تغير المناخ واطضرابات الاقتصاد.. تهديدات مقلقة تضع الأمن الغذائي في كف عفريت
klyoum.com
أصبح الأمن الغذائي أحد أهم التحديات التي تواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين، فعلى الرغم من التقدم الكبير في التكنولوجيا الزراعية والتنمية الاقتصادية العالمية، لا يزال عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع وسوء التغذية في ارتفاع مقلق، إذ تُظهر التقارير الحديثة الصادرة عن منظمات دولية رائدة مثل منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (الفاو) والبنك الدولي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) وضعا مقلقا لعالم يتفاقم فيه انعدام الأمن الغذائي بدلا من تحسنه.
يبلغ حجم المشكلة مستوى هائلا؛ فوفقا لتقرير منظمة الأغذية والزراعة "الفاو" لعام 2024 عن "حالة الأمن الغذائي والتغذية في العالم"، عانى حوالي 828 مليون شخص من الجوع المزمن في عام 2023. وهذا يمثل زيادة بنحو 150 مليون شخص منذ بداية جائحة كوفيد-19، مما يعكس سنوات من التقدم التدريجي في الحد من الجوع العالمي، والأكثر إثارة للقلق هو أن انعدام الأمن الغذائي لا يزال مستمرا بل ويتسارع في العديد من المناطق، وخاصة في أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا.
ما يجعل هذا الوضع مقلقا بشكل خاص هو أنه يحدث على خلفية إنتاج غذائي عالمي يكفي نظريا لإطعام سكان العالم بأكمله. وتُظهر مفارقة الجوع وسط الوفرة التفاعل المعقد للعوامل التي تساهم في انعدام الأمن الغذائي، بما في ذلك أنظمة التوزيع غير المتكافئة، والتفاوتات الاقتصادية، والاختلالات النظامية في سلاسل إمدادات الغذاء.
عواقب الفشل في معالجة هذه الأزمة وخيمة؛ فسوء التغذية المزمن في مرحلة الطفولة يؤدي إلى مشاكل جسمانية وضعف الإدراك الذي يمكن أن يستمر مدى الحياة، مما ينتج عنه استمرار دورات الفقر وعدم المساواة، ويعيق أهداف التنمية وازدهار الشعوب، كما يُفاقم انعدام الأمن الغذائي الاضطرابات الاجتماعية والهجرة الجماعية، حيث يبحث السكان المتضررون عن فرص أفضل في أماكن أخرى. علاوة على ذلك، فإن التدهور البيئي الناجم عن الممارسات الزراعية الحالية يقوض النظم البيئية التي يعتمد عليها لإنتاج الغذاء في المستقبل.
الوضع الراهن
تكشف أحدث البيانات عن الجوع العالمي عن اتجاه مقلق يتزايد فيه انعدام الأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم، وفقا لتقرير منظمة الفاو لعام 2024، زاد عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية بشكل كبير منذ عام 2019، مما يمحي ما يقرب من عقد من التقدم في مكافحة الجوع. ويظهر هذا التراجع بشكل واضح في بعض المناطق، حيث تعاني أفريقيا جنوب الصحراء من أعلى مستويات انعدام الأمن الغذائي، حيث قدر أن 23% من السكان يعانون من نقص التغذية في عام 2023.
يوفر مؤشر الجوع العالمي (GHI) لعام 2024 رؤى إضافية حول خطورة الوضع. يُظهر المؤشر، الذي يقيس الجوع ويتعقبه على المستويات العالمية والإقليمية والوطنية، أن 44 دولة تعاني حاليا من مستويات خطيرة أو مقلقة من الجوع. تحتل جمهورية إفريقيا الوسطى واليمن ومدغشقر المرتبة الأخيرة في المؤشر، مع تصنيف مستويات الجوع على أنها "مقلقة للغاية". وما يجعل هذه الإحصائيات مثيرة للقلق بشكل خاص هو أن العديد من هذه الدول كانت تحرز تقدما مطردا في الحد من الجوع قبل أن تعكس الأزمات المتعددة لجائحة كوفيد-19 والكوارث المرتبطة بالمناخ والصراعات الإقليمية هذه المكاسب.
وصل انعدام الأمن الغذائي الحاد، الذي يتم قياسه بمقياس التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، إلى مستويات قياسية في السنوات الأخيرة. ويكشف تقرير الأزمات الغذائية العالمية لعام 2024، الذي أعده الشبكة العالمية لمكافحة الأزمات الغذائية، أن أكثر من 250 مليون شخص في 58 دولة واجهوا انعداما حادا في الأمن الغذائي عند مستويات الأزمة أو ما هو أسوأ (المرحلة 3 من IPC أو أعلى) في عام 2023. وهذا يمثل زيادة بنسبة 40% منذ عام 2020 وهو أعلى رقم منذ بداية التقرير.
تغير المناخ
أصبحت وتيرة تغير المناخ المتسارعة واحدة من أخطر التهديدات للأمن الغذائي العالمي في القرن الحادي والعشرين. يقدم تقرير التقييم السادس للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) لعام 2023 أدلة على أن ارتفاع درجات الحرارة بالعالم وتغير أنماط هطول الأمطار المتغيرة (changes in precipitation patterns) وتزايد وتيرة الظواهر الجوية الشديدة (extreme weather events) تعطل بالفعل النظم الزراعية في جميع أنحاء العالم. كما من المتوقع أن تتفاقم هذه التأثيرات المرتبطة بالمناخ في العقود القادمة، مع عواقب كارثية محتملة على إنتاج الأغذية وأنظمة التوزيع.
إحدى أبرز مظاهر تأثير تغير المناخ على الزراعة هي تزايد وتيرة وشدة الجفاف. فقد شهدت منطقة القرن الأفريقي أسوأ موجة جفاف منذ 40 عاما، حيث أدت خمس مواسم متتالية من هطول أمطار أقل من المتوسط، من عام 2020 إلى عام 2023 إلى تدمير المحاصيل والماشية. في الصومال، ودفع هذا الجفاف الطويل أجزاء من البلاد إلى شفا المجاعة، حيث انخفض إنتاج المحاصيل بنسبة 80% في بعض المناطق.
في مناطق أخرى، يتسبب تغير المناخ أيضا في هطول أمطار أكثر غزارة وغير متوقعة، مما يؤدي إلى فيضانات مدمرة تدمر المحاصيل والأراضي الزراعية، فقد تسببت فيضانات عام 2022 في باكستان، التي غمرت أجزاء واسعة من البلاد تحت الماء، في أضرار تقدر بـ 30 مليار دولار للبنية التحتية الزراعية والمحاصيل. وقد وقعت أحداث فيضانية مماثلة مع تزايد وتيرتها في جنوب آسيا وغرب إفريقيا وأجزاء من أمريكا الجنوبية، مما أدى في كثير من الأحيان إلى محو محاصيل بأكملها وترك المجتمعات الزراعية بدون غذاء أو دخل لفترات طويلة.
أصبح المشهد الاقتصادي العالمي متقلبا بشكل متزايد في السنوات الأخيرة، مما خلق ضغوطا إضافية على الأمن الغذائي في جميع أنحاء العالم، ويكشف تحديث البنك الدولي لعام 2024 حول الأمن الغذائي أن تضخم أسعار الغذاء لا يزال مرتفعا بشكل واضح في معظم المناطق، حيث بلغ متوسط الأسعار العالمية للغذاء في عام 2023 أعلى بنسبة 23% من مستويات عام 2020، وقد جعلت هذه التضخمات المستمرة المواد الغذائية الأساسية غير ميسورة التكلفة لملايين الأسر ذات الدخل المنخفض، وخاصة في البلدان النامية حيث تمثل نفقات الغذاء نسبة كبيرة من ميزانيات الأسر المعيشية.
تستمر الحرب في أوكرانيا، التي بدأت في فبراير 2022، في إحداث تأثيرات عميقة على الأسواق الغذائية العالمية. فأوكرانيا وروسيا يمثلان معا ما يقرب من 30% من صادرات القمح العالمية وأجزاء كبيرة من صادرات الشعير وزيت عباد الشمس والأسمدة. وقد أدى التعطيل لهذه الإمدادات إلى ارتفاع أسعار القمح العالمية بنسبة 60% في الأشهر التي أعقبت الغزو، وعلى الرغم من أن الأسعار قد انخفضت إلى حد ما، إلا أنها لا تزال أعلى بكثير من مستويات ما قبل الحرب اعتبارا من عام 2024.
استنزاف الموارد
لا تزال الصراعات المسلحة واحدة من المحركات الرئيسية لانعدام الأمن الغذائي الحاد في جميع أنحاء العالم. فقد كشف تقرير الأزمات الغذائية العالمية لعام 2024 أن الصراع كان السبب الرئيسي للجوع في 65% من البلدان التي تواجه انعداما حادا في الأمن الغذائي، مما أثر على ما يقرب من 160 مليون شخص. فالحروب الحديثة تستهدف بشكل متزايد البنية التحتية المدنية، بما في ذلك نظم الغذاء، كاستراتيجية للحرب، ما يخلف عواقب مدمرة على السكان المحليين والأسواق الغذائية العالمية على حد سواء.
توفر الحرب في أوكرانيا مثالا صارخا على كيف يمكن للصراع في منطقة زراعية رئيسية واحدة أن يعطل الإمدادات الغذائية العالمية. قبل الغزو، كانت أوكرانيا تعرف باسم "سلة خبز أوروبا"، حيث تصدر ما يكفي من الغذاء لإطعام 400 مليون شخص سنويا. وقد أدت المعارك إلى إتلاف البنية التحتية الزراعية وتلغيم الحقول وإغلاق الموانئ، مما أدى إلى انخفاض صادرات الحبوب الأوكرانية بنحو 30% في عام 2023 مقارنة بمستويات ما قبل الحرب.
يتم تقويض قدرة العالم على إنتاج الغذاء بشكل منهجي من خلال تدهور الموارد الطبيعية الأساسية للزراعة. ويحذر تقرير التوقعات العالمية للأراضي الصادر عن اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر لعام 2023 من أن ما يصل إلى 40% من أسطح الكوكب متدهورة بالفعل، مع زيادة هذا الرقم بمقدار 12 مليون هكتار إضافي كل عام. ويأخذ هذا التدهور أشكالا عديدة، بما في ذلك تآكل التربة واستنفاد المغذيات والتملح والتصحر، وكلها تقلل من إنتاجية الأرض لإنتاج الغذاء.
يمثل تآكل التربة أحد أكثر التهديدات الخبيثة للأمن الغذائي على المدى الطويل، إذ تقدر منظمة الفاو أن العالم يفقد التربة أسرع بـ 10 إلى 100 مرة من تكونها، مع تدهور حوالي 33% من ترب الأرض بالفعل. ففي غرب وسط الولايات المتحدة، سلة خبز أمريكا مثلا، يبلغ متوسط فقدان التربة السطحية 5 أطنان لكل فدان سنويا، وهو ما يتجاوز بكثير معدل التجدد الطبيعي. فيما تعاني مناطق زراعية رئيسية أخرى من مشاكل مماثلة، من حقول القمح في أوكرانيا إلى حقول الأرز في جنوب شرق آسيا.
الابتكار والاستجابة
في حين أن التحديات التي تواجه الأمن الغذائي العالمي هائلة، فإن الابتكارات التكنولوجية تقدم حلولا واعدة للعديد من هذه المشاكل. إذ تشير التقارير إلى أنه يمكن للتقدم في التكنولوجيا الحيوية الزراعية والزراعة الدقيقة والبروتينات البديلة والزراعة الرقمية أن يزيد بشكل كبير من إنتاج الغذاء مع تقليل الآثار البيئية. ومع ذلك، فإن تحقيق هذه الإمكانات يتطلب التغلب على حواجز كبيرة تتعلق بالتكلفة وإمكانية الوصول والقبول الاجتماعي.
تواصل التحسينات الجينية للمحاصيل دفع حدود الإنتاجية الزراعية. حيث يمكن لأحدث جيل من أصناف الذرة المتحملة للجفاف، التي تم تطويرها من خلال التربية التقليدية والهندسة الوراثية، مثلا، الحفاظ على المحاصيل مع توفير 30إلى 40% من المياه المستهلكة. ففي أفريقيا جنوب الصحراء، حيث يمثل الجفاف قيدا رئيسيا على إنتاج الغذاء، زادت هذه الأصناف المحاصيل بنسبة 20-30% في التجارب الميدانية التي أجريت.
يتطلب معالجة أزمة الأمن الغذائي العالمي استجابات سياسية منسقة على المستويات المحلية والوطنية والدولية. ففي حين توجد العديد من المبادرات، فإن تنفيذها غالبا ما يكون أقل مما هو مطلوب لِتَغْيِيرِ مَسارِ الاتجاهاتِ الحالية. وفي هذا السياق توفر أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة (SDGs)، ولا سيما الهدف 2 (القضاء على الجوع)، خارطة طريق شاملة، ولكن التقدم نحو هذه الأهداف كان متفاوتا في أفضل حالاته.
تركز السياسات الزراعية الوطنية في العديد من البلدان على تعزيز الإنتاج على المدى القصير بدلا من الاستدامة طويلة الأجل. فغالبا ما تفاقم الإعانات للمحاصيل التي تستهلك الكثير من المياه في المناطق القاحلة، وضوابط الأسعار التي تعوق الاستثمار، وحظر التصدير أثناء نقص الغذاء انعدام الأمن الغذائي بدلا من تخفيفه، وقد كشف تقرير الأمم المتحدة الأخير أن القطاع الزراعي في الدول العربية تلقى تمويلا بقيمة 28.4 مليار دولار أمريكي في عام 2021، موزعا بين الائتمان المصرفي، والإنفاق الحكومي، وتمويل التنمية. غير أن النظم الغذائية والزراعية العربية تحتاج إلى توجيه أفضل للموارد المالية المتاحة لتحقيق التحول المنشود.
بينما تتحمل الحكومات والمنظمات الدولية المسؤولية الأساسية عن معالجة الأمن الغذائي، يلعب المستهلكون ومنظمات المجتمع المدني أدوارا حاسمة في دفع التغيير النظامي. ويشار إلى أن أنماط الاستهلاك في الدول الغنية لها تأثيرات غير متناسبة على النظم الغذائية العالمية، في حين يمكن للحركات الشعبية الضغط على صانعي السياسات والشركات لاعتماد ممارسات أكثر استدامة.
يمثل هدر الغذاء أحد أكثر إخفاقات النظم الغذائية الحالية فظاعة. يقدر مؤشر هدر الأغذية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP) لعام 2024 أن 1.05 مليار طن من الغذاء – 19% من إجمالي الإنتاج العالمي – تم إهداره في عام 2023، بينما عانى 783 مليون شخص من الجوع. فيما تمثل المعيشة الاسرية 60% من هذه النفايات في البلدان ذات الدخل المرتفع، حيث يتخلص المستهلكون بشكل روتيني من الطعام الصالح للأكل بسبب المعايير الاستهلاكية والشراء المفرط والتوجس من تواريخ الانتهاء.
إن التحديات التي تواجه الأمن الغذائي العالمي لا يمكن إنكارها، لكنها ليست مستعصية. من الواضح أن الوضع خطير، لكننا نمتلك المعرفة والتقنيات والموارد اللازمة لإطعام سكان العالم بشكل مستدام – ما ينقص هو الإرادة الجماعية لتنفيذ الحلول على النطاق والسرعة المطلوبين.
تتطلب الطبيعة المتداخلة لأزمة الأمن الغذائي حلولا متكاملة تعالج أبعادها المتعددة في وقت واحد؛ فيجب توسيع نطاق الزراعة الذكية مناخيا لحماية إنتاج الغذاء من ارتفاع درجات الحرارة والظواهر الجوية الشديدة. أما السياسات الاقتصادية فتحتاج إلى إعطاء الأولوية لقدرة تحمل تكاليف الغذاء ومعيشة المزارعين أصحاب الضيعات الصغيرة. لكن يجب أيضا تجويد طرق حل النزاعات والوصول الإنساني لمنع استخدام الجوع كسلاح. مع استحضار الإدارة المستدامة للأراضي والمياه باعتبارها ضرورية للحفاظ على قاعدة الموارد الطبيعية للأجيال القادمة.
تتجاوز تكاليف عدم اتخاذ الاجراءات اللازمة، بكثير الاستثمارات المطلوبة لحل هذه الأزمة. يقدر الصندوق الدولي للتنمية الزراعية أن تحقيق القضاء على الجوع بحلول عام 2030 سيتطلب 267 مليار دولار إضافية سنويا – أي ما يشكل 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهو مبلغ كثير، ولكنه قليل إذا تمت مقارنته هذا مع تكلفة سوء التغذية البالغة 3.5 تريليون دولار سنويا جراء فقدان الإنتاجية ونفقات الرعاية الصحية، أو المعاناة الإنسانية التي لا يمكن تقييمها بسبب الجوع المزمن والمجاعة، إنها إذا حجة اقتصادية مقنعة، لكن أكثر منها إقناعا الحجة الأخلاقية.
إن الوقت هو جوهر المسألة، فكل عام من التأخير يجعل المشكلة أكثر صعوبة وأكثر تكلفة للحل، وهو مفتاح منع حدوث أضرار وخيمة سريعة على النظم البيئية والنظم الغذائية. إن الخيارات التي نتخذها في هذا العقد – حول كيفية زراعة الغذاء وتوزيعه واستهلاكه – ستحدد ما إذا كانت الأجيال القادمة سترث عالما من الوفرة أو عالما من الندرة والصراع.