد، بيد أن غياب العدالة زرع شعوراً عاماً بالخوف وانعدام الثقة، ليس في المؤسسات وحدها بل في إمكان تحقيق إنصاف مستقبلي، فحين يسقط القانون لا يبقى للمواطن سوى أن يحتمي بعائلته أو قبيلته، أما الدولة فقد غابت عن المشهد"، مردفاً أن "انهيار القضاء لم يحرم الناس حقهم في التقاضي وحسب بل خلق بيئة خصبة لتكريس العنف وتوارث الانتقام، وهو ما يهدد مستقبل البلاد حتى بعد توقف القتال، فمن دون عدالة لا يمكن للسودان أن ينهض من رماده لأن الجراح ستظل مفتوحة بلا دواء".

في المقابل يرى القاضي سابقاً مصطفى نادر أن "الصورة ليست مظلمة بالكامل، فبعض المحاكم في ولايات شرق البلاد وشماله لا تزال تعمل بقدرات محدودة، وتواصل الفصل في قضايا مدنية وتجارية لضمان الحد الأدنى من العدالة"، مضيفاً أن "القانون لم يختف تماماً بل تكيف مع الظروف عبر تفعيل آليات محلية مثل مجالس الصلح والوساطات المجتمعية التي ساعدت في احتواء نزاعات الأراضي والميراث، فتحميل القضاء مسؤولية الانهيار الكامل غير منصف لأن الحرب عطلت كل مؤسسات الدولة وليس العدالة وحدها، وفي ظروف كهذه لا يمكن أن نتوقع من المحاكم أن تعمل بكفاءة كاملة، لكن الأهم أن ثمة محاولات قائمة لحماية ما بقي من النظام القانوني ومنع الانزلاق إلى الفوضى المطلقة".

ويقول عبدالرحمن الرشيد، الأب لخمسة أطفال والذي نزح مع أسرته من أم درمان إلى بورتسودان، إن "أكثر ما يؤلمني بعد النجاة من القصف هو رؤية أطفالي يكبرون بلا تعليم، فابني الأكبر كان على وشك دخول الثانوية العامة واليوم يقضي وقته في حمل الماء والبحث عن عمل هامشي يساعدنا في العيش، أما البنات فقد نسين شكل الفصل والسبورة"، مواصلاً بحسرة أن "إغلاق المدارس لم يحرم أبنائي فقط من العلم بل من الأمان والروتين اليومي الذي كان يحميهم من الفراغ والضياع، إنني أشعر وكأن جيلاً كاملاً يسرق أمام أعيننا، جيل بلا كتب ولا معلمين ولا مستقبل واضح".

ويصف الأكاديمي محمد عبدالله أزمة التعليم بأنها "أخطر من الدمار المادي، فالتعليم هو عماد الاستقرار وبذرة النهوض، لكن الحرب أخرجت أكثر من 12 مليون طفل من المدارس وأوقفت الدراسة في معظم الجامعات، فطلاب السنوات النهائية عالقون بلا شهادات، والأبحاث توقفت والمعلمون أنفسهم صاروا نازحين يبحثون عن مأوى".

وبيّن الأكاديمي أن "ضياع عامين أو أكثر من عمر التعليم سيترك فراغاً معرفياً هائلاً يصعب تعويضه حتى بعد عودة السلام، فالآن جيل كامل يقف على حافة الانقطاع، وإذا لم يستدرك الأمر فسيدفع السودان الثمن لعقود مقبلة".

وفي المقابل رأى الناشط التربوي هشام فتحي أن "الحديث عن انهيار كامل للتعليم قد يكون مبالغاً فيه"، موضحاً أن "عدداً من المعلمين المتطوعين أقاموا فصولاً موقتة داخل مراكز النزوح والمساجد، حيث يجتمع عشرات الأطفال يومياً لتلقي دروس أساس في القراءة والرياضيات".

ونوه الناشط التربوي بأن "مثل هذه المبادرات لا تعوض المدارس والجامعات لكنها تمنح الأطفال شعوراً بالاستمرار وتمنعهم من الانقطاع التام، وصحيح أننا نفتقر إلى الكتب والمناهج الرسمية لكننا نعلمهم أن الأمل لا يزال قائماً وأن العودة لمقاعد الدراسة ممكنة متى ما توقفت الحرب".

ويشير تقرير لمنظمة الصحة العالمية إلى أن أكثر من ثلث المرافق الصحية في السودان غير وظيفية، وأن نسبة المستشفيات العاملة لا تتجاوز 14 في المئة فقط، بحسب نظام الرصد المتاح لموارد القطاع الصحي (HeRAMS) خلال النصف الأول من عام 2025، وتفيد تقديرات اللجنة الدولية للصليب الأحمر بأن ما بين 70 و80 في المئة من المرافق الصحية خارج الخدمة في مناطق النزاع، مما يحرم أكثر من ثلثي السكان من الوصول إلى الرعاية الطبية الأساسية.

في ود مدني تجلس أم خالد داخل غرفة ضيقة في مركز إيواء مزدحم وتحمل بيدها حقيبة صغيرة مليئة بعلب أدوية فارغة، وتقول بعينين يكسوهما القلق "ابني مريض بالسكري منذ سبعة أعوام وكان يتلقى علاجه بانتظام في الخرطوم، لكن بعد اندلاع الحرب توقفت الإمدادات وانقطعنا عن المستشفى الذي كنا نراجعه، وفي البداية حاولت شراء الأنسولين من السوق السوداء لكن الأسعار كانت تفوق قدرتنا، ثم بدأنا نقتطع الجرعات فأعطيه نصف ما يحتاج، وأحياناً أتوسل للأطباء المتطوعين في المراكز أن يجدوا له علاجاً"، وتضيف "تدهور صحة ابني جعلني أشعر بالذنب والعجز في آن واحد، فقبل أيام دخل في غيبوبة قصيرة بسبب نقص الدواء وظننت أنني فقدته، فلم أعد أنام ليلاً من الخوف، وكل يوم أستيقظ وأنا لا أعرف إن كان العلاج سيتوافر أم لا".

ومضت أم خالد قائلة إن "معاناتي ليست استثناء بل تتكرر مع مئات الأسر التي لديها أطفال مصابون بأمراض مزمنة مثل الربو والأنيميا والفشل الكلوي، فالحرب سرقت بيوتنا وأماننا لكنها اليوم تسرق حياة أبنائنا ببطء".

تقول سارة أيمن، الطبيبة التي تعمل حالياً في عيادة ميدانية ببورتسودان، "نستقبل يومياً جرحى الحرب وحوامل ومرضى مصابين بأمراض الضغط والكلى، لكننا نفتقر إلى الأدوية والمعدات الأساس ونضطر أحياناً إلى استخدام وصفات بدائية، والأخطر هو تفشي الملاريا والإسهال وسط النازحين، إذ يعانون غياب المياه النظيفة والصرف صحي، ومعظم الكوادر الطبية تعمل فوق طاقتها لكنها تواصل واجبها على رغم غياب الدعم الرسمي"، موضحة "نتعامل مع حالات تحتاج إلى جراحة عاجلة، لكن كل ما نستطيع فعله هو تضميد الجراح أو محاولة وقف النزف حتى نجد وسيلة لنقل المريض إلى مكان آخر، وبعض النساء يلدن على الأرض بلا تعقيم وبلا قابلات مؤهلات، وهناك مرضى كلى يحتاجون إلى غسل أسبوعي، لكن محطات الغسل في الخرطوم دمرت والنتيجة أن كثيرين منهم يموتون بصمت".

وواصلت الطبيبة أن "المرضى ينظرون إلينا كآخر أمل لهم وهذا ما يدفعنا نحو الاستمرار على رغم الخطر والإرهاق، ونحن لسنا فقط أطباء بل شهود على انهيار وطن بأكمله".

وبحسب الأمم المتحدة فإن أكثر من 25 مليون سوداني يواجهون انعداماً في الأمن الغذائي، فيما تعاني معظم المدن انقطاع الكهرباء والمياه لأيام وأسابيع متواصلة، ومع غياب خدمات الصرف الصحي تفاقمت الأخطار الصحية في مراكز النزوح والمناطق الطرفية.

تقول آمنة، وهي أم لثلاثة أطفال نزحت من الخرطوم إلى بورتسودان، "كنا نعيش حياة عادية قبل الحرب، لكن الحصول اليوم على ماء نظيف بات همنا الأول، ونحن ننتظر ساعات طويلة أمام صهاريج المياه وأحياناً أعود للبيت بلا قطرة ماء، فضلاً عن انقطاع الكهرباء تماماً، فأطفالنا ينامون في الظلام والحر، وحتى الخبز أصبح رفاهية فقد نقتات غالباً على وجبة واحدة في اليوم".

وزادت النازحة "ما يؤلمني أكثر هو إحساسي بأن حياتي أصبحت مكرسة للبحث عن أبسط مقومات البقاء، فلم تعد هناك مدرسة أو مستشفى أو عمل، ونحن فقط نكافح كي نصمد ليوم جديد".

وفي السياق أوضح عضو لجنة مقاومة محلية ببورتسودان سامر الحاج أنه "لم يعد أمام الناس سوى الاعتماد على أنفسهم للبقاء، فحين غابت الدولة بكل مؤسساتها أصبح علينا أن نبتكر طرقاً جديدة للعيش، فنظمنا شبكة تبادل غذاء بين الجيران، فمن يملك دقيقاً يقايضه بزيت أو عدس، ومن يملك قدرة على الطهي يشارك وجبته مع الأسر التي لا تملك شيئاً".

وأضاف الحاج أن "هذه المبادرات لم تقتصر على الطعام بل شملت أيضاً الماء والكهرباء، فحفرنا آباراً صغيرة في أطراف المدينة وجمعنا تبرعات لشراء مولدات كهرباء صغيرة، فهناك شباب متطوعون يصنعون مواقد بدائية من الحديد لتقليل الاعتماد على الغاز المفقود".

وبين عضو لجنة مقاومة محلية بورتسودان أن "هذه الجهود الشعبية هي التي تحفظ بقاء المجتمعات في مواجهة الانهيار، فالناس هنا يتقاسمون المعاناة كما يتقاسمون الخبز، وصحيح أننا متعبون ونعمل في ظروف قاسية لكن التضامن صار سلاحنا الوحيد".

*المصدر: اندبندنت عربية | independentarabia.com
اخبار السودان على مدار الساعة

حقوق التأليف والنشر © 2025 موقع كل يوم

عنوان: Armenia, 8041, Yerevan
Nor Nork 3st Micro-District,

هاتف:

البريد الإلكتروني: admin@klyoum.com