هل أصبحت لوبيات الفساد في المغرب أقوى من الحكومات؟
klyoum.com
أخر اخبار المغرب:
ترامب يمنع السوريين والفلسطينيين من دخول أمريكاتتركز في قطاعات المحروقات والتأمينات والأدوية ومراقبون: غياب المساءلة القانونية يكرس وجودها
أعادت تصريحات وزير الصحة المغربي أمين التهراوي أخيراً في شأن الضغوط التي يتعرض لها من لدن "أرباب مصالح" في قطاع الأدوية، ملف "اللوبيات" أو "مجموعات الضغط القوية" التي تتحكم في الأسواق وتحدد الأسعار وتحتكر السلع وتؤثر بالتالي في الحياة الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، إلى الواجهة مجدداً.
وكان وزير الصحة المغربي أقر ضمن اجتماع بمجلس النواب قبل أيام مضت بأنه "كلما اقترب من الملفات العالقة بخصوص قطاع الصحة والأدوية، تعرض لبعض الضغط من طرف أرباب مصالح يحاولون التأثير في الرأي العام لمصلحتهم"، وفق تعبيره.
وتتعاظم داخل المغرب لوبيات في شتى القطاعات والمجالات سُميت جميعها بـ"لوبيات الفساد"، وتتمركز داخل قطاعات المحروقات والتأمينات والأدوية وغيرها من المجالات الحيوية الأخرى التي تمس بصورة مباشرة الحاجات اليومية للمواطنين.
ويشهد مجال صناعة وبيع الأدوية في المغرب تدخل لوبيات قوية تتمثل في شركات ومختبرات وشبكات التوزيع والاستيراد، وتعمل جاهدة على التحكم في موازين وقوانين العرض والطلب بالسوق الوطنية من خلال تحديد الأسعار واحتكار بعض الأدوية.
منطق الاحتكار والتحكم نفسه تشتغل به لوبيات قطاع المحروقات من بنزين وغازوال، إذ تعمد شركات كبرى للمحروقات إلى الهيمنة على السوق الوطنية، مستفيدة من تحرير الأسعار الذي أقرته الحكومة قبل أعوام خلت، بهدف تحقيق هوامش ربح مرتفعة.
ويضاف إلى لوبيات الأدوية ولوبيات المحروقات، لوبيات الأسعار التي تتمثل في جهات وشركات تستحوذ على منتجات بعينها عبر الاحتكار أو الوساطة بين المنشأ والمستهلك، وهو ما يخل بتوازنات السوق ويرفع الأسعار ويضر بالقدرة الشرائية للمستهلكين.
ويرى مراقبون أن ارتفاع أسعار الأدوية على رغم مجهودات الحكومة الرامية إلى خفض أثمان عدد من الأدوية المكلفة وأسعار الوقود والسلع الرئيسة، من شأنه إفقاد الطبقة الوسطى والفقيرة توازنها الاجتماعي مما يهدد الاستقرار والسلم الأهلي.
وحمل برلمانيون مغاربة ملف اللوبيات إلى قبة مجلس النواب لمساءلة الحكومة حول التدابير الكفيلة بمواجهة هذه الشركات والجهات الضاغطة، إذ انتقدت البرلمانية فاطمة التامني "تغول لوبي المحروقات، فقرار تحرير أسعارها الذي اتخذته الحكومة السابقة فتح الباب لاغتناء البتروليين الكبار في المغرب، وأسهم في رفع الأسعار بصورة غير مبررة".
ووفق التامني، فإنه "على رغم محاولات مجلس المنافسة (مؤسسة حكومية) التدخل وتنظيم السوق فإن الممارسات المنافية للقانون مستمرة، إذ نلاحظ التقارب في الأسعار بين الشركات وتغيير الأثمان في الوقت ذاته والتخزين المشترك، مما يثير الشكوك حول وجود احتكار وتلاعب بالسوق، ويعزز فرضية التنسيق بين لوبيات المحروقات على حساب الشعب المغربي".
تعلق الباحثة في العلوم السياسية شريفة لموير على الموضوع بالقول، إن أهم عامل يكرس وجود لوبيات على مختلف الصعد داخل المجتمع المغربي هو غياب المساءلة القانونية، موردة أنه "على رغم عدد من الحملات التي تناهض الفساد وتبني آليات من أجل الحد منه، فإن الأمر لم يتجاوز شعارات مرحلية لم تترجم حجم الآليات العقابية لمواجهة هذه الآفة".
وتابعت لموير "اليوم ما نراه داخل المجتمع المغربي هو صنيعة تدبير حكومي فاقم من تكريس الفساد من خلال مجموعة من القرارات والإجراءات التي غيبت الوسائل والآليات الرقابية، مما زاد من حدة الأزمة الاجتماعية في البلاد".
ولفتت المتحدثة إلى أن هذا الوضع لم يُحسم حتى مع توالي الحكومات، وأنه بغياب ضبط الأسعار أو مراقبة الهوامش الربحية التي لم تحدد لها سقوف قانونية استفادت اللوبيات بصورة كبيرة على حساب الوضع المادي للمواطن المغربي.
وأردفت أن "أمام هذه الاختلالات التي توضح مدى قوة لوبيات الفساد بات لزاماً مباشرة مراجعة قانونية شاملة تواجه هذا الاستشراء والتماهي المقلق للفساد داخل قطاعات مهمة بالمغرب". مستدركة "من جهة أخرى لا يمكن التغاضي عن كون واقع الحال يؤكد أن حتى مع وجود إرادة سياسية حقيقية لمواجهة هذا الفساد وهذه اللوبيات، فإن هيمنة المصالح السياسية والاقتصادية أصبحت أقوى من الحكومات نفسها".
في المقابل، تحاول الحكومة عبر "مجلس المنافسة"، الذي يهتم بأداء الأسواق ومحاربة الممارسات المنافية للمنافسة، مواجهة ظاهرة اللوبيات التي تخترق كثيراً من شرايين الحياة الاقتصادية، وآخرها مداهمة مصالح التحقيق والبحث لدى هذه المؤسسة خمسة فاعلين في السوق الوطنية للأعلاف الموجهة لقطاع الدواجن بسبب ممارسات منافية للمنافسة داخل هذه الأسواق.
من جهته، يقول رئيس "الجامعة المغربية لحقوق المستهلك" بوعزة الخراطي إن اللوبيات موجودة في جميع البلدان، فالولايات المتحدة على سبيل المثال يؤثر في قراراتها لوبي صناعة الأسلحة ولوبي الأدوية هو من يقرر في المنظمة العالمية للصحة، ولوبي الإعلام يقرر في توجهات الرأي العام.
وأفاد الخراطي بأن "اللوبي سواء كان صغيراً على مستوى قرية أو مدينة أو كبيراً وقوياً على مستوى بلد بكامله، فهو لا يحترم قانون المنافسة، وبعدم احترامه تُهضم حقوق المستهلك ويتقوى هذا الغول إلى أن يصبح خطراً على النظام العام، بالتالي على السلم الاجتماعي".
ولفت المتحدث ذاته إلى أن الولايات المتحدة سنت قوانين المنافسة antitrust بهدف تقليص دور وتأثير اللوبيات وجعل مؤسسات المنافسة هي الحكم في السوق لضمان استفادة الشركات الصغيرة والمتوسطة وحماية حقوق المستهلك.
وتابع أن "مؤسسة المنافسة تبقى الضامن الأساس لشفافية المعاملات التجارية وإثبات نسبة الاحتكار، وكذلك التدخل العاجل لردع كل من خالف قانون حرية الأسعار والمنافسة".
وتدخل مجلس المنافسة المغربي قبل أيام قليلة لمداهمة خمسة فاعلين في السوق الوطنية للأعلاف، مما دفع جمعيات حقوق المستهلكين إلى الإشادة بهذا الفعل، معتبرة أن "ذلك التحرك يؤكد وجود إرادة فعلية لكشف أية تلاعبات قد تؤثر في الأسعار أو الإمدادات داخل واحد من أكثر القطاعات حساسية بالنسبة إلى المستهلك".
بدوره يرى المتخصص في الاقتصاد السياسي عبدالإله الخضري أن الحديث عن اللوبيات الاقتصادية الموجودة في قطاعات متعددة مثل الأدوية والمحروقات والتأمينات وغيرها لا يُختزل في مجرد نشاط للقطاع الخاص، بل يشير إلى شبكات معقدة من المصالح المتداخلة بين الفاعلين الاقتصاديين والسياسيين.
واستطرد الخضري "هذه الشبكات تمتلك القدرة على التأثير في صياغة السياسات العمومية، إذ تقوم بتوجيه خيارات الدولة في مجالات التنظيم والتسعير والدعم والرقابة، وتكشف الأطر القانونية والتنظيمية في كثير من الأحيان عن تأثير هذه اللوبيات داخل منظومة اتخاذ القرار، ونتيجة لذلك تتعزز حالات الاحتكار التي تقوض شروط المنافسة، وتوجه النشاط الاقتصادي نحو تحقيق أرباح سريعة وفورية مقابل تعطيل مسار التنمية العادلة والشاملة".
ومضى المتحدث قائلاً إن تأثير هذه اللوبيات يمتد إلى عرقلة الإصلاحات المؤسسية، سواء كانت رقابية أو تشريعية أو تنظيمية عبر قدرتها على ممارسة ضغط مستمر على أجهزة الدولة، وهذا ما يضعف الحوكمة ويحد من فعالية سياسات مكافحة الفساد ويعوق إرساء أسس العدالة الاقتصادية، ويتسع بذلك نطاق الفوارق الاجتماعية إذ يتحول جزء مهم من الرأسمال الوطني إلى أرباح خاصة تراكمها أقلية مؤثرة بدلاً من أن يوجه نحو الاستثمار المنتج والبنيات الاجتماعية الضرورية للتنمية.
واسترسل الخضري "في سياق تحكم هذه اللوبيات في قطاعات استراتيجية كالمحروقات والدواء والتأمين تصبح إمكانية الوصول إلى الخدمات الأساس خاضعة لمنطق السوق غير المنظم، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار أو ضبطها بطريقة تفضي إلى استفادة الطبقات الوسطى والعليا على حساب الفئات الفقيرة والهشة، سواء في الوسط الحضري أو القروي، ويؤدي هذا الاختلال إلى إعادة إنتاج الفقر والهشاشة حتى في ظل تحسن المؤشرات الرسمية المتعلقة بالفقر النقدي".
تفرز اللوبيات المنتشرة في قطاعات حيوية آثاراً وتداعيات اجتماعية بالجملة يلخصها الخضري في اتساع فجوة اللامساواة، إذ إن لوبيات الأدوية والتأمينات حين تحقق أرباحاً ضخمة فإنها لا تكتفي باستنزاف جزء من الموارد العمومية عبر العقود والتعويضات، بل تضعف أيضاً قدرة الشرائح الكادحة على الولوج إلى خدمات صحية وتأمينية ذات جودة، أما لوبيات المحروقات والطاقة فرفعها للأسعار ينعكس مباشرة على كلفة المعيشة والنقل والكهرباء والتغذية والسكن بصورة تُثقل كاهل الأسر المحدودة الدخل وتُنهك قدرتها الشرائية.
واسترسل بأن "عندما يدرك المواطن أن السياسات العمومية تصاغ لخدمة مصالح ضيقة وليس للصالح العام يتولد شعور بالظلم المؤسسي، ينتهي إلى استياء اجتماعي واحتجاجات دورية وتعميق انعدام الثقة بين المجتمع والدولة، وعلى المدى المتوسط قد يؤدي ذلك إلى عزوف سياسي واجتماعي يضعف المشاركة العامة ويعطل إمكانات بناء توافقات وطنية حقيقية".
"وتشير خريطة الفقر في المغرب لعام 2024 إلى أن غالبية الفقراء يعيشون في الوسط القروي، وهو ما يعكس اختلالاً بنيوياً في توزيع الاستثمار والخدمات، فاللوبيات المتمركزة داخل المدن الكبرى تستحوذ على موارد الدولة وتوجه الاستثمارات نحو مجالات مربحة في الفضاء الحضري، مما يكرس التهميش القروي ويعوق تحقيق تنمية مجالية متوازنة"، وفق الخضري.
ويكمل الباحث في الاقتصاد السياسي أن "منطق الربح السريع الذي يحكم عمل هذه اللوبيات يؤدي إلى تراجع الاستثمار في رأس المال البشري، من قبيل التعليم والصحة والبحث العلمي والابتكار والبنية التحتية الاجتماعية، وبهذا تفرط البلاد في شروط التنمية المستدامة، ويتحول الاقتصاد إلى مصدر لعوائد مالية خاصة من دون قدرة على خلق تراكم تنموي طويل المدى".
ويذهب الخضري إلى أن التنمية تتطلب توزيعاً عادلاً للموارد وشفافية في اتخاذ القرار وحوكمة فعالة واستثماراً في رأس المال البشري، إلى جانب ضمان تكافؤ الفرص في الولوج إلى الخدمات، وكلما اشتد نفوذ اللوبيات أصبحت هذه الشروط أضعف، وتحول مسار التنمية إلى "نمو لوبياتي" يخدم قلة ضيقة بدلاً من أن يكون رافعة لرفاهٍ اجتماعي واسع.