اخبار فلسطين
موقع كل يوم -فلسطين أون لاين
نشر بتاريخ: ٢٥ تشرين الأول ٢٠٢٥
أكثر من ثلاثة عقود مرت منذ تأسست السلطة الفلسطينية، كانت كافية لاستخلاص الدروس الكبرى من مسارها وتطورها، وهي فترة تتيح لنا تقييم ما اذا كانت لا تزال جسرا نحو الدولة، ام ان الحلم بات بعيدا المنال، فمنذ ولادتها كانت مشروعا انتقاليا يفترض ان يقود الى انهاء الاحتلال واقامة دولة فلسطينية، لكن ما حدث كان العكس تماما؛ اذ تم تجميد مراحل الانتقال، وتحولت السلطة الى بنية ادارية وامنية تعمل تحت سقف محدود مسبقا.
في بداياتها، بدت للفلسطينيين كما لو انها الطريق نحو الدولة المنشودة؛ تدير شؤون المدن، تفتتح المؤسسات، تسارعت فيها البيروقراطية، وازداد عدد موظفيها، تستقبل الدعم الدولي وتفتتح السفارات، فبدت كأنها نواة دولة حقيقية قيد التشكل، غير ان البنية التي اقيمت عليها كانت هشة؛ من عجزها عن جمع شتات الفلسطينيين، وغياب اقتصاد وطني مستقل، بل ومرتبط ماليا واداريا باقتصاد الاحتلال، وحكومات متعاقبة تنفست بالدعم الخارجي المشروط، وحتى أمنيا، جرى ربطها بآليات تنسيق قيدت حركتها بارادة القوة القائمة بالاحتلال، وبمرور الوقت تحولت العلاقة من ندية الى تبعية، حتى غدا البقاء رهنا بما يمكن ان تقدمه من تنازلات تحت عنوان الالتزامات السياسية والضمانات الامنية.
لاحقا، رسخ الاحتلال اسس استراتيجية ممنهجة، قامت اساسا على اضعاف السلطة داخليا وخارجيا، فبين حصار مالي متكرر، واقتحامات ممنهجة، وتشويه لصورتها، واستيطان يلتهم الارض التي ستقيم عليها الدولة، وضغوط دولية متواصلة، واشتراطات مالية، واصلاحات شكلية كانت تخدم اجندة 'الاستقرار الامني' لا التنمية الوطنية، وكان الهدف محاصرة دورها السياسي، وحصر وظيفتها في ادارة السكان دون امتلاك أي قرار سيادي او افق وطني، وتحت هذا السقف، وضمن هذه القيود مجتمعة، لم يسع الاحتلال الى اسقاطها، بل تطويعها، لجعلها بنية خاضعة للابتزاز المالي والسياسي، وسعى لتحويلها من كيان وطني مؤقت، الى كيان وظيفي دائم، يحتوي الفلسطينيين ولا يمكنهم.
غير ان هذا المشهد لم يكن محض نتيجة ضغوط خارجية، بل انعكاسا لازمة داخلية موازية، اذ تآكلت الثقة الشعبية وتراجعت القدرة المؤسسية على انتاج مشروع وطني جامع، ما جعل السلطة اكثر هشاشة امام الضغوط الخارجية، واقل قدرة على المبادرة الوطنية.
بالمقابل، بدت السلطة غير قادرة على ترميم شرعيتها الشعبية المتهالكة، سواء بفعل الزمن او انسداد الافق، وكان الانقسام الفلسطيني هو القشة التي قسمت ظهرها، فلم يعد جغرافيا او فصائليا فحسب، بل طال الوعي والتمثيل والشرعية، ما جعل من الصعب اقناع الجيل الجديد بان منظمة التحرير الفلسطينية هي صوتهم، او ممثلهم الشرعي والوحيد، وهم يشاهدون ابوابها موصدة بوجه فصائل وازنة، تمتلك حضورا وتأثيرا لا يمكن تجاوزه، محليا او دوليا.
غير أن السابع من أكتوبر مثل في آن واحد فرصة وتهديدا؛ لحظة كاشفة تبدلت فيها المعادلات الدولية الإقليمية بين عشية وضحاها، غير ان السلطة وجدت نفسها تختار البقاء في مقاعد المتفرجين، تمارس سياسة النأي بالنفس، ظنا منها ان الحياد يحميها من العزلة، لكنها اكتشفت - متأخرة - ان ذلك عمقها، خاصة مع توجهات الاحتلال التي بدت اكثر وضوحا، من خلال سعيه لترتيب مستقبل غزة – والضفة ايضا - بمعزل عنها، سواء بالضم، او باشراك اطراف اقليمية ودولية بديلة، او في محاولته فرض وصاية تتجاوز القرار الوطني.
استمرار هذا النهج كان يعني تحولا خطيرا في هوية السلطة، وبدل ان تكون عنوانا للنضال الوطني، تحولت الى اطار اداري منزوع الارادة، وبدل ان تمثل الفلسطينيين، اصبحت جهازا تنفيذيا يعمل داخل حدود محددة خارجيا، ما جعل الازمة تتجاوز بعدها السياسي، لتغدو ازمة وجودية، تمس جوهر التمثيل الوطني ذاته.
لذلك، فان المطلوب اليوم لا يقتصر على اعادة هيكلتها فحسب، بل واعادة تعريفها، واصلاحها، بدءا بتوسيع دائرة القرار، وتفعيل المشاركة والمساءلة، ومحاربة الفساد، حربا وقائية لا علاجية، وشاملة لا انتقائية، وقبل ذلك التوصل الى تفاهمات وطنية تنهي الانقسام الى غير رجعة، لا عبر اذابة الفصائل في بوتقة واحدة، بل عبر رؤية وطنية جامعة، تسمح بالتنافس داخل البيت الفلسطيني، لا على انقاضه.
لقد اظهر العدوان على غزة - والضفة ايضا - قدرة الفلسطينيين على الصمود برغم انقسامهم، ولك ان تتخيل كيف كان سيكون الحال لو كانوا موحدين، وهذا ما يجعل من المصالحة اكثر من كونها ترفا سياسيا، بل شرط بقاء، وضرورة وجودية، لا خيارا مؤجلا.
واذا ما ارادت السلطة ان تنجو من كل هذه المخططات، وان تستعيد دورها، فعليها ان تتحول من سلطة تسعى للبقاء الى سلطة فاعلة تمتلك رؤية وطنية متوافقا عليها، قادرة على قراءة التحولات جيدا واستشراف المستقبل بوعي، فالبقاء - اي بقاء - لا قيمة له ان لم يكن جسرا نحو التحرر.