اخبار السعودية
موقع كل يوم -جريدة الرياض
نشر بتاريخ: ٣١ تشرين الأول ٢٠٢٥
سامي بن أحمد الجاسم
في زمنٍ لم يعد الصمت فيه خيارًا متاحًا، يعيش الكاتب معركته الأصعب؛ معركة الهدوء في عالمٍ يصرخ.
لقد تغيّرت خريطة الكتابة كما تغيّر كل شيءٍ حولنا، فلم تعد الكلمات تُكتَب في خلوةٍ عميقةٍ بين الكاتب ونفسه، بل في ساحةٍ مفتوحةٍ تعجّ بالأصوات والآراء والتعليقات والجدالات التي لا تنتهي.
صار الكاتب مهدّدًا بالذوبان وسط هذا الضجيج، كشمعةٍ صغيرةٍ في قاعةٍ تعجّ بالأضواء الصناعية.
الكتابة في جوهرها كانت دائمًا فعل تأملٍ وبحثٍ عن المعنى، رحلةً داخل الذات قبل أن تكون عرضًا أمام الآخرين، لكن هذا الجوهر يتآكل في زمنٍ يقيس القيمة بعدد النقرات لا بنقاء الفكرة.
صار الكاتب محاصرًا بين رغبته في أن يكون صادقًا مع نفسه، وبين ضغط العالم الذي يريد منه أن يكون سريعًا، جذّابًا، متفاعلًا، مُثيرًا، لم تعد الكتابة تعني الاكتشاف، بل أصبحت نوعًا من البقاء، ومحاولةً يائسةً للظهور وسط زحامٍ لا يرحم أحدًا.
في هذا العالم الرقمي، تتكاثر الأصوات كما تتكاثر النسخ، كل أحدٍ يكتب، وكل أحدٍ يعلّق، وكل أحدٍ ينشر رأيه بصوتٍ مرتفع، حتى غابت الفكرة خلف كثرة المتحدثين، ولم يعد الفارق واضحًا بين الكاتب الحقيقي ومجرد ناقلٍ للجُمل اللامعة أو الأفكار السطحية.
لقد صار «الضجيج» أكبر من الكلمة، وصار «الحضور» أهم من المعنى، الكاتب الحقيقي لا يحتمل هذا الضجيج، لأنه بطبيعته كائنٌ يبحث عن الهدوء، يفتّش عن الصمت كما يفتّش الغريق عن الهواء، هو لا يكتب ليملأ الفضاء بالكلمات، بل ليملأ فراغه الداخلي بالمعنى، لكن حين يحيط به هذا السيل المتواصل من المنشورات والتغريدات والتعليقات، يجد نفسه غريبًا في عالمٍ كان يظن أنه عالمه، يغترب وهو في قلب الكتابة، لأن كلمته لم تعد تُصغي لها الأرواح كما كانت، بل تُقاس بعيونٍ مستعجلة تمرّ فوقها مرورًا عابرًا.
كان الكاتب يومًا ينتظر قارئًا يتأمل، لا جمهورًا يتفاعل، أما الآن، فالكتابة أصبحت سباقًا مع الوقت، ومطاردةً للتفاعل قبل أن يغيب الضوء. إنها كتابة بلا سكون، بلا انتظار، بلا «مسافة شعور» بين الكلمة ومعناها، كل شيءٍ يحدث بسرعةٍ حتى المشاعر، حتى الألم، حتى الفكرة التي لم تنضج بعد تُنشَر لتنال نصيبها من الإعجابات قبل أن تكتمل.
في هذا الزمن، خسر الكاتب شيئًا جوهريًا: العزلة الخلّاقة، تلك اللحظة التي كان يسمع فيها صوته الداخلي بوضوحٍ، ويتحاور مع ذاته قبل أن يُخاطب الآخرين، أما اليوم، فكل شيءٍ يحدّثه من الخارج: الشاشة، الإشعارات، الضوضاء، والجمهور الذي ينتظر دائمًا جديدًا دون أن يمنح نفسه فرصة فهم القديم.
لقد صار الكاتب المعاصر غريبًا في وطنه الأدبي، يعيش داخل عالمٍ يتسابق فيه الناس على الظهور، وهو يبحث عن لحظة صدقٍ واحدة فقط، وكلما حاول أن يكتب من قلبه، وجد نفسه يُدفن تحت سيلٍ من الصخب، وربما يكون هذا الاغتراب هو ما يُنقِذ الكاتب في النهاية، فحين ينعزل داخليًا، يكتشف أن العزلة ليست انسحابًا، بل ملاذًا.
إن الصمت ليس هروبًا، بل اختيارًا للعمق، إن الكتابة لا تحتاج جمهورًا كبيرًا، بل قارئًا صادقًا واحدًا يلتقط نبضها الحقيقي، فالكلمة الخالدة لا تولد في الزحام، بل في لحظة صفاءٍ بين الكاتب وذاته، في حوارٍ لا يسمعه أحد، لكنه يبقى حيًا في النصّ إلى الأبد.
سيبقى الكاتب، رغم الضجيج، يحرس صمته الداخلي، سيكتب لا ليُسمَع، بل ليبقى، وسيظل يبحث عن مساحته الصغيرة بين الأصوات، لأنه يعرف أن الصمت هو وطن الكلمة، وأن الكتابة، مهما تغيّر زمنها، ستظل ابنة العزلة الجميلة التي لا تموت، فالكتابة لمجرّد الكتابة ليست الهدف ولا الغاية، بل في شعور الكاتب وإحساسه أن ما يكتبه يجد القبول والرضا والتفاعل الحقيقي.
الكتابة ليست بضاعة كاسدة، ولا محاولة تسويقٍ فاشلة، بل عمقٌ إنسانيّ نبيل، له قيمة عالية وثمنٌ مرتفع، والنتيجة المبهجة حقًا هي مقدار ما يجده الكاتب من انسجامٍ ورضا وقبول.










































