اخبار السعودية
موقع كل يوم -صحيفة الوئام الالكترونية
نشر بتاريخ: ٢٠ تموز ٢٠٢٥
بندر بن عبدالله بن محمد
حين يُذكر مصطلح “الأميين” في الخطاب القرآني، يتبادر إلى أذهان كثيرين أنه وصفٌ لمن لا يقرأ ولا يكتب، غير أن التأمل في الجذر اللغوي، والبنية السياقية، والنصوص القرآنية ذات الصلة، يفتح أفقًا جديدًا لفهم هذا المصطلح، بعيدًا عن الحصر التقني في مهارات القراءة والكتابة.
لفظة “أمي” ترجع في جذورها إلى “أمّ” لا إلى “أمى” أو “أمية” بمعناها الاصطلاحي الحديث. فالأميّ هو من بقي على الأصل، على ما ولدته أمّه عليه، أي على الفطرة الأولى، دون أن يختلط بفكر من سبق من الأمم التي أوتيت كتبًا وحرّفتها. ولهذا، فإن قوله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ﴾ يُفهم على أن “الأميين” هم أمة لم يسبق أن أنزل عليها كتاب سماوي، وليست بالضرورة أمة لا تعرف القراءة والكتابة.
وقد جاء في قوله تعالى: ﴿وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡأُمِّيِّنَ أَأَسۡلَمۡتُمۡ﴾ تمييز واضح بين فئتين: “الذين أوتوا الكتاب” وهم اليهود والنصارى، و”الأميين” وهم من لم يُؤتوا كتابًا من قبل، أي العرب وغيرهم من الأمم التي لم تنزل عليهم شريعة سماوية. وهذا ما تؤكده الآية الأخرى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾، فقد اعتبر بعض أهل الكتاب أن “الأميين” قومٌ خارجون عن الرسالة الكتابية، لا تجب مراعاة حقوقهم، وهذا يعكس نظرتهم العنصرية لا افتقار الأميين للقراءة.
ووصف النبي محمد ﷺ بأنه “أمي” لا يعني الجهل أو نقص المعرفة، بل يعني أنه من أمة لم تتلقّ كتابًا من قبل، ولم يتلقّ علمه من كتب أهل الكتاب، بل أوتي علمًا لدنيًّا خالصًا، كما قال تعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ﴾، و﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ﴾. وهذا ما تؤكده الآية: ﴿وما كُنتَ تَتلو مِن قَبلِهِ مِن كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾، فالمقصود أنك يا محمد، لم تتبع الكتب السابقة المحرفة، ولم تنقل منها شيئًا، ولم تكن تلميذًا على مذهبهم أو سطرًا في مدوناتهم، بل أنت حامل لرسالة مستقلة، مصدرها الوحي، لا المشافهة ولا النقل البشري.
وبهذا لا تكون “تتلو” و”تخط” إشارة إلى المهارات التقنية، بل إلى التبعية العقائدية والانخراط في الفكر الديني الموروث لدى أهل الكتاب. فلو كان النبي ﷺ على خطاهم، لقالوا إنه ينقل عنهم، لكنه جاء بتوحيدٍ خالصٍ يفصل بينه وبينهم، كما في قوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ… لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾.
ولو كان النبي ﷺ لا يعرف القراءة ولا الكتابة بالمعنى الحرفي، لكان ذلك مدعاة للذمّ في عرف قريش، خاصة حين ادّعى النبوة، ولطعنوا عليه صراحة بذلك، لكنهم لم يقولوا عنه “أمّي” بمعنى جاهل، بل قالوا عنه: شاعر، كاهن، مسحور، ما يدل على أنهم كانوا يرونه عاقلًا، مثقفًا، صاحب أثر ولسان، لا جاهلًا معزولًا عن الفكر والمعرفة. كما أن تولي خديجة رضي الله عنها له أمر تجارتها، يدل على الثقة بقدراته، لا على محدوديته العلمية أو العملية.
ومن جهة أخرى، فإن بعض آيات القرآن الكريم تفتح تساؤلات قوية حول الفرضية القائلة بأن النبي ﷺ لا يكتب ولا يقرأ، إذ يقول تعالى: ﴿وَقالوا أَساطيرُ الأَوَّلينَ اكتَتَبَها فَهِيَ تُملى عَلَيهِ بُكرَةً وَأَصيلًا﴾، أي أنهم اتهموه بكتابة ما ينقله، أو بطلب كتابته، فهم لم ينكروا قدرته على الكتابة بل اتهموه بأنه يتكلف التأليف، فلو كان لا يكتب أصلًا لما كان لهذا الاتهام معنى. بل كان الأجدر أن يقولوا: هو لا يكتب ولا يقرأ فممَّ أتى بهذا؟ لكنهم قالوا إنه كتبها، ويدل هذا على أنهم ما كانوا يعدونه عاجزًا عن الكتابة، بل قادرًا، وهذا ما يتناسق مع صمته عن نفي ذلك.
ثم كيف يُتلى الوحي على لسانه بدقة متناهية، وكيف يسبق بلسانه كلمات لم تكتمل بعد، إلا إن كان النص حاضرًا أمامه أو مكتوبًا في صدره، وهو ما تشير إليه الآية: ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾، حيث يعاتبه الله على استعجاله في التلقي، وهو استعجال من يعرف أن ما يأتيه لا بد أن يُضبط ويُدَوّن، وأنه مسؤول عن إيصال ألفاظه بدقة.
ولم يكن جمع القرآن لاحقًا عملًا عشوائيًا أو ارتجاليًا، بل جاء على نسق دقيق، مرسوم بإشراف النبي ﷺ نفسه، فقد سُمِّيت السور بأسمائها في عهده، وتم ترتيب الآيات بتوقيف، وكان الصحابة يكتبون عنه بإشراف مباشر، ويُراجع معهم ما يُكتب. بل إن الرسم القرآني نفسه، كما أُثبت في المصاحف لاحقًا، يحمل بصمةً نبويةً، وخصائص تُخالف الرسم الإملائي المألوف، وتُعبّر عن وحيٍ في الصورة كما في الصوت.
إن الاعتقاد أن النبي ﷺ كان لا يقرأ ولا يكتب بالمعنى الحرفي يصطدم بهذه الشواهد، لا من جهة العجز، بل من جهة انضباط الرسالة وتنظيمها. فإن من جاء بكتاب كالقرآن، وأشرف على ترتيبه وتلاوته وحفظه وتوزيعه، لا يمكن أن يُنسب إلى أميةٍ تقنوية، بل إلى أميّةٍ وحيانية، لا علاقة لها بمهارات الكتابة، بل بانقطاعه عمّا سواه، وتلقيه عن ربّه.
ومن الأخطاء الشائعة التي كرّست الفهم الخاطئ لكلمة “أمي” في الثقافة المعاصرة، هي ترجمة مصطلح “محو الأمية” على أنه تعليم القراءة والكتابة فقط، وهذه الترجمة لا تنطلق من الجذر العربي أو الاستخدام القرآني، بل من ترجمات مستوردة اصطلاحًا من اللغات الأوروبية. ويشبه هذا ما حدث مع مصطلح “العملة الصعبة”، المترجَمة عن Hard Currency، فالمقصود بالوصف “صعبة” ليس أنها عسيرة الصرف أو التعامل، بل أنها ثابتة وصلبة اقتصاديًا، أي لا تنهار بسهولة، وهي لذلك مرغوبة في التعاملات الدولية. لكن الترجمة العربية ربطت “الصعوبة” بمعنى “العُسر” و”الاختبار”، كما نقول “امتحان صعب”، فشوّهت المعنى الأصلي.
وكذلك فإن ترجمة “محو الأمية” رسّخت في الذهن أن “الأمية” تعني نقصًا معرفيًا أو جهلًا بالمهارات، بينما في السياق القرآني تعني الانتماء لأمة لم تتلقَّ كتابًا سماويًا، ولا تحمل إثم تحريف الرسالات السابقة. ومثل هذه الترجمات – إن لم تُراجع – تُعيد تشكيل المفاهيم في وعي الناس، وتفصلهم عن المعنى الأصلي للنصوص الدينية واللغوية. ولذلك، فإن إعادة الاعتبار للمعاني القرآنية الأصلية ضرورةٌ لفهمٍ صحيح، بعيدٍ عن إسقاطات الترجمة الغربية على المفاهيم العربية.
فالأميّ في القرآن ليس الجاهل، بل هو البريء من الانتماء للكتب المحرّفة، وهو المرسل إليه الحق الخالص، والرسول “الأمي” هو النبي المتلقِّي للوحي من السماء، لا من فكر السابقين.