واحات النخيل بالمغرب.. جفاف وحرائق يختبران الصمود ويعمقان الهشاشة
klyoum.com
إذا كان نخيل التمر هو الدعامة الأساسية للاقتصاد وحجر الزاوية في النظام البيئي بمناطق الواحات، فإن التغيرات المناخية وتوالي سنوات من الجفاف واستنزاف المياه الجوفية، واستفحال ظاهرة الهجرة، واستمرار واقع التهميش وبطء عجلة التنمية، عوامل خلقت واقعا جديدا بهذه المناطق، يمكن إجماله في اندثار العديد من أشجار النخيل وتراجع إنتاج التمور، وتعميق الفقر والهشاشة.
ويتوفر المغرب، بحسب معطيات رسمية، على 90 واحة للنخيل، يعيش فيها أكثر من مليوني شخص، وتمتد على مساحة 64 ألف هكتار، وتضم أكثر من 7.2 ملايين نخلة، موزعة على ثمانية أقاليم في الجنوب الشرقي للمملكة، وهي الرشيدية وزاكورة وتنغير وورزازات وطاطا وكلميم وأسا الزاك وفجيج، مع تمركز أكبر بجهة درعة تافيلالت.
لكن هذه الثروة الطبيعية من الواحات، التي تحتضن تراثا إنسانيا زاخرا، أصبحت خلال السنوات الماضية في مهب الريح، إذ تشكل التغيرات المناخية، من خلال ظواهر الجفاف والفيضانات وموجات الحرارة والحرائق، بالإضافة إلى سلوك الإنسان، تهديدا للأنظمة الغذائية والموارد الطبيعية والتنمية البشرية بهذه مناطق، في ظل اقتصاد هش وتنمية شبه منعدمة.
الجفاف
واندلع 2393 حريقا بالواحات المغربية، منذ سنة 2009 إلى غاية يونيو 2024، أتى على 172 ألف نخلة في مساحة تبلغ 1423 هكتارا، بحسب الوكالة الوطنية لتنمية مناطق الواحات وشجر الأركان، بحيث اندلعت حرائق في عدد من الواحات بزاكورة والرشيدية وتمكروت وغيرها. بينما زحفت الرمال على واحات تافيلالت وامحاميد الغزلان، إذ حاصرت الكثبان مناطق زراعية.
في خضم هذا الوضع الكالح الذي خيم على الواحات لسنوات، انبعثت بارقة أمل مع التساقطات المطرية الغزيرة التي عرفتها مناطق الجنوب الشرقي قبل شهور؛ وفي هذا الصدد أوضح الأستاذ والباحث في جامعة مولاي إسماعيل بالرشيدية، والناشط والخبير في شؤون الواحات لحسن كبيري، أن هذه التساقطات المطرية خففت من حدة الجفاف، لكن توالي ست سنوات من الجذب والممارسات غير الملائمة للوسط البيئي بالواحات تسببت في تراجع الفلاحة في هذه المناطق.
وبحسب كبيري، فإن الجفاف ليس وحده ما يؤثر على تدهور الواحة، منبها إلى أن الإنسان بالمنطقة لم يعد يعطي للفلاحة والعمل فيها قيمة، وهو ما تسبب في تدهور النشاط الفلاحي في الوحات التقليدية، وذلك في ظل غياب تتبع وبرنامج شامل يكون مستمرا في الزمان والمكان للحفاظ على الواحات القديمة وضمان استمرار تطورها.
وتدهورت الواحات خلال العقدين الماضين بشكل ملحوظ، إذ تقلصت مساحتها الإجمالية من 150 ألف هكتار إلى حوالي 44 ألف هكتار، وتراجع مستوى المياه الجوفية فيها بقرابة 20 متر مكعب سنويا، وتقلص إنتاج التمور بـ 34%، وذلك تحت تأثير تغيرات المناخ، من قبيل ظاهرة التصحر وزحف الرمال، وأسراب الجراد والحرائق، ومرض البيوض الذي يستهدف النخيل، بحسب دراسة للمعهد المغربي لتحليل السياسات.
الجفاف ليس وافدا جديدا على الواحات، يقول كبيري في تصريح لـ"العمق"، إذ عرفت هذه المناطق فترات جفاف خانق شديد الوطأة، واجتازت سنوات عجاف، مثل ما حدث في الثمانينات، "لكن الجفاف لم يؤثر كثيرا على إنتاج التمور، لأن الواحة كانت تعيش توازنا، كونها لا تعتمد على مياه الأمطار وحدها".
وأوضح المتحدث، أن الواحات تعتمد على مياه الأمطار لحظة هطولها عليها، كما تعتمد على مياه الأمطار التي تسقط خارجها بالجبال المحيطة بها، والتي تحملها الشعاب والوديان لها، ناهيك عن الثلوج التي تتساقط بأعالي الجبال، التي تتسرب عبر التربة وتعزز المياه الباطنية، وهكذا "كان الفلاحون يستغلون المياه الباطنية في سنوات الجفاف، لكن اليوم استنزفت هذه الموارد الباطنية بالاستغلال المفرط وغير العقلاني".
الجفاف، يقول الأستاذ والباحث في جامعة مولاي إسماعيل بالرشيدية، والناشط والخبير في شؤون الواحات، أثر سلبا على الواحات وتسبب في تدهور الفلاحة فيها، واستدرك بأنه "كان من الضروري أن يتم التعامل مع الفرشات المائية الباطنية باعتبارها موردا مائيا استراتيجيا، وأن نمنع استنزافها"، مشيرا إلى أن هناك معادلة صعبة، وهي الاستثمار في ظل محدودية الموارد المائية بالمنطقة.
وكان المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، قد اعتبر في تقرير سابق بعنوان "تنمية العالم القروي التحديات والآفاق"، أن التدبير العقلاني للموارد المائية يسائل المتدخلين على الصعيد المحلي والجهوي والوطني، داعيا إلى استعمال تقنيات جديدة لتدبير الموارد المائية مثل التغذية الاصطناعية للفرشات المائية، والتدبير الموضعي لمياه السقي، ومحاربة الإجهاد المائي والإفراط في الضخ.
الهجرة والتهميش
لقد أنتج تدهور اقتصاد الواحات وضعف مردوديته، ورزوحه تحت رحمة الجفاف والتصحر والحرائق، عزوفا لدى الشباب عن الأنشطة الفلاحية بهذه المناطق، وهو ما نبه له المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، كما ساهم في تسريع وتيرة الهجرة وارتفاع معدلاتها، للبحث عن موارد ومصادر عيش أفضل خارج الواحات التي أصبحت مهددة بالاندثار، بحسب المعهد المغربي لتحليل السياسات.
بدوره اعتبر كبيري أن الجفاف ليس الدافع الوحيد لهجرة شباب، بل وأسر بأكملها، من مناطق الواحات في اتجاه عدد من المدن الكبرى، موضحا أن من بين عوامل الهجرة عدم توفير هذا الوسط للشباب والسكان أنشطة اقتصادية، تساعدهم تحقيق العيش الكريم، لتشجيعهم على الاستقرار بمناطقهم، وهو تسبب في هجرة عدد من الكفاءات عن الواحات.
ويعيش سكان مناطق الواحات تهميشا وإقصاء، تعود جذوره إلى مرحلة الاستعمار، في إطار ما عرف بثنائية المغرب النافع والمغرب غير النافع، وتتميز هذه المناطق بمستوى تجهيزات دون المتوسط الوطني، بحسب ما ورد في تقرير سابق للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بعنوان "السكن في الوسط القروي: نحو سكن مستدام ومندمج في محيطه".
ومع ذلك فإن هذا التهميش ليس قدرا محتما، إذ أن بإمكان أبناء المنطقة من مسؤولين ومنتخبين، خصوصا على مستوى مجالس الجهات، القضاء عليه، بحسب كبيري، فـ"التهمش مستفحل بعدد من مناطق الواحات لأن أبناءها هم من ساهموا في استمراره. بإمكان مجالس جهات درعة تافيلالت، أو كلميم وادنون مثلا وغيرها، أن تشمر على سواعدها وتشتغل لجلب التنمية للمنطقة، وإطلاق مشاريع تعود بالنفع على الواحات".
وتابع الأستاذ الجامعي أن بإمكان مجالس الجهات أن تلعب أدوارا مهمة على هذا المستوى، من أجل القضاء على الهشاشة والإقصاء وفك العزلة على العديد من المناطق وتحريك عجلة التنمية، مشيرا إلى أن القانون أعطى لمجالس الجهات صلاحيات كبيرة، "الخيرات موجودة في المنطقة، وعلى المنتخبين أن يكونوا في المستوى للدفاع عن مناطق الواحات".
واعتبر الأستاذ الجامعي لحسن كبيري، وهو واحد من سكان الواحات، أن مستقبل واحات النخيل بالمغرب بيد "نساءها ورجالاتها وشبابها. ما حك جلدك مثل ظفرك، لكل واحد منا واجب اتجاه الواحة وإلا سنساهم في مسحها من الخرائط"، في إشارة إلى الدور الكبير الذي يمكن أن يضطلع به السكان والفاعلون المدنيون بالمنطقة والمسؤولون الجهويون والمحليون.
وفي جهة درعة تافيلالت، حيث تتمركز أكبر الواحات، عاش مجلس الجهة في الولاية السابقة (2015 _ 2021)، على وقع صراعات سياسية بين مكوناته وعرف فترة بلوكاج، كما فشل أكثر من مرة في عقد دوراته، ما ساهم في عرقلة تمرير مشاريع تنموية، وحرم المنطقة من فرصة توحيد جهود نخبها السياسية لتحقيق التنمية وتحسين المستوى المعيشي للساكنة.
نتائج وحلول
وأطلقت الدولة المغربية العديد من المخططات التي سطرت أهدافا للنهوض بالواحات، من قبيل المخطط الأخضر والمخطط التنموي للواحات، والجيل الأخضر، وعلى إثرها برزت استثمارات فلاحية كبيرة في مناطق الواحات استثمارات، بحيث تم كراء آلاف الهكتارات للمستثمرين من أجل تجهيز ضيعات شاسعة للنخيل، ناهيك عن استحداث ضيعات لزراعة البطيخ الأحمر، وهو ما هدد النظام الإيكولوجي، وأضر بأنشطة السكان في الواحات القديمة.
ووصف كبيري المشاريع التي أطلقت في إطار الاستراتيجيات والمخططات التي أعلنت عليها الدولة، بأنها مهمة، "إلا أن أثرها على الواحات يظل محدودا، باستثناء خلق فرص شغل للعمال، لكن السؤال المطروح: هل هؤلاء العمال والتقنين أبناء الواحة أم وافدون؟"، موضحا أن الأثر الإيجابي على الواحة يظل محدودا أمام الكثير من التأثيرات السلبية على الواحات القديمة.
وشدد على أهمية إعطاء الأأولوية في الدعم والمشاريع للواحات القديمة وتطويرها، لتجاوز الإكراهات التي تشهدها وإيجاد الحلول، ثم ننظر بعد ذلك إلى خارج الواحات"، في إشارة للضيعات الكبيرة بمناطق الواحات، "فعلا هناك مشاكل عويصة بالواحات القديمة ولكن لا بد لها حلول. فجعل هذه الواحات منتجة سيخدم هذا الوسط والسكان المحليين"، بحسب تعبيره.
في سياق متصل، أوضح الأستاذ الجامعي أن توزيع الماء في مناطق الواحات وداخل الواحة الواحدة يكون غير متكافئ، قد تجد الماء مثلا وفيرا في منطقة معينة لكنه نادر في أخرى، "لذلك نحتاج إلى هندسة المياه في المنطقة، وهذا ما تنبّه له الأجداد منذ سنوات، عندما أحدثوا نظام للحكامة الجماعية الذاتية ووضعوا أعرافا لتوزيع المياه".
ودعا المتحدث إلى ضرورة خدمة الواحة وتثمين ما تزخر به ليحقق عائدا في السياحة، وتوجيه السكان وتكوينهم، مثلا، لإنتاج وزراعة نباتات عطرية تحقق مردودا مرتفعا؛ وهنا يبرز دور استراتيجيات وزارة السياحة وباقي السياسات العمومية، منبها إلى أن غياب الالتقائية من أبرز تراجع إنتاج التمور.
يرى كبيري أن الواحات أثبتت قدرتها على الصمود وتأقلمت مع الكثير من المتغيرات مع مرور الزمن، و"الإنسان الذي عاش فيها قوى صموده وصمودها وصمود المخلوقات والموارد المائية في المنطقة والطبيعية، بحكم العلاقة المتوازنة التي تربطه مع وسطه"، ونبه إلى أن اختلال هذا التوازن يهدد باندثار الواحات.
وتظل مناطق الواحات بالمغرب نظاما بيئيا يحتضن تراثا إنسانيا ثمينا وثقافيا وطبيعيا فريدا، كما تظل شاهدة على قدرة الإنسان الذي استوطنها على التأقلم مع البيئة والصمود في وجه التقلبات المناخية، لكن هذا الصمود يواجه اليوم اختبارا حقيقيا في ظل استفحال الجفاف والهجرة القروية ومحدودية أثر السياسات العمومية.