اخبار السودان

أثير نيوز

سياسة

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي : خرطوم المساء والألوان

وجه الحقيقة | إبراهيم شقلاوي : خرطوم المساء والألوان

klyoum.com

تُشكّل عودة مؤسسات الدولة إلى قلب العاصمة الخرطوم بعد تحريرها من الميليشيا حدثًا سياسيًا ومجتمعيًا مفصليًا، يفتح بابًا واسعًا على جملة من الفرص والتحديات. في مشهد تتداخل فيه خطط الإعمار مع جراح الحرب، تتبدّى ملامح المرحلة القادمة كمعركة جديدة تُخاض لا بالسلاح، بل بالإرادة والتنظيم والاستعداد للبناء، واسترداد الحياة من بين الأنقاض.

الاجتماع الأخير للجنة العليا للطوارئ وإدارة الأزمات بولاية الخرطوم، والذي ترأسه والي الولاية، جسّد هذا التحدي . فمع محاولات إعادة تشغيل محطات الكهرباء بعد تدمير سبعٍ منها بشكل كامل، ونهب شبكات التوصيل، تبرز أزمة المياه كوجه آخر للأزمة. إلا أن التوجّه نحو تحويل المعالجات المؤقتة إلى آلية دائمة يشير إلى إدراك حقيقي بضرورة بناء بنية تحتية قادرة على الصمود في وجه أزمات مستقبلية محتملة.

تجربة إخلاء المدارس من النازحين أيضًا كشفت عن قدر من التنسيق اللافت بين الجهات التنفيذية، والذي أثمر في إعادة الطلاب إلى مقاعد الدراسة، المرافق التعليمية كرمزية مهمة لعودة الحياة المدنية.

ولم يغب عن الاجتماع البُعد الأمني والاجتماعي، حيث طُرحت قضايا مثل منع بيع الشاي وتعاطي الشيشة في الطرقات، كجزء من إعادة ضبط المشهد العام في العاصمة. التي كانت ترزح تحت فوضي الظواهر السالبة قبل الحرب ، لذلك من المهم فرض هيبة الدولة وإعادة تشكيل صورة المدينة بما يعكس مرحلة التعافي.

كذلك أوضح الناطق الرسمي لحكومة الولاية ، الطيب سعد الدين، أمس الأول أن القرار القاضي بإنهاء إجازة العاملين يمنح مهلة حتى منتصف يونيو لتوفيق الأوضاع، خصوصًا لمن غادروا البلاد. وشدّد على أن تقدير ظروف العاملين متروك لرؤساء الوحدات الحكومية.

في السياق، أعلنت شرطة ولاية الخرطوم استعادة أكثر من 90% من أقسامها وانتشارها في كافة المحليات، واضعةً خطة محكمة لتأمين العاصمة. وأكدت أن الوضع الأمني بات مستقرًا، مع تراجع معدلات الجريمة، واستعادة عدد كبير من المنهوبات، وإعادة تشغيل خدمات السجل المدني والمرور، وسط تنسيق مع النيابة. كذلك أكّد مدير الإدارة العامة لتأمين المرافق والمنشآت، اللواء شرطة قاسم أمين أحمد، تأمين 250 منشأة حكومية و147 مقرًا للسفارات والبعثات الدبلوماسية في الولاية .

زيارة السفير السعودي علي بن حسن جعفر ورفعه لعلم بلاده فوق مبنى السفارة إعلانًا عن عودة العمل الدبلوماسي، حملت إشارة سياسية بتضامن بلاده مع الشعب السوداني وحرصها على استعادة السودان لدوره الطبيعي، كما أكّدت أن الخرطوم لم تعد عاصمة منكوبة، بل ساحة مفتوحة للاستثمار في السلام والإعمار.

الإعلان عن تأهيل خمس مستشفيات، وتوزيع آلاف السلال الغذائية، وإجراء آلاف العمليات الجراحية، يعكس تحوّل الدعم السعودي من الطابع الإنساني إلى مستوى أكثر استراتيجية، يستهدف تعزيز إستقرار الدولة السودانية. حيث تبدو السعودية شريكًا في صياغة ملامح مرحلة ما بعد الحرب، ينتظرها السودانيون أن تكون الشريك الاستراتيجي الأول في مشروعات حصاد المياه، والأمن الغذائي، وأمن الطاقة، وإعادة بناء ما دمرته الحرب.

في جانب آخر، الخرطوم لا تعود إلا على أنقاض ذاكرة موجوعة. المشاهد التي وثّقها قلم أستاذنا الشريف حسين خوجلي، تحت وسم "الوقوف على الأطلال"، والتي نقلها له المهندس المُرسل إلى قناة أم درمان وصحيفة "ألوان" وإذاعة "المساء"، تحمل ما هو أبعد من وصف الدمار المادي. إنها شهادة على الاستهداف الرمزي للثقافة والإعلام في السودان، استهداف يعكس إدراك الميليشيا لأهمية هذه المؤسسات في تشكيل الوعي الوطني ، وتوثيق الحياة.

ما سُرق لم يكن فقط أجهزة وكاميرات وأرشيفًا، بل محطات راسخة في ذاكرة شعبٍ منتبه، يجيد التفكير وصناعة الأحلام. ووسط هذا الرماد، تتولّد إرادة من نوع جديد، لا يعرفها المخذّلون، إرادة أن تكون الخرطوم مجددًا مدينةً حيّة بالمؤسسات والذاكرة النضرة، لا بالمقابر الجماعية والتسكّع في الطرقات.

إن استعادة الخرطوم لا تعني فقط كسب معركة عسكرية، بل بدء امتحان سياسي وإنساني، عنوانه القدرة على بعث الدولة من جديد. في زمنٍ اختلط فيه الرجاء بالألم، تظل الخرطوم، رغم كل شيء، كحال المدن المتطلعة إلى المستقبل؛ فالمدن التي تحترق يمكن أن تنهض، متى ما تسلّحت بالإرادة، وتشبّثت بالحياة، وتجاوزت جراحها، مستحضرةً كل تاريخها وعظمة الإنسان.

وهكذا، فإن استرداد الخرطوم لا ينبغي أن يُختزل في بُعده العسكري فحسب، بل يُقرأ كإشارة فارقة في مسار استعادة الدولة السودانية لعافيتها، وبناء عقد وطني جديد، تتجدد فيه مؤسسات الحكم على أسس شرعية وأخلاقية. ولعل ما قاله الفيلسوف السياسي "جون لوك" يؤكد هذا المعنى، أن: "السلطة الحقة لا تُبنى على القوة، بل على رضا المحكومين وسعيهم المشترك نحو الخير العام."

إن النصر لا يكتمل إلا حين يُترجم إلى مشروع وطني جامع، تنتظم فيه الإرادات، وتتقدم فيه الدولة بمسؤولية نحو السلامٍ ، تنزع فتيل الحرب، وتزرع مكانه مواسم الاحتفاء و الرجاء.

دمتم بخير وعافية.

السبت 26 أبريل 2025م Shglawi55@gmail.com

*المصدر: أثير نيوز | atheernews.net
اخبار السودان على مدار الساعة