اخبار المغرب

اندبندنت عربية

سياسة

أصوات الباعة الجائلين في المغرب تجأر بـ"أزمة مركبة"

أصوات الباعة الجائلين في المغرب تجأر بـ"أزمة مركبة"

klyoum.com

الاقتصاد الوطني لا يستفيد من نشاطهم والدولة تطاردهم حيناً وتغض الطرف أحياناً خشية القلاقل الاجتماعية

باعة جائلون يدفعون كل يوم عرباتهم المتنقلة التي تحمل خضراوات وفواكه وملابس وسلعاً أخرى في كل حارة وشارع وحي، لا يجدون سوقاً يستقرون فيه إلا قليل منهم. يتأرجحون بين مطرقة لقمة العيش وسندان مطاردات الدوريات والسلطات الأمنية، فضلاً عن الاتهامات التي تطاولهم في شأن الفوضى الاجتماعية التي يخلفونها واحتلال الأرصفة والملك العمومي.

يعزو مراقبون ومتخصصون تضخم ظاهرة الباعة الجائلين (المتجولين) في شوارع وأحياء المغرب، وآثار هذا القطاع "غير النظامي" (غير المهيكل) في الاقتصاد الوطني، إلى أسباب اجتماعية واقتصادية عديدة ومعقدة.

وتفيد أرقام رسمية أن الباعة الجائلين يمثلون تقريباً 15.6 في المئة من الساكنة النشيطة بالمغرب، أي ما يعادل 1.6 مليون شخص، بينما استفاد 86 ألف بائع جائل فقط من المخطط الحكومي القاضي بإدماج التجارة الجائلة ضمن القطاع المنظم، وهو رقم تعترف الحكومة بأنه "غير كاف تماماً".

احتلال الملك العام

يجر صالح، وهو شاب ثلاثيني، عربته التي تحمل الفواكه في بعض أحياء الرباط، إذ يحاول التنقل في الفترة الصباحية والمسائية بين أكبر عدد ممكن من الأزقة، مركزاً على الأحياء الشعبية التي قال إنها تعرف بالرواج التجاري.

يلخص صالح عمله في نواحي العاصمة بأنه عمل شاق ومتعب يتطلب جهداً بدنياً كبيراً، كما يستوجب إشهار "قرون الاستشعار" دوماً بسبب حملات السلطات الأمنية التي تطالب الباعة بإخلاء الأرصفة والأحياء.

وأوضح أن أوضاع الباعة مثله مركبة ومعقدة، فمن جهة يقدمون خدمات البيع للساكنة والمواطنين بأسعار مناسبة، ومن جهة ثانية يتعرضون بين الفينة والأخرى لمطاردات أو مضايقات تجعلهم يشتغلون في ظروف نفسية غير مريحة.

وتقوم السلطات المغربية في كثير من الأحيان بحملات تحرير الأرصفة والشوارع من أنشطة الباعة الجائلين، باعتبار أنها أنشطة تجارية تحتل الملك العمومي، وتتسبب في مشكلات مع السكان بسبب ضوضاء الباعة، وأيضاً في مشاحنات واختلالات أمنية.

وتشن السلطات حملات تحرير الأرصفة والملك العمومي من قبضة الباعة الجائلين بهدف "تحسين جمالية المدن، وتنظيم الفضاءات العامة، والحد من الاختلالات الأمنية التي يمكن أن ترافق الأنشطة العشوائية، ومواجهة الضغط المتزايد من التجار المحليين الذين يعانون المنافسة غير المنظمة من الباعة الجائلين".

في مقابل هذه المطاردات يطالب صالح، كما كثير من الباعة الجائلين، بتوفير بدائل مناسبة لهم، حتى لا يضطرون إلى العمل في هذا القطاع الاقتصادي غير المهيكل، الذي يضيع على خزانة الدولة أموالاً طائلة، باعتبار أن الباعة لا يؤدون مستحقاتهم وضرائب التجارة وغيرها من موارد الدولة.

توخي السلم الاجتماعي

هذا الاقتصاد غير المنظم الذي تغذيه مداخيل أنشطة الباعة الجائلين في المغرب، وفق الباحث في الاقتصاد الاجتماعي محمد مجدولين، هو جزء من الفرص الاقتصادية والتنموية الكثيرة المهدرة للبلاد.

وأفاد مجدولين بأن الدولة لا ترى بعين الرضا ظاهرة تضخم الباعة والتجار الجائلين، لأنها تجد نفسها غير مستفيدة من هذا الاقتصاد الضخم غير المنظم وغير الخاضع للهيكلة.

من جهة أخرى تغض السلطات أحياناً الطرف عن وجود الباعة الجائلين لأسباب قوية أبرزها النأي من القلاقل الاجتماعية أو الأزمات الاقتصادية إذا ما جرى المنع بقوة، إذ يعيل الباعة الجائلون آلاف وملايين الأسر المغربية، بحسب الباحث.

هذه الحيثية بالتحديد وردت في تقرير سابق للمجلس الاقتصادي والاجتماعي (مؤسسة دستورية استشارية) بالتأكيد على أنه "في ظل غياب ما يكفي من البدائل الناجعة، نشأ نوع من التغاضي عن أنشطة الاقتصاد غير المنظم مثل الباعة الجائلين، توخياً لسلم اجتماعي يظل هشاً على رغم ذلك، وهو ما لا يتماشى وإعمال سيادة القانون".

ووفق التقرير الرسمي ذاته، تتيح الأنشطة الاقتصادية غير المنظمة لشرائح واسعة من الساكنة إيجاد مصدر للعيش والخروج من البطالة، لكنها تعمق في الوقت نفسه الهشاشة في سوق الشغل، وتمارس منافسة غير مشروعة للمقاولات المنظمة، وتلحق الضرر بالاقتصاد الوطني، إذ تضيع على الدولة مداخيل ضريبية مهمة".

أخطار البيع المتجول

وتتسم علاقة الباعة الجائلين بالمستهلكين المباشرين من زبناء وساكنة مجاورة بنوع من التناقض، ففي الوقت الذي يجد المواطن أن البائع المتجول يتيح له بضائع بأسعار مقبولة، وبأنه يوفر عليه عناء التنقل إلى الأسواق البعيدة، فإن المواطن نفسه يتذمر من الضجيج واحتلال الأرصفة من طرف هؤلاء الباعة.

يعلق بوعزة الخراطي، رئيس الجامعة المغربية لحقوق المستهلك، على الموضوع بقوله إن معضلة الباعة المتجولين تستحق دراسة معمقة، لأنها تتنافى مع نظام السوق العصرية التي تخضع لقانون المنافسة، وكذلك مع الحماية الصحية للمنتجات الغذائية.

وأورد الخراطي أن ظاهرة الباعة الجائلين غير صحية عندما لا تكون مؤطرة ولا مراقبة، بالتالي تكون منفذاً لبيع المنتجات المهربة ومنتهية الصلاحية، وكذلك المنتجات غير الخاضعة للنظام الضريبي التي تهدد صحة المستهلك ولا تستفيد من رواجها مداخيل البلاد.

واستطرد المتحدث ذاته أن "هذه السوق تروج أكثر من 50 في المئة من المنتجات الغذائية وبخاصة الخضراوات والفواكه"، متابعاً أن تقريب المنتجات للمستهلك جعل لكل حي ما يعرف بـ"السويقة" أو "الجوطية"، حتى صار كثير من الأحياء نقاطاً سوداء وأماكن ينبعث منها الضجيج، ومرتعاً لجرائم السرقة والنهب والغش وتضليل المستهلك".

وحمل مسؤولية استمرار هذا النوع من التجارة غير المنظمة إلى "المستهلك الذي يعتقد أن هذه السوق تعتبر فرصة له للتبضع بمنتجات وأسعار مناسبة، لكن الحقيقة غير ذلك تماماً"، وفق تعبيره.

وأبرز الخراطي أن وجود الباعة الجائلين يرتبط بلجوء المستهلك إليهم، بالتالي فإن كل سياسة تهدف إلى تقليص هذا النوع الشارد من التجارة يجب أن تستهدف هذا المستهلك، إذ باستغنائه عن التبضع من الباعة الجائلين سيضطر هؤلاء إلى البحث عن عمل آخر، بالتالي يتقلص هذا الصنف من المعاملات التجارية.

حلول غير ناجعة

لحلحة هذا الإشكال تحاول السلطات المغربية إحداث فضاءات أو أسواق خاصة لهؤلاء الباعة الجائلين لممارسة أنشطتهم التجارية، غير أنها مجهودات ظلت - باعتراف حكومي صريح - دون التطلعات المنشودة لعوامل عدة، أبرزها رفض هؤلاء الباعة الانتظام في أسواق ومحال لا تتيح لهم حرية عرض السلع والتنقل.

وسبق للمجلس الاقتصادي والاجتماعي التوصية في هذا الصدد بضرورة انتقال الباعة المتجولين إلى القطاع المنظم لتحقيق اقتصاد نشيط ومنتج، والترخيص بالاحتلال الموقت للملك العمومي، سواء باستغلال أماكن قارة داخل المجال الحضري، أم في التجمعات شبه الحضرية أو القروية، أم باستغلال مواقع على المحاور الطرقية خارج المدن.

في السياق يرى الباحث في الاقتصاد السياسي عبدالإله الخضري أن ظاهرة الباعة المتجولين في المغرب هي تعبير صارخ عن اختلال بنيوي عميق في النموذج التنموي الوطني، وبخاصة في بنيات سوق الشغل"، مشيراً إلى أنها قنبلة اجتماعية واقتصادية موقوتة لن تحل بسياسات ظرفية أو حلول تقنية مفصولة عن واقعها المجتمعي المركب.

ويشرح الباحث ذاته أن "التجربة التي اعتمدت على إحداث أسواق متنقلة لاستيعاب هذه الفئة من التجار، على رغم ما حملته من نوايا تنظيمية، سرعان ما اتضحت حدودها، إذ لم تؤسس على فهم سوسيولوجي واقتصادي دقيق لواقع الباعة المتجولين، كما شاب إنجاز بعضها فساد في الصفقات وغياب للشفافية، فلم تلق هذه الأسواق قبولاً لدى الباعة، الذين رأوا فيها فضاءات مقيدة لا تستجيب لضرورات حركتهم الاقتصادية".

البائع الجائل ضحية

ولفت الخضري إلى أن البيع المتجول لم يكن في الغالب اختياراً حراً، بل اضطرارياً فرضته ظروف الإقصاء من الاقتصاد الرسمي، وضيق فرص العمل الكريم، والتهميش المجالي والمهني، فضلاً عن البطالة بسبب الهدر المدرسي أو حتى ما بعد التخرج، إذ أسهم تراجع المردودية التجارية وهشاشة الإطار التنظيمي في دفع عدد من الحرفيين وأصحاب المهن الحرة نحو البيع المتجول.

وفق الخضري، فإن "الحل لا يمكن أن يقتصر على تخصيص فضاءات للبيع، أو تكثيف الزجر والمطاردة، بل يتطلب تحولاً جذرياً في السياسات العمومية يقوم على إصلاح عميق لسوق الشغل، وضمان الولوج العادل إليه، وتمكين اقتصادي حقيقي عبر التكوين والدعم، وإدماج هذه الفئة في نسيج إنتاجي منظم، مع ضمان حماية اجتماعية فعالة تصون كرامة الأفراد وتحد من هشاشتهم".

وخلص الباحث إلى أن "البائع المتجول في نهاية المطاف ليس مصدر الفوضى، بل أحد ضحاياها"، داعياً إلى التفكير في آلية مؤسساتية دائمة تعنى بإدماج الاقتصاد غير المهيكل، وتؤسس لرؤية تشاركية بين جميع الأطراف لوضع حد لهذه المعضلة المزمنة، وتحويلها إلى فرصة لبناء اقتصاد اجتماعي مندمج وعادل".

*المصدر: اندبندنت عربية | independentarabia.com
اخبار المغرب على مدار الساعة

حقوق التأليف والنشر © 2025 موقع كل يوم

عنوان: Armenia, 8041, Yerevan
Nor Nork 3st Micro-District,

هاتف:

البريد الإلكتروني: admin@klyoum.com