اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ١١ تشرين الثاني ٢٠٢٥
طوال ثلاثة عقود أمضاها خلف قضبان سجون الاحتلال، كان خلالها الحلم بالحرية لا يغيب عن عينيه، يستيقظ معه كل صباح، يرافقه في كل ليالي الأسر والعزل، حاول انتزاع حريته بنفسه أكثر من مرة، لكن الاحتلال صنفه من 'الأسرى الخطيرين'، فاستثناه من جميع صفقات التبادل السابقة.
تحول مع مرور السنين لعميد أسرى حركة حماس وأقدم أسير للحركة في سجون الاحتلال، بعد أن حكم عليه بالسجن ثلاث مؤبدات و46 عامًا، أمضى منها 32 سنة داخل السجون قضى منها 14 سنة في العزل الانفرادي حرم خلالها من الزيارة العائلية باستثناء زيارات محددة لأمه المريضة.
محمود عيسى، القائد القسامي الذي حاول تحرير الشيخ أحمد ياسين ومؤسس أول خلية عسكرية في القدس التي أطلق عليها اسم الوحدة الخاصة (101)، وكانت مهمتها خطف جنود إسرائيليين بغرض مبادلتهم بأسرى فلسطينيين لدى الاحتلال.
دخل سجون الاحتلال شابا في الخامسة والعشرين من عمره، وحمل معه حلم الحرية والوطن، وبعد أكثر من ثلاثين عاما، تحرر في صفقة التبادل ضمن اتفاق وقف إطلاق النار بغزة، في أكتوبر/ تشرين أول 2025، على يد أحفاد الياسين، الذين كسروا أبواب السجن والأحكام المؤبدة.
خرج نحيل الجسد شاحب الوجه، لكنه ثابت النظرة والإيمان، من شدة ما تعرض له من تعذيب، في مشهد جسد مقولته: 'تحررينا على يد من جاء خلفنا، يؤكد صوابية المنهج وسلامة المبدأ ووفاء المجاهدين الحاملين لهذه العقيدة'.
في يومه الأخير في الأسر، وأثناء توجهه للحافلات التي نقلت المحررين المبعدين إلى مصر، خرج المحرر والمبعد محمود عيسى، على عين السجانين والصحافيين الإسرائيليين، التي كانت تتقد بجمرات الغضب، 'كان الحوار من طرف واحد، هم يسألون وكنت صامتًا لا جيب!، فلم يعد لديهم ما يمكنهم معاقبتنا به بعد اليوم، حتى وطأت قدماي أرض مصر، أيقنت أنها الحرية، وأنه اليوم الذي انتظرته، وكنت أصحو وأحلم به لأكثر من 32 سنة' يقول عيسى في حواره مع صحيفة 'فلسطين' عن حياة الأسر، وتجربة الاعتقال، ولقائه بالشهيد يحيى السنوار.
بالرغم من إبعاده لمصر إلا أن شوقه لمدينة القدس كبير، يتمنى أن يعود إليها يوما، ليقبل ترابها 'ويشتم أريجها ويعانق محاربها، ويرقب طلوع الشمس فيها ومغيبها'.
رحلة اعتقال شاقة
عن أوضاع الأسرى وآخر عام قضاه بالسجن، يقول: 'في العام الأخير، انقلبت أوضاع الأسرى رأسا على عقب، سلب الاحتلال من الأسرى في يوم واحد كل الحقوق التي حصلوها عبر سنين طويلة من الكفاح، وأصبحت السجون مراكز ذل وقهر وتجويع وتنكيل وتحرش واغتصاب جنسي، فلا عجب أن ترى من يخرج هزيل الجسد شاحب الوجه'.
بالنسبة للمحرر المبعد عيسى، فإن رحلة السجن 'كانت شاقة وطويلة، وبها محطات كثيرة تنقل خلالها بين أقسام وسجون العزل ومراكز التحقيق، حاول الهروب أكثر من مرة، واستدعي للتحقيق العسكري وتعرض للتعذيب الوحشي أكثر من مرة، وهي محطات دونها في مذكرات ومؤلفات أدبية انتجها في السجون'.
يعود عيسى ثلاثة عقود إلى الوراء، لذلك اليوم الذي غير حياته، في 3 يونيو/ حزيران 1993، فيما كان يجلس في منزله الواقع في بلدة 'عناتا' قضاء القدس، لم يكن مطاردًا ولا مطلوبًا للاحتلال، فكان الاعتقال مفاجئًا له، يستذكر: 'داهمت قوات كبيرة من جيش الاحتلال منزلي، وقاموا بتقييدي بقضبان الحديد وليس بالأصفاد، بعد تحطيم البيت وتفتيشه، نقلت لمعتقل المسكوبية بالقدس وهناك قاموا بقطع الحديد واستبداله بالقيود، ثم نقلت للتحقيق العسكري والتعذيب في سجن طولكرم. أمضيت نحو 18 يومًا بالتعذيب ومن ثم نقلت للتحقيق في معتقل 'بتاح تكفا'.
وآنذاك، قاد عيسى عملية خطف الجندي الإسرائيلي نسيم طوليدانو عام 1992، بهدف الضغط لإطلاق سراح مؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين، غير أن الاحتلال رفض، مما أدى لمقتل الجندي، واعتقل عيسى ورفاقه بعد ستة أشهر من البحث والتحريات والمطاردات، واعتقل أيضا رفاقه ماجد قطيش، وموسى العكاري، ومحمود عطون، واجتمع البرلمان الإسرائيلي الكنيست حينها و'أعلن عن اعتقال أخطر خلية شرق القدس'.
ما يخص الوحدة الخاصة بكتائب القسام والتي أسهها، يقول: 'كان اجتهادا لزمان بذلنا فيه وسعنا، وقدمنا نموذجنا تقييمنا له أنه كان ناجحا، وهو وليد زمانه، فلم يكن السلاح متوفرا، والظروف التي قاومنا فيها تختلف كثيرا عن الواقع اليوم، حتى جاء من بعدنا اليوم وقدموا أكثر واتيحت لهم ظروف مناسبة بجمع السلاح وتطويره وتقديم نماذج قل نظيرها، توجت بطوفان الأقصى، وهي نماذج عز في التاريخ مثلها، وهؤلاء الأسود هم من سلالة أسود سبقتهم، أكملوا الطريق وأحسنوا وأبدعوا وأضافوا لمساتهم على فعل المقاومة'.
حاول عيسى انتزاع حريته بعد حفر نفق طوله عشرة أمتار أسفل سجن عسقلان، ويقول: 'عملية الهروب التي قمنا بها في سجن عسقلان عام 1997، خططنا لها وبدأنا التنفيذ بدقة لكن أحد الأخوة اجتهد مخالفا التعليمات التي أعطيت له وسكب كمية من الرمل في المرحاض. اكتشف الرمل بعد انسداد المصرف وأدى ذلك إلى اكتشاف النفق. حزنتن ويوما فطنت نفسي لإمضاء حياتي كلها في السجن'.
استغرق حفر النفق شهرين، كانت المدة الأكبر من الحفر بحفر الباطون وخلع البلاط، حتى وصلوا للرمل، استخدموا أدوات عديدة متقدمة منها منشار لقص الحديد، منها 'أسرار ستكشف في حينه'.
14 سنة بالعزل
عن 14 سنة في العزل الانفرادي، عاش خلالها أصعب سنوات الأسر، وصفها بأنها 'بلاء فوق بلاء، ومحنة داخل محنة، وعذاب عظيم ومهين'، وأضاف وهو يطرق أبواب الذاكرة: 'من يمضي سنوات في العزل الانفرادي، تمر عليه الأيام الطوال وهو بالكاد يسمع كلمة طيبة. أكثر ما كان يؤذينا في العزل الانفرادي، أنهم يضعون حولنا أسرى من حثالة المجتمع، من المرضى النفسيين، والسجناء اليهود الجنائيين ومن العرب أيضا، الذين يصلون الليل بالنهار وهم يطلقون الصراخ والشتائم وطرق الأبواب، وعليك أن تعزل نفسك عن هذا المحيط الملاصق لك، وتقضي يومك في ذكر الله والعبادة وأن تحافظ على عقلك وجسدك وإيمانك. كانت محنة عظيمة واختبارًا صعبًا'.
وتابع: 'أول كتاب كتبته، كان المقاومة بين النظرية والتطبيق، وما أن بدأت الانتفاضة الثانية 'انتفاضة الأقصى' جرى توزيعه على المقاومين خاصة بالضفة الغربية، ترجمت هذه الكلمات إلى مساهمة منا في داخل السجن في جهاد عدد من المقامين وفي أفعالهم المشرفة، وتلاه كتب متنوعة أخرى كتبتها في العزل والسجن، منها ما هو في السياسة ومنها ما هو في فهم القرآن الكريم وفقه الجهاد، وبقي كتاب أنجزته، قبل بدء معركة 'طوفان الأقصى' ولم يطبع بعد، اسميته 'الصاد الذهب'.
مع طول سنوات العزل فرغ عيسى نفسه لتأليف الكتب والرواية عازلا نفسه عن ذلك المحيط، منها المقاومة بين النظرية والتطبيق صدر عام 2000، ورواية 'حكاية صابر' التي اعتبرت بمثابة سيرته الذاتية وصدرت عام 2012، و'عِبر لمن يعتبر' وهي أقاصيص من التاريخ، صدر عام 2012، 'وفاء وغدر'، مجموعة قصصية صدرت عام 2013، و'تأملات قرآنية' صدر عام 2014، ونظرية المؤامرة في القرآن الكريم صدر عام 2015، والسياسة بين الواقعية والشرعية دراسة نقدية لكتاب الأمير مكيافيلي، صدر عام 2016، ورسالة الوسطية في الجهاد والفكر والتربية صدر عام 2018.
مثل إخراج الكتب من السجن والعزل الانفرادي، مهمة شاقة، ومعقدة وصعبة، لكن 'بفضل المولى تخطينا كل التحديات، ونجحنا في إخراج الكتب إلى النور من خلف القضبان والأسوار والأسلاك'.
لقاءات مع 'السنوار'
خلال سنوات الأسر التقى عيسى برئيس المكتب السياسي لحماس الشهيد يحيى السنوار عدة مرات، عن أول لقاء يروي: 'كان ذلك عام 1994 بسجن نفحة، اللقاء كان حميميا، وهو شخصية يتحرى عن أي شخص يقابله، فتحرى عني من خلال رفيقي بالوحدة ماجد أبو قطيش ومحمود عطون اللذان سبقاني للسجن، كانت فترة لقائي الأولى به قصيرة نحو أربعة أشهر، عشناها في قسم 'أ' بالسجن، لكنها كانت كافية لأن يعرف كل منا الآخر، وتنشأ بيننا علاقة أخوة متينة وصدقة'.
وأضاف: 'أحببت بيحيى السنوار تواضعه وطيبته وتفانيه في خدمة الأسرى، فكان المعلم والمدرس لهم، هو من يطهو الطعام ويشارك في تنظيف الغرفة وترتيبها، وكان من أبرز خطباء الجمعة في ذلك القسم وتميز بحرصه على بناء علاقات ودية مع عديد الأسرى من مختلف التنظيمات'.
افترقا عيسى والسنوار بعد أربعة أشهر، والتقيا مرات عدة، أبرزها عام 98 في سجن خاص بمدينة بئر السبع، جرى فيه تجميع مجموعة من الأسرى الذين أعيد التحقيق معهم في مراكز التوقيف بسجون الاحتلال، اتهم السنوار بالعمل العسكري داخل السجن، واتهم عيسى بتشكيل مجموعة عسكرية بمنطقة القدس، متهمة بقتل أحد المستوطنين.
يحكي عيسى: 'بعد انتهاء التحقيق معنا، جرى تجميعنا بغرفة واحدة، كان الغرض التنصت علينا وسماع ما يكن أن يقوله بعضنا للآخر، خاصة أنهم لم ينجحوا بانتزاع اعترافات منا، مكثنا أربعة أشهر أخرى منقطعين عن الأسرى، وبعد يأسهم من الحصول منا على شيء، أعادوا توزيعنا على قسم العزل'.
بعد نقل المحرر عيسى لسجن عسقلان في العزل الانفرادي، التقيا مرة ثانية، بعد إضراب الأسرى عام 2000، وجاء كل منهما لفك الإضراب وللمفاوضة عن الأسرى.
وأضاف: 'التقينا مرة أخرى في سجن عسقلان عام 2002، وكنت أمير حماس بالسجن، سكنا بذات الغرفة، ثم أعيد نقلي للتحقيق العسكري، والعزل عشر سنوات، خلالها التقيت به مرة واحدة بسجن هداريم لمدة يوم ثم أعدت للتحقيق، لكن طيلة الفترة كنا نتراسل بوسائل مختلفة'.

























































