مخلفات الحرب في السودان تتسيد مسرح الصراع
klyoum.com
أخر اخبار السودان:
وزير خارجية تشاد: بلادنا استقبلت 1.6 مليون لاجئ سودانيخلقت معايير جديدة للسلطة تعكس تحالفات متغيرة ومراكز قوى موقتة غالباً ما تتناقض مع تطلعات السودانيين
لم تضع الحرب في السودان أوزارها، ومع ذلك بدأت ملامح مرحلة ما بعدها تتجسد في صورة مخلفات متراكمة، مادية وغير مادية، تشكل وجهاً خفياً للنزاع لا يقل فتكاً عن المعارك المباشرة. فالحرب لم تخلف فقط أنقاض المدن وركام المباني وأشلاء متناثرة، بل أبقت أيضاً ندوباً اجتماعية ونفسية تقوض إمكانات الاستقرار وتعطل عودة الحياة الطبيعية. ما يواجهه العائدون من النزوح واللجوء، أو حتى من لم يغادروا ديارهم، صراع جديد مع تركة مثقلة تفرض على المجتمع اختباراً عسيراً في صموده وقدرته على إعادة البناء.
تشير الدراسات الدولية، ومنها ما طرحه معهد "ماكس بلانك للقانون العام المقارن والقانون الدولي"، إلى أن مفهوم "مخلفات الحرب" يتجاوز الدلالة المادية للألغام والذخائر غير المنفجرة والأنقاض، ليشمل أيضاً الأبعاد غير الملموسة كالفوضى الأمنية وانهيار البنية المؤسسية، والأزمات الصحية والبيئية الممتدة. وهذه الصورة باتت ملموسة داخل السودان ضمن المواجهة اليومية للألغام المزروعة والذخائر المتناثرة في الطرقات، ومن مبان آيلة للسقوط وأنقاض لم ترفع بعد. وإلى جانب ذلك، يواجه المجتمع فراغاً أمنياً يتجسد في انفلات أمني فاقم منه فرار نزلاء السجون، بما يهدد حياة الناس ويقوض الثقة المجتمعية في الدولة.
العشوائيات التي تتمدد بلا تخطيط والجثث المتحللة التي لم تجد من يواريها إضافة إلى التلوث البيئي الناجم عن انهيار شبكات المياه والكهرباء، ليست مجرد مشاهد عابرة، بل علامات على حرب أخرى أكثر تعقيداً، يخوضها السودانيون من أجل الاستقرار في بلد يعاني اقتصاداً متعثراً وحكومة عاجزة وأراضي مثقلة بالأخطار. وبينما يحاولون إعادة بناء حياتهم في ظل موارد شحيحة تبرز الأسئلة الجوهرية، كيف يمكن إعادة تهيئة الأرض للزراعة، وكيف يعاد بناء الثقة في مؤسسات الدولة، وكيف يضمن الأمن في مجتمع ما زال يعيش في ظل تهديد دائم؟
حتى نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 سجل أكثر من 28700 قتيل، بينما أصبح السودان عنواناً لأكبر أزمة نزوح في العالم، إذ تجاوز عدد النازحين داخلياً 9 ملايين شخص، وارتفع العدد الإجمالي للنازحين واللاجئين إلى أكثر من 15 مليون العام الحالي.
بالموازاة، تظهر بيانات البنك الدولي أن الناتج المحلي الإجمالي في السودان انكمش بنسبة 12 في المئة عام 2023، وأربعة في المئة إضافية عام 2024، فيما بلغ متوسط التضخم 230 في المئة، وبينما تعمل الحكومة على توجيه ما تبقى من مواردها نحو الإنفاق العسكري، تتآكل الإيرادات العامة بسبب انهيار التحصيل وضعف مؤسسات الدولة.
وفي قلب هذه المأساة، يتجلى الوضع الصحي كأحد أكثر مظاهر الانهيار فداحة، فالأنقاض التي تملأ المدن والجثث المتحللة تفاقم الأوضاع الصحية، بينما أفرغت الحرب النظام الصحي من قدرته على أداء أبسط وظائفه. والمستشفيات، التي كانت أصلاً مثقلة بضعف التمويل قبل الحرب، أصبحت اليوم شبه مغلقة أو تعمل بأدنى طاقتها. فالقصف دمر عدداً منها، بينما حول بعضها الآخر إلى مواقع عسكرية أو ملاجئ للنازحين. الأدوية الأساس نادرة وسلاسل الإمداد شبه متوقفة، مما يجعل الحصول على علاج لأمراض مزمنة كالسكري أو الضغط تحدياً يومياً يهدد الحياة. وإزاء هجرة الكوادر الطبية أو نزوحها، لم يبق في الميدان إلا قلة من الأطباء والممرضين الذين يواصلون عملهم بدافع التكافل الاجتماعي وبوسائل بدائية.
أدى التصعيد المسلح إلى خروج ما يصل إلى 38 في المئة من المرافق الصحية عن الخدمة، بينما لم تواصل العمل سوى 14 في المئة من المستشفيات، وفق بيانات منظومة تتبع توافر الموارد الصحية (هيرامس) بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة السودانية. وأوضحت أيضاً أنه خلال النصف الأول من عام 2025، قتل ما يقارب 933 شخصاً أثناء سعيهم لتلقي العلاج أو زيارة مرضاهم، جراء أكثر من 38 حادثة استهدفت مستشفيات وعيادات وسيارات إسعاف.
وحسب بيانات منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف)، فقد انخفضت حملات التطعيم من نحو 90 في المئة قبل الحرب، إلى 51 في المئة فحسب. ووفقاً لتقديرات منظمة الصحة العالمية يعاني أكثر من 5 ملايين طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد.
برز ملف السكن العشوائي كأحد أبرز التحديات الحضرية والأمنية، في ظل الحرب التي تحولت فيها ضواحي الخرطوم والجزيرة إلى فضاءات مكتظة بالعائدين والنازحين، إذ التداخل بين الحاجات الإنسانية الملحة ومخاوف السلطات من تمدد الفوضى.
في مطلع يوليو (تموز) الماضي، أعلن جهاز حماية الأراضي بولاية الخرطوم اكتمال إزالة "التعديات العشوائية" بمحلية أم درمان، وشملت العملية إزالة 806 منازل. وأشار مدير الجهاز عبدالعزيز عبدالله إلى أن "الإزالة جاءت استجابة لتوجيهات الولاية لمواجهة المهددات الأمنية والظواهر السالبة المرتبطة بالعشوائيات". وبحسب بيانات الجهاز، فإن الخرطوم أنجزت حتى الـ25 من يونيو (حزيران) الماضي ما يقارب 60 في المئة من خطة إزالة السكن العشوائي.
أما ولاية الجزيرة، فقد شهدت حملات مشابهة لإزالة السكن العشوائي والحيازات غير القانونية، غير أن هذه التدخلات لم تمر من دون معارضة، إذ حذر "تحالف مزارعي الجزيرة" في بيان من أن إزالة هذه المساكن تؤثر سلباً في العملية الإنتاجية، لأن المجموعات التي استقرت في المنطقة تشكل جزءاً أساساً من دورة العمل الزراعي.
هذا التباين في المواقف يكشف جوهر الإشكالية، بين مقاربة ترى في إزالة العشوائيات ضرورة أمنية وتنظيمية، وأخرى تعدها تهديداً مباشراً للتماسك الاجتماعي والإنتاج الاقتصادي. فالخرطوم التي تتسع عشوائياتها بوتيرة متسارعة، والجزيرة التي تمثل قلب الزراعة السودانية، ليستا مجرد مسارح لسياسات محلية بل مختبران لمعادلة الموازنة بين فرض النظام وحماية السكن الشعبي كأداة للبقاء في مرحلة ما بعد الحرب.
وعدت "مركزية مؤتمر الكنابي" قرار حكومة ولاية الجزيرة تطوراً خطراً، معتبرة أنه يستهدف المواطنين على أساس اللون والعرق، ومؤكدة رفضها أية محاولات لإقصاء المجتمعات الريفية والهامشية التي ارتبطت بمشروع الجزيرة لعقود طويلة. والكنابي أو "الكمبو" تجمعات سكانية ارتبطت تاريخياً بالعمال الزراعيين داخل الجزيرة والنيل الأبيض وسواهما، نشأت في أطراف الحواشات وعلى حواف الترع منذ مطلع القرن الـ20، وظلت تسكن هوامش المشهد الاقتصادي والاجتماعي من دون اعتراف قانوني يوازي إسهامها في الإنتاج الزراعي. ومع اندلاع الحرب الأخيرة، تعرض نحو 50 "كمبو" للحرق والانتهاكات والتهجير القسري.
تتفاقم أزمة الأمن الداخلي مع تزايد أعداد السجناء الهاربين، فمع بداية الحرب استهدفت قوات أمنية سجوناً عدة في الخرطوم بما في ذلك سجن "كوبر" المركزي، مما أدى إلى تحرير آلاف السجناء بينهم أفراد من النظام السابق، مما زاد من تعقيد الوضع الأمني.
وخلال يناير (كانون الثاني) الماضي، أطلقت القوات المسلحة سراح مجموعة من السجناء الذين كانوا محتجزين لدى قوات "الدعم السريع" في ولاية الجزيرة، مما أثار تساؤلات حول التنسيق بين طرفي النزاع وتأثير ذلك في الأمن.
وأفادت مصادر إعلامية بأن مدير السجون اللواء شرطة الطيب أحمد عمر أعلن أن "الدعوة مفتوحة أمام السجناء السياسيين للعودة إلى سجن كوبر"، مؤكداً أن السجن العمومي عاد للعمل بكامل طاقته بعد اكتمال عمليات الصيانة. وأوضح الطيب أن الإدارة وجهت نداءها من قبل، غير أنه حتى الآن "لم يبلغ أي سجين عن تسليم نفسه أو يسجل أي تجاوب"، مضيفاً "نواصل توجيه الدعوة، ونتمنى أن يعودوا في أقرب وقت ممكن".
يذكر أن ضمن الفارين سجناء سياسيون كانوا وقعوا خلال وقت سابق تعهدات تقضي بعودتهم إلى محبسهم متى استقرت الأوضاع الأمنية، بعدما أتيح لهم الخروج أثناء الحرب إثر الانفلات الأمني الواسع.
غير أن هذه الدعوة قوبلت بردود فعل اتسمت بالسخرية والتندر على منصات التواصل الاجتماعي، فقد عد الأمر أقرب إلى "دعوة لحضور مناسبة اجتماعية لا للعودة إلى السجن"، فيما تساءل آخرون بتهكم عن "نوعية الامتيازات التي قد تقدمها الإدارة لإغراء النزلاء بالرجوع طواعية". وذهب فريق من المراقبين إلى القول إن التصريحات تعكس مفارقة عجيبة في إدارة الأوضاع، إذ يصبح الهرب من السجن مشهداً طبيعياً بينما تتحول العودة إليه إلى خيار طوعي.
إضافة إلى ذلك تتفاقم الأخطار الأمنية مع انتشار السلاح في أيدي المدنيين، سواء الذين دُربوا من المتطوعين إلى جانب الجيش، أم الذين ينشطون في تجارة وتهريب السلاح، مما يزيد من احتمالية وقوع جرائم مثل السرقات والاعتداءات، وهو ما يستلزم الحاجة إلى خطة أمنية شاملة تتضمن تعزيز القدرات الشرطية وتفعيل دور الاستخبارات، وتكثيف التعاون مع المجتمع المدني.
أفرزت الحرب ديناميكيات سياسية مركبة، وأظهرت كيف يمكن للصراع أن يخلق معايير جديدة للسلطة تعكس تحالفات متغيرة ومراكز قوى موقتة غالباً ما تتناقض مع تطلعات السودانيين.
قبل اندلاع الحرب وجد السودان نفسه في فخ الصور النمطية، فقد صور المجتمع المدني خلال الفترة الانتقالية على أنه الحامي الأمثل للقيم الليبرالية والديمقراطية، إلا أن الواقع الميداني كشف عن هشاشة هذه الصورة، إذ أظهرت التعبئة الجماعية حتى وإن لم تتخذ شكل حرب مباشرة مستوى من العنف الرمزي والسياسي لا يقل عنفاً عن الاشتباكات المسلحة، خصوصاً في ما يتعلق بالخطاب السياسي والإقصاء الاجتماعي.
تتجلى المخلفات السياسية في ثلاثة أبعاد أولها إعادة تموضع القوى التقليدية والحديثة، إذ برزت مراكز قوى جديدة داخل الجيش والأحزاب والمجتمع المدني، أحياناً على حساب مؤسسات الدولة الرسمية، مما خلق فجوات في الشرعية والقدرة على الحكم. وثانيها استدامة الانقسامات الاجتماعية والسياسية، إذ أسهمت الحرب في ترسيخ خطوط الانقسام على أساس إثني وقبلي وإقليمي، مما جعل أية عملية إصلاح سياسي أو توافق وطني أكثر صعوبة. أما البعد الثالث فهو تعطيل المؤسسات الحكومية والسياسات العامة، إذ حول الموارد والطاقات إلى إدارة الصراع واحتواء مراكز القوى، بدلاً من توجيهها نحو التنمية والخدمات الأساس، مما أفرغ الدولة من فاعليتها في القطاعات الحيوية.
تتجاوز المخلفات السياسية للحرب حدود السياسة الصرفة لتطاول الاقتصاد والمجتمع المدني بصورة مباشرة. فغياب التوافق بين القوى السياسية ومراكز النفوذ أدى إلى شلل المؤسسات، وهو ما انعكس على تقديم الخدمات الأساس واستدامة برامج التنمية وإدارة الموارد. في الخرطوم والجزيرة والمناطق المتضررة من النزاع يجد السكان أنفسهم أمام أزمة مزدوجة، هشاشة الدولة في إدارة شؤونهم اليومية، والتوتر الاجتماعي الناتج من انقسامات الحرب التي لم تعالج بعد.
ولا تقف المخلفات السياسية للحرب عند حدود السلطة والحكم، بل تمتد لتشكل أزمات متداخلة اجتماعياً واقتصادياً وأمنياً، مما يتطلب معالجتها بصورة متكاملة، من خلال استراتيجيات تشمل إصلاح المؤسسات وإعادة الدمج السياسي وبرامج استقرار اقتصادي، وتنمية مستدامة تراعي الواقع المتأزم.