الصومال.. غاشيات وانتخابات وتحديات

لعل إعادة توحيد الصومال بشكل سلمي واحدة أهم من التحديات التي تنتظر الرئيس المنتخب حسن شيخ محمود.

الصومال، هذه الدولة العربية التي تحتل موقعاً بالغ الأهمية على الساحل الشرقي لأفريقيا، على مساحة تربو على 637 ألف كيلومتر مربع، يشاطئ خليج عدن والمحيط الهندي بامتداد يبلغ طوله نحو 3,700 كلم، وتجاوره من الشمالي جيبوتي، ومن الغرب إثيوبيا، وتجاوره من الجنوب والجنوب الغربي دولة كينيا، ويقع قرب اليمن، ويفصل بينهما خليج عدن. لقد أكسب هذا الموقع الصومال مكانة خاصة عبر التاريخ في حركة التفاعل الحضاري والتجاري والسياسي بينه وبين آسيا وأفريقيا.

يبلغ عدد سكان الصومال نحو 15 مليون نسمة، تعود أصولهم إلى مجموعة إثنية واحدة، هي المجموعة الصومالية ذات الجذور الكوشية -كما هو حال القرشيين في جزيرة العرب- التي تتحدث اللغة الصومالية، وهي واحدة من اللغات الكوشية، كما يتحدث عدد كبير منهم اللغة العربية.

يدين جميع السكّان بالإسلام، ويتبع غالبهم المذهب الشافعي مع وجود للمذاهب الأخرى، مثل المالكي والحنبلي والحنفي والجعفري. وقد عززت الأصول المشتركة بين الصوماليين أواصر الوحدة والتجانس بينهم، وهو ما أنتج قيماً وثقافةً وتقاليد مشتركة بينهم، وقلل بشكل كبير وجود مسببات التنازع الجوهري بينهم كشعب.

يتوفر الصومال على موارد وإمكانيات اقتصادية كبيرة، ويختزن احتياطياً كبيراً من النفط والغاز. وإضافة إلى ذلك، هو غني جداً بالحديد والقصدير والنحاس، ويمتلك مقومات اقتصادية زراعية كبيرة يمثلها الإنتاج النباتي والسمكي والحيواني الذي يعد بحجم 40 مليون رأس من المواشي.

تعرض الصومال في العصر الحديث كغيره من الدول للحملات الكولونيالية. وقد جثم على صدره الاحتلالان البريطاني والإيطالي حيناً من الدهر؛ خرج الأول في السادس والعشرين من شهر حزيران/يونيو 1960. وبعد 5 أيام من خروج البريطانيين، خرج الاحتلال الإيطالي.

تولى بعد حقبة الاحتلال هذه اثنان من القادة الصوماليين مقاليد الحكم حتى الحادي والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر 1969 الذي تولى فيه السلطة محمد سياد بري عبر انقلاب عسكري، واستمر حكمه حتى 26 كانون الأول/يناير 1991، حين انتهت فترة حكمه بانهيار الدولة. ومنذ ذلك التاريخ، يسعى الصومال نحو إعادة بناء الدولة وترسيخ مشروعها.

بذل نظام حكم الحزب الاشتراكي الثوري بقيادة الجنرال محمد سياد بري جهوداً كبيرة من أجل إعادة هندسة الصومال حضارياً عبر محاولات لتغيير هويته. وقد بلغ به الحال إلى إلغاء الحرف العربي الذي تكتب به اللغة الصومالية، واستبدال الحرف اللاتيني به، كما فعل مصطفى أتاتورك في تركيا. وسياسياً، حاول مستميتاً فرض الأحادية الفكرية والسياسية.

وقد أدت سياسات نظام حكمه إلى حالة من الاحتقان الوطني التي كانت سبباً للحرب الأهلية التي اشتعلت في العام 1988، والتي أدت إلى سقوط نظام سياد بري وانهيار الدولة، ومن ثم فتح الأبواب أمام التدخلات الأجنبية التي صاحبتها دخول قوات أجنبية لا يزال بعضها موجوداً حتى الساعة.

لقد كانت الحرب الأهلية في الصومال واحدة من أعظم غاشيات الدهر التي غشيت الصومال بما كسبت أيدي الحكام والساسة. وقد ولدت هذه الغاشية غاشيات عديدة، منها حالة التصحر التي تجددت في الصومال واستمرت فيه لعقود بسبب آثار الحرب وتداعياتها على الطبيعة بشكل عام، وعلى الغابات التي ظلت نيران الحرب تلتهمها بشكل خاص، كلما أوقد فريق سياسي للحرب ناراً وفتنة.

وقد نتج عن ذلك تراجع كبير في مساحات الغابات في الصومال التي أسهمت في تغيير المناخ وفي تكرار موجات التصحر التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الصوماليين وتشريد الملايين ونفوق مئات الآلاف من المواشي، وما زالت حالات الجفاف تضرب عصب الحياة في الصومال.

ومن غواش الحرب الأهلية التي ما زالت تنال من استقرار الصومال وتخصم من حاضر شعبه ومستقبله، عانت الصومال من نشوء التيارات السلفية التي ما زالت تسيطر على مساحات واسعة من أرض الصومال، وكذلك تهالك مؤسسات الدولة وعجزها عن مواجهة التحديات الكبيرة التي تواجه البلاد في ظروف اقتصادية وأمنية بالغة القسوة، تيرافق ذلك مع تدخلات خارجية تسهم في استمرارية الأزمة وما يترتب عليها من صعاب ومهددات.

ورغم كل هذه الظروف، فإن المجتمع الصومالي يعمل من أجل وضع حد لأزماته المتفاقمة، من خلال أدوات وآليات متعددة، من بينها الدولة كآلية ورافعة ضرورية لنقل الصومال من حال إلى آخر يلبي الطموح الشعبي ويخاطب اشتغالاته المشروعة وتطلعه إلى الأمن والاستقرار والحياة التي تحقق كرامة مواطنيه.

وفي هذا الإطار، حدثت انتقالات مهمة من حالة اللادولة التي ظل يعيشها الصومال بعد حكم سياد بري إلى حالة الدولة التي يسعى كثيرون إلى إعادة بنائها وتعزيز دورها. وقد تحققت في هذا المسير المضني الطويل نجاحات بلغت حد اعتراف الأطراف بأهمية الدولة ودورها، واعترافها كذلك بالتداول السلمي للسلطة كسياسة لا غنى عنها لعملية الاستقرار والنهوض والتقدم، ومن خلال الانتخابات كوسيلة لجعل هذه السياسة حقيقة ملموسة، وهذا تطور كبير في وعي كثير من الأطراف الصومالية الفاعلة في المسرح الوطني.

وفي مسير العملية الديمقراطية ومسارها الانتخابي، جرت في منتصف هذا الشهر انتخابات رئاسية في الصومال، تنافس فيها 39 مرشحاً، تمكن البرلمان الصومالي من انتخاب أحدهم رئيساً للبلاد لعهد انتخابي دستوري جديد، وذلك بعد أن أجرى البرلمان 3 جولات انتخابية تمكن فيها الرئيس الأسبق حسن شيخ محمود من الفوز حاصداً 214 صوتاً مقابل 110 أصوات لمنافسه محمد عبد الله فرماجو؛ الرئيس الذي أنهت هذه الانتخابات أجل ولايته.

تشير السيرة الذاتية للرئيس المنتخب حسن شيخ محمود الذي ينتمي إلى قبيلة هوية، إلى أنه أكاديمي وسياسي من مواليد مدينة جللقسي وسط الصومال في العام 1955، ورئيس حزب 'السلام والتنمية' الذي أسسه في العام 2011.

تخرج من الجامعة الوطنية في الصومال في العام 1981، وحصل على درجة الماجستير من الهند في واحد من تخصصات الهندسة في العام 1988، وهو يتحدث الصومالية والعربية والإنكليزية. سبق له العمل في منظمة الأمم المتحدة للطفولة 'اليونيسف' مسؤولاً تربوياً في جنوب الصومال ووسطه، وهو صاحب مبادرات مجتمعية متعددة. وفي العام 1999، شارك في تأسيس 'المعهد الصومالي للإدارة والتنمية الإدارية' في العاصمة مقديشو، وتبوأ موقع الرئاسة من العام 2012 وحتى العام 2016.

ولدى وصوله إلى السلطة في المرة الأولى، اشتهر بسياسة توافقية، واستطاع تحقيق توافق بين أطياف المجتمع الصومالي، وتمكن من تأسيس النظام الفيدرالي عبر تقسيم البلد إلى ولايات فيدرالية، ونجح في إقامة علاقات تعاون مع رؤساء الولايات الفيدرالية، وقاد عمليات تحرير عدة مناطق في البلاد من قبضة حركة الشباب السلفية المسلحة أسفرت عن تحرير 36 مدينة، وأسهمت في إرساء علاقات حسن الجوار مع كل من جيبوتي وإثيوبيا وكينيا، وحقق مقداراً من الانفتاح على المستويين الإقليمي والدولي.

في أول تصريح له بعد انتخابه، أدلى شيخ محمود بتصريح إعلامي حدد أولوياته في إحداث التوافق الوطني والاستقرار السياسي والأمني، وبناء الثقة بين المواطن والسلطة، وإطلاق حرية العمل والتعبير للمعارضة، لكونها تشكل مرآة للحاكم، وليست وسيلة لإطاحته، على حد قوله.

تواجه الرئيس الجديد تحديات كبيرة، منها ما أشير إليه في تصريحه آنف الورود، ومنها ما هو قائم ومتجدد. ولعل قضية إعادة توحيد الصومال بشكل سلمي وطوعي هي واحدة من تلك التحديات العظام، فقد انفصلت أرض الصومال 'صومالي لاند' عن الوطن الأم في العام 1991 مع بدايات الحرب الأهلية، وأسست دولة ونظاماً، وحققت استقراراً سياسياً وأمنياً، غير أنها لم تحظَ بالاعتراف الدولي بانفصالها حتى اليوم.

وقد بذل الرئيس شيخ محمود جهوداً إبان فترة حكمه الأولى هدفت إلى إعادة توحيد الدولة، ويلزمه الآن استئنافها والعمل على جعل الوحدة الاختيارية حقيقة معيشة. ومع ذلك، على الرئيس في عهده الجديد أن يعمل على تطوير الحكم الفيدرالي بالقدر الذي يعيد السلطة والثروة إلى المجتمع، ليسهم في إنجاح فكرة المجتمع القائد للدولة، لا التابع لها، وحتى يحقق الصومال عبر ذلك القدر المطلوب من الاستقرار والطمأنينة، وليكون النظام الفيدرالي المطور آلية لتوحيد الدولة وإعادة ما انفصل منها من خلال منظومة مفاهيم جديدة تترافق مع إعادة تقاسم السلطات بين مستويات الحكم المتعددة، لتنحصر مهام السلطة المركزية واختصاصاتها في أعمال السيادة والتنسيق الأفقي والرأسي، الداخلي والخارجي، ولتتشارك مهمة واختصاص التخطيط الاستراتيجي والمستقبلي مع مستويات الحكم الأخرى، فتبسط السلطة في المجتمع، وتحرر السلطة المركزية من الصراع، وتمكن مستويات الحكم المختلفة من الاضطلاع بمهام التنمية والنهوض، مع تقوية مؤسسات الدولة وتطوير قدراتها على مستويات الحكم كافة.

كذلك، من التحديات الكبار التي تواجه الرئيس الجديد وحقبته الثانية، تحدي تحقيق السيادة الوطنية التي ظلت منتهكة منذ عقود طويلة، وتعززت جداً بعد الحرب الأهلية التي مثلت أزمة استغلتها القوى الإقليمية والدولية التي باتت حاضرة بتدخلاتها السياسية والعسكرية في المسرح الصومالي. ومع ذلك، ينهض تحدي تطوير علاقات الصومال الخارجية انطلاقاً من مبادئ الندية وحسن الجوار والحرص على إقامة الشراكات التي تحقق المصالح العليا لشعب الصومال ودولته.

ويظلّ تحدي بسط الأمن وتحقيق الاستقرار واستعادة الأرض التي استلبتها المجموعات السلفية تحدياً يستحق أن يحظى بأولوية متقدمة في أولويات السلطة الجديدة والمجتمع بقبائله وأحزابه ومنظماته المدنية الأخرى. وبغيرها، لا تنهض دول، ولا تحقق أمنها واستقرارها وتقدمها.

ولئن كانت الشراكة الوطنية بهذا القدر من الأهمية، فيلزم توظيفها من خلال مشروع حوار وطني متعدد الأبعاد يعمل على استرداد الشباب الذين أصابتهم سهام السلفية وحملتهم على تبني أطروحاتها، الأمر الذي يستدعي توظيف الحكمة والموعظة الحسنة في التعامل مع هذا التحدي، فاستخدام العنف قد لا يكون الوسيلة السليمة.

يبقى التحدي الاقتصادي أحد أكثر التحديات إلحاحاً، فالشعب الصومالي الذي تعصف به الظروف الاقتصادية والطبيعية والسياسية بتداعياتها الأمنية يستحقّ أن يجد الدولة إلى جانبه، وأن تعينه بساساتها وبرامجها ومشروعاتها، ليتمكّن من تخطي تحديات المعاش والحياة الكريمة.

إنَّ الظروف الدولية تتيح فرصة مهمة يحسن الاستفادة منها، فعهد الأحادية القطبية بلغ ما بلغ في منحنى الأفول، والقوى الكولونيالية التي ظلت تقتات من مُقدرات الدول الأفريقية ومكتنزاتها وثرواتها، وتستلب قرارها الوطني، وتملي عليها المواقف، في أضعف حالاتها، وثمة دول عظمى وكبرى تطرح رؤاها وبرامجها ومبادراتها غير المشروطة بشروط السياسية، وعلى الصومال في هذه المرحلة أن يعي حجم المتغيرات في المسرح الكوني، وأن يعمل على توظيف كلّ ذلك لمصلحة التنمية المستقلة التي تعد الوجه الآخر للاستقلال الوطني وواحدة من مطالبه.

على الحكومة الجديدة أن تبتعد من الأيديولوجيا التي استنفدت صلاحياتها، وأن توظف القيم والعلم والإبداع والشراكة الوطنية لتبدع الرؤى وتجترح الحلول التي تشعل شموع الأمل في أرجاء الوطن وفي نفوس المواطنين.