اخبار السودان

اندبندنت عربية

سياسة

ديون السودان تطوق الزراعة والمجتمعات الريفية

ديون السودان تطوق الزراعة والمجتمعات الريفية

klyoum.com

عوامل عدة أدت إلى الخسائر الحادة في القطاع منها صدمة النفط والإخفاق في التنويع والصراع على الحكم والضغوط المناخية

تشكل ديون السودان المتراكمة تجاه المنظمات الدولية والدول المانحة إحدى العقبات البنيوية الرئيسة أمام مسارات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولا سيما في القطاعات الإنتاجية ذات الأهمية الاستراتيجية مثل الزراعة، تتجاوز هذه الديون مجرد كونها التزامات مالية إلى كونها محدداً هيكلياً يرسم حدود القرار الاقتصادي والسيادي للدولة، ويعيد ترتيب أولوياتها التنموية وفق منطق المانحين أكثر من حاجات المواطنين.

وفي ظل الحرب الممتدة منذ أبريل (نيسان) 2023، وما خلفته من تآكل في القاعدة الإنتاجية وانهيار في سلاسل التوريد المحلية، تتضاعف وطأة هذه المعضلة في المناطق التي شهدت انسحاب القتال منها، إذ تصبح الحاجة ماسة إلى استعادة دورة الإنتاج الزراعي وتأمين مصادر التمويل والخدمات الأساسية لإعادة الإعمار، بينما تبقى الدولة مكبلة بأعباء سابقة تجعل أي انطلاقة تنموية رهينة لشروط خارجية.

وفي هذا السياق يبرز موقف الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد) بوصفه نموذجاً دالاً على التداخل بين الالتزامات المالية والفرص التنموية، فقد رهن الصندوق تقديم منحة جديدة للسودان بقيمة 47 مليون دولار بتسوية المتأخرات المستحقة عليه مسبقاً، وهو ما يعكس نمطاً شائعاً في إدارة العلاقة بين الدول منخفضة الدخل والمؤسسات المالية الدولية، وعلى رغم أن هذا الشرط يهدف رسمياً إلى ضمان الانضباط المالي واستدامة الموارد، فإنه في الواقع يضع السودان أمام معادلة صعبة، فالتزامات السداد تستنزف الموارد المحدودة، بينما تظل المشاريع التنموية الضرورية رهينة الانتظار.

يكشف هذا الوضع عن مفارقة الاقتصاد السياسي للتنمية في البلدان الهشة، مثل السودان، فحين تتزايد الحاجة إلى التمويل الميسر لإعادة بناء القطاعات الإنتاجية، تتشدد الشروط الائتمانية والمساعدات المشروطة، مما يضاعف من هشاشة الدولة ويضعف قدرتها على رسم مسار مستقل للتنمية، ومن ثم فإن جهود كثيرة ينتظر أن تبذل لتجاوز هذا المأزق الذي يتطلب مقاربة أكثر توازناً من قبل المؤسسات المالية الدولية، وتوجه الدولة على رغم ظروف الحرب في الإيفاء ببعض الالتزامات، للحصول على حوافز تنموية فعلية.

هناك عوامل عدة أدت إلى الخسائر الحادة في القطاع الزراعي بالسودان عبر تضافر صدمات متعددة جرى تجاهلها أو إدارتها بصورة غير كافية منذ استقلال جنوب السودان في 2011 وحتى اندلاع الحرب الحالية، العامل الأول هو صدمة النفط والتبعية الريعية، فبعد انفصال جنوب السودان، فقد السودان نحو 75 في المئة من احتياطاته النفطية المثبتة والموارد المرتبطة به، مما أدى إلى انخفاض حاد في الإيرادات الحكومية، خصوصاً أن النفط قبل الانفصال كان يمثل غالبية الصادرات والإيرادات الأجنبية الحكومية، وأفقد ذلك الدولة القدرة التمويلية على دعم القطاعات الإنتاجية، فانتقلت الموازنات نحو تغطية العجز العام، والإنفاق على الأمن والدين، بدلاً من الاستثمار في الزراعة، والبنية التحتية الريفية، والبحث والتكنولوجيا. والثاني هو إخفاق مؤسسي وهيكلي في التنويع، فخلال فترة ما قبل الاحتجاجات في 2018، واجه السودان ما يعرف بـ"المرض الهولندي"، والذي ظهر في الاعتماد على عائدات النفط، مما أدى إلى تراجع القدرة التنافسية للزراعة والصناعة. وعندما فقد النفط، لم تكن هناك قطاعات أخرى قوية تساند الاقتصاد، فارتفعت الديون وتفاقم الفقر وانعدام الأمن الغذائي.

 

أما العامل الثالث فهو النزاعات السياسية والاجتماعية والتغيرات في الحكم، فاحتجاجات 2018 وما تلاها من إسقاط النظام السابق، ثم إن الفترات الانتقالية لم تحقق الاستقرار الكامل، مما أدى إلى تأخير في تنفيذ المشاريع التنموية، وتدهور الأراضي الزراعية بفعل التدمير أو الإهمال وحالات النزوح. والرابع يتعلق بالضغوط المناخية والتقنية، فقد تأثر الإنتاج الزراعي سلباً بتقلبات الطقس من جفاف، ثم فيضانات وتدهور التربة، ونقص البذور المحسنة والأسمدة، وضعف شبكات الري، ونقص المعرفة التقنية.

شكَّل القطاع الزراعي ركناً محورياً للاقتصاد السوداني مزوداً لثلث الناتج المحلي ومصدر رزق لغالبية السكان، غير أن التراجع الحاد في الإنتاج والقدرة الانفاقية بفعل الحرب أدى إلى تغيرات هيكلية سريعة في مساهمة القطاع وإنتاجيته. وفق تقديرات مؤسسات دولية، منها منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) كانت مساهمة الزراعة نحو ثلث الناتج قبل الصدمات الأحدث، وتراجع النصيب المدرج في سجلات الحسابات الوطنية إلى نحو 22 في المئة عام 2024 نتيجة الانهيار الجزئي للأنشطة والإخلال بسلاسل القيمة.

على مستوى الدين العام، يكشف تقييم الجدوى والقدرة على السداد عن أرقام مقلقة أظهر تحليل مشترك لصندوق النقد والبنك الدولي تقدير حجم الدين العام المعلن بنحو 60 مليار دولار مع نسبة كبيرة منها تقع في حالة متأخرة تصل لنحو 85 في المئة من الدين الخارجي المسجل في فترات سابقة، كما سجلت نسبة الدين إلى الناتج مستويات فائقة بلغت مئات النسب المئوية في بعض سنوات القياس، مما يعكس ضغوطاً مالية هائلة على الموازنة العامة وإيرادات الدولة المحدودة.

في هذا الإطار تتحول المساعدات الموجهة للزراعة، كالقروض والمنح الاستثمارية من مؤسسات مثل الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد) إلى أدوات ذات تأثير مزدوج، يمكنها إعادة إحياء السلاسل الإنتاجية المحطمة ودعم صغار المنتجين، لكنها غالباً ما تترافق مع شروط مالية وإدارية مرتبطة بتسوية المتأخرات أو بمتطلبات انضباطية، وكمثال ناصع لذلك هو ارتباط منحة "إيفاد" بقيمة 47 مليون دولار بشرط سداد المتأخرات، وهو نمط يضع السودان أمام مفاضلة صعبة بين تخصيص موارد نادرة للسداد أو للاستثمار المباشر في التعافي الزراعي. وذلك يعني أن كلفة خدمة الدين تمتص حصة كبيرة من الموارد المتاحة للسياسات الزراعية، مما يؤدي إلى تقليص الإنفاق على المدخلات، والبنى التحتية الريفية، وبرامج حماية الدخل للمزارعين المتضررين، وهو ما يطيل أمد التعافي ويجعل دورة الفقر مزمنة في المناطق الريفية المستهدفة.

وبحسب البنك الدولي تتطلب الحلول المتاحة المضي نحو إعادة هيكلة الدين بما يراعي استثنائية ظروف النزاع، بالتخفيف الموقت لخدمة الدين مع منح ميسرة موجهة لاستعادة الإنتاج وتقوية الأسواق المحلية، فضلاً عن ربط المساعدات بمقاييس أداء حقيقية لقياس فاعلية الإنفاق الزراعي.

أعلن وزير المالية والتخطيط الاقتصادي جبريل إبراهيم في تعميم صادر في السابع من سبتمبر (أيلول) الجاري أن الحكومة شرعت في إجراءات تسوية المتأخرات المالية لتمكين السودان من الحصول على تمويل "إيفاد"، وصرف المنحة البالغة 47 مليون دولار لدعم المزارعين في القطاعين الزراعي والحيواني، كما أكد إبراهيم أن مشروعات الحكومة تركز على "الصمود والتنمية الريفية بهدف رفع إنتاجية المزارعين ومنتجي الثروة الحيوانية، وتعزيز قدرات المرأة، وتنظيم جمعيات المنتجين لتسهيل وصولهم إلى التمويل الدولي المباشر".

ومن جانبه شدد وكيل التخطيط محمد بشار على أهمية مشروعات "إيفاد" في المجتمعات الريفية المتأثرة بالحرب في ولايات مثل الجزيرة والخرطوم ونهر النيل، إضافة إلى كسلا وسنار وكردفان، في استعادة قدراتها الإنتاجية.

وقالت المديرة القطرية لصندوق "إيفاد" رشا عمر إن "الصندوق سينشط برامجه مثل استدامة الموارد الطبيعية وسبل كسب العيش، وسيعيد مراجعة خطة تحسين الأداء لتشغيل المشاريع في كل الولايات، مع تخصيص موارد لصغار المنتجين وتمكين المرأة في الإنتاج والتصنيع الزراعي".

وتتوازى هذه المواقف مع مبادرات دولية مكملة، فقد أعلن مكتب الأمم المتحدة لخدمات المشاريع والاتحاد الأوروبي في فبراير (شباط) الماضي توقيع اتفاقية بقيمة 19.3 دولار أميركي لتنفيذ مشروع "تعزيز الأمن الغذائي وقدرة المجتمعات الريفية على الصمود في السودان لمدة أربع سنوات"، ويستهدف المشروع ولايات القضارف وكسلا والبحر الأحمر، وهي من أكثر المناطق تضرراً بانعدام الأمن الغذائي وتغير المناخ والنزاعات.

ويركز البرنامج على بناء قدرات صغار المزارعين والرعاة في سلاسل القيمة الزراعية والحيوانية، والممارسات المتكيفة مع المناخ، وتسهيل فرص التمويل لتحسين الإنتاجية والصمود، إضافة إلى توفير معلومات بيئية متكيفة، ومعدات وآليات زراعية، وربطهم بالأسواق، كما سيوفر المشروع دعماً نقدياً طارئاً للأمن الغذائي للفئات الأشد تضرراً.

وقال رئيس وفد الاتحاد الأوروبي إلى السودان إيدان أوهارا إن الصراع أدى إلى أكبر أزمة نزوح داخلي في العالم ورفع انعدام الأمن الغذائي إلى مستويات غير مسبوقة، مؤكداً التزام الاتحاد الأوروبي المستمر دعم الشعب السوداني.

وأشارت مديرة مكتب الصندوق الأوروبي ووركنش ميكونين إلى أن الشراكة القائمة منذ نحو 20 عاماً ستسهم في تمكين المجتمعات المحلية من تكييف نهجها الزراعي مع تغير المناخ وتعزيز سبل عيش مستدامة أكثر مرونة.

يكشف الوقوف عند حالة السودان إلى جانب تجارب أفريقية ناجحة عن أن تجاوز أزمات الديون الزراعية والانكماش الإنتاجي يتطلب مقاربة شاملة تتكامل فيها إعادة هيكلة الديون مع بناء قدرات المجتمعات الريفية، إذ تقوم تجربة زيمبابوي منذ عام 2016 عبر برنامج "الزراعة الموجهة" الذي تبنته الحكومة، على تدخل الدولة المباشر في سلاسل الإنتاج الزراعي من خلال تزويد المزارعين بالمدخلات والخدمات والتمويل بضمانات حكومية، مقابل التزامهم بزراعة وتسليم محاصيل استراتيجية محددة، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي وتعزيز الأمن الغذائي الوطني"، فتوفير المدخلات الزراعية للمزارعين، حتى في ظل العقوبات وشح التمويل، أسهم في تحسين إنتاج الذرة والقمح وتقليل الاعتماد على الاستيراد، على رغم تحديات الشفافية.

أما مشروع "كيتا" في النيجر الذي بدأ منذ الثمانينيات فيبرز أثر التدخلات المتكاملة طويلة الأمد في استصلاح الأراضي، وبناء سدود صغيرة وآبار، وتنظيم التعاونيات، وهو نموذج لكيفية استعادة الإنتاجية وتقوية سبل العيش تدريجاً، كما أن نظام ضمان الائتمان الزراعي في بوتسوانا يعكس قيمة الدور الحكومي كوسيط لتحمل الأخطار المناخية وحماية صغار المزارعين من الإفلاس عند الصدمات.

وتلتقي هذه التجارب الثلاث في أنها لم تكتفِ ببرامج قصيرة الأمد أو قروض طارئة، بل ربطت الإنتاج الزراعي بالأسواق المحلية والإقليمية، وقدمت دعماً مباشراً للنساء والمزارعين الصغار، واستثمرت في بنى تحتية مرنة ومؤسسات قادرة على إدارة الأخطار، ويشير ذلك إلى أن السودان يمكن أن يستفيد من هذه النماذج عبر إعادة هيكلة ديونه بشروط ميسرة، وتبني برامج متكاملة طويلة الأمد تشمل البنية التحتية والتنظيم التعاوني والتكنولوجيا الزراعية، وإنشاء آليات ضمان ائتماني وصناديق تعويض للأخطار المناخية، بما يسمح بتحويل الزراعة إلى محرك للتنمية المستدامة، والتخفيف من الفقر، وتعزيز الصمود في وجه الصدمات الاقتصادية والبيئية.

ومع أن الإعلان الرسمي ببداية إجراء هيكلة الديون يشير إلى الاتجاه نحو تحسين الإنتاج والاستقرار الزراعي، لكن التنفيذ الميداني يتأرجح تحت ضغط النزاع، والنزوح، وضعف التمويل المؤسسي، والبنية التحتية المنهارة، كما أن الفجوة بين التوجه المعلن والتنفيذ العملي تبين أن السياسات تحتاج إلى ضمانات استدامة أساسية تتمثل في الاستقرار الأمني، والإصلاح المصرفي، والدعم اللوجيستي، وإعادة تأسيس البنى التحتية الريفية، وضمان الوصول العادل للتمويل.

*المصدر: اندبندنت عربية | independentarabia.com
اخبار السودان على مدار الساعة

حقوق التأليف والنشر © 2025 موقع كل يوم

عنوان: Armenia, 8041, Yerevan
Nor Nork 3st Micro-District,

هاتف:

البريد الإلكتروني: admin@klyoum.com