الثورة المالية الصامتة: الرنمينبي الرقمي وإعادة هندسة النظام الاقتصادي العالمي .. بقلم المهندس / خالد مصطفى الصديق الفزازي
klyoum.com
أخر اخبار السودان:
مفوضية حقوق الإنسان تتلقى أخطر ملف عن جرائم المليشيا-بقلم✍????: المهندس/ خالد مصطفى الصديق الفزازي
-خبير الإستراتيجية واقتصاد المعرفة
مقدمة
لم يكن الإعلان الصيني الأخير مجرد خبر مالي عابر، بل لحظة فارقة في تاريخ الاقتصاد الدولي .
فقد أعلن بنك الشعب الصيني بشكل مفاجئ أن نظام التسوية عبر الحدود بالرنمينبي الرقمي سيتم ربطه بالكامل مع الدول العشر الأعضاء في رابطة آسيان، إلى جانب ست دول من الشرق الأوسط .
بهذه الخطوة، يدخل العالم مرحلة جديدة من التحول المالي، إذ إن ما يقارب 38% من حجم التجارة العالمية سيُدار خارج نطاق نظام “سويفت” الذي ظل لعقود خاضعًا للهيمنة الأمريكية، ليفتح الباب رسميًا لما يمكن تسميته بـ "عصر الرنمينبي الرقمي" .
هذه الخطوة لا تمثل فقط تقدمًا تقنيًا في أنظمة الدفع، بل إعادة كتابة لرموز القوة في النظام الدولي .
فالتقنية الصينية الجديدة القائمة على البلوك تشين والذكاء الاصطناعي المالي، استطاعت أن تختصر عمليات التسوية الدولية من ثلاثة أيام إلى سبع ثوانٍ فقط، بنسبة خفض في الرسوم تصل إلى 98% . إنها قفزة في الزمن المالي تعيد ترتيب موازين النفوذ الاقتصادي العالمي من جذورها .
الرنمينبي الرقمي: التحول من العملة إلى النظام
منذ سنوات، تعمل الصين بهدوء على تطوير منظومة مالية سيادية تعرف باسم “e-CNY”، أو اليوان الرقمي، وهو ليس مجرد بديل إلكتروني للنقد، بل نظام دفع عالمي مؤتمت بالكامل يقوم على دفتر حسابات موزع (Distributed Ledger Technology)، يضمن الشفافية، ويمنع التلاعب أو غسيل الأموال من خلال كود برمجي مدمج في جوهر كل عملية .
في أول اختبار رسمي بين هونغ كونغ وأبوظبي، أُجريت عملية دفع كاملة لمورد في الشرق الأوسط خلال ثوانٍ معدودة، دون المرور عبر أي بنك وسيط، مما خفّض كلفة المعاملة بنسبة 98% .
وبذلك، تحوّل الرنمينبي من عملة آسيوية إلى عملة تسوية عالمية مستقلة عن الدولار واليورو، خاصة في قطاع الطاقة والمواد الخام، وهو القطاع الذي لطالما مثّل نقطة القوة الرئيسية لهيمنة الدولار .
تفكيك هيمنة الدولار: من "سويفت" إلى "الجسر الرقمي"
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ارتبطت الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي بقدرتها على التحكم في نظام المدفوعات الدولية عبر شبكة "سويفت" ومؤسسات بريتون وودز .
هذا النظام لم يكن ماليًا فحسب، بل أداة للهيمنة الجيوسياسية، إذ مكّن واشنطن من فرض العقوبات أو تجميد أرصدة الدول بمجرد قرار سياسي .
لكن اليوم، مع توسع الرنمينبي الرقمي ليشمل آسيا والشرق الأوسط وأجزاء من إفريقيا، تتآكل قدرة واشنطن على التحكم في مفاصل التجارة العالمية .
المدفوعات التي كانت تستغرق أيامًا تمر عبر ستة بنوك وسيطة، أصبحت تُنجز في لحظة عبر نظام صيني مغلق وآمن .
وبذلك، لم تعد الصين تنافس الغرب في التصنيع والتجارة فقط، بل في البنية التحتية النقدية للعالم بأسره .
وقد وصفت مجلة الإيكونوميست هذه الخطوة بأنها "معركة الحصن الأمامي لنظام بريتون وودز 2.0″، أي أن الصين بصدد بناء نظام مالي جديد موازٍ للنظام الأمريكي، يعتمد على التقنية السيادية بدلاً من السيطرة العسكرية أو الاقتصادية التقليدية .
الأثر العربي والخليجي: من البترودولار إلى البترورنمينبي
تاريخيًا، شكّل النفط والغاز أساس قوة الدولار عبر ما يُعرف بـ"البترودولار" .
لكن الآن، ومع دخول الرنمينبي الرقمي في صفقات الطاقة، بدأت ملامح "البترورنمينبي" تتشكل .
فقد أجرت تايلاند أول صفقة نفطية باستخدام اليوان الرقمي، بينما انضمت السعودية والإمارات إلى برامج اختبار الجسر الرقمي بإشراف بنك التسويات الدولية .
هذه التجارب خفّضت كلفة التسوية بنسبة 75% في بعض العقود التجارية، وأتاحت تسوية فورية للصفقات النفطية دون المرور بالدولار .
في عام 2024، بلغ حجم التجارة بين الصين والدول العربية أكثر من 430 مليار دولار، وهو رقم مرشح للارتفاع مع توسع مبادرة الحزام والطريق .
ومع إدخال الرنمينبي الرقمي في التعاملات التجارية، يمكن للدول العربية أن تحقق استقلالًا ماليًا تدريجيًا، وتخفف من مخاطر العقوبات أو التجميد الأمريكي لأي معاملات حساسة .
الأمر لم يعد مسألة اقتصادية بحتة، بل تحول في معادلة السيادة المالية والسياسية .
إفريقيا في خريطة الرنمينبي الرقمي
القارة الإفريقية، التي كانت لعقود ساحة نفوذ غربي، أصبحت اليوم الحديقة الخلفية للنظام المالي الصيني الجديد .
الصين، التي تستثمر سنويًا أكثر من 60 مليار دولار في مشاريع البنية التحتية الإفريقية، بدأت بدمج هذه المشاريع مع نظام الدفع الرقمي الجديد ضمن إطار “الحزام والطريق الرقمي” .
من موانئ جيبوتي إلى ممر لامو في كينيا، ومن سكك الحديد في نيجيريا إلى مشروعات الطاقة في مصر، تتوسع شبكة “المدفوعات الذكية” التي تسمح بتسوية المعاملات بالرنمينبي مباشرة .
بهذا، تتحول إفريقيا إلى منطقة تجريبية للنظام المالي الموازي الذي تبنيه بكين، بعيدًا عن الاعتماد على الدولار أو البنوك الغربية .
السودان: الحلقة الذهبية في طريق الحرير الرقمي
يبرز السودان في هذه اللحظة كأحد أهم المفاتيح الجغرافية والاقتصادية في معادلة الرنمينبي الرقمي ومبادرة الحزام والطريق .
فموقعه المطل على البحر الأحمر، واتصاله البري والبحري بإفريقيا وآسيا، يجعله نقطة عبور استراتيجية بين النظامين العربي والإفريقي في مسار التجارة الصينية الجديدة .
السودان يتمتع بموارد طبيعية ضخمة – من الذهب والمعادن النادرة إلى الزراعة والطاقة – تمثل قاعدة مثالية لتسعير الصادرات بالرنمينبي بدلًا عن الدولار .
كما أن انخراطه في مشاريع البنية التحتية الصينية (الموانئ، السكك الحديدية، المناطق الصناعية) يجعله مرشحًا طبيعيًا ليكون مركز تسوية إقليمي في النظام المالي الرقمي الصيني .
انضمام السودان لهذا النظام – ولو جزئيًا – قد يمنحه فرصة تاريخية للتحرر من الهيمنة المالية الغربية، وبناء سيادته النقدية المستقلة، وتحصين اقتصاده ضد تقلبات الدولار أو العقوبات البنكية الغربية .
إنها ليست مجرد فرصة اقتصادية، بل فرصة لبعث السيادة الوطنية من بوابة الاقتصاد الرقمي .
الخلاصة: من الدولار الورقي إلى الرنمينبي الرقمي
العالم يعيش اليوم تحولًا هادئًا لكنه عميقًا في بنية القوة المالية .
لم تعد السيطرة في من يطبع النقود، بل فيمن يمتلك التكنولوجيا التي تُحرّكها عبر الحدود .
والصين، عبر منظومة الرنمينبي الرقمي، تمكنت من بناء شبكة مدفوعات تغطي أكثر من 200 دولة، وتستقطب نحو 87% من الأنظمة المصرفية العالمية في مرحلة التكيّف أو التجريب .
بالنسبة للعالم العربي والسودان خاصة، فإن المشاركة في هذا التحول تمثل فرصة استراتيجية نادرة للتحرر من التبعية النقدية، وإعادة تموضع اقتصادي جديد في عالم متعدد الأقطاب.
إنها ثورة مالية صامتة، ولكن صداها سيعيد رسم خريطة السيادة والهيمنة لعقود قادمة .
بقلم✍????: المهندس/ خالد مصطفى الصديق الفزازي
خبير الإستراتيجية واقتصاد المعرفة