ليبيا تنسى الحرب قليلا لتطلق الغزلان
klyoum.com
مبادرة تطوعية توحد الجميع لحماية الحيوانات المهددة بالانقراض بسبب الصيد الجائر وكثرة السلاح
بعيداً من الأضواء التي تستحوذ عليها أخبار السياسة والحرب والصراع على السلطة والثروة في الشمال الليبي، أطلق شباب متطوعون في الجنوب مبادرة بيئية أثلجت صدور الليبيين ونالت دعمهم واستحسانهم على مختلف مشاربهم تمثلت في إعادة إطلاق مجموعات مختلفة من الحيوانات في بيئتها الأصلية لإعادة التوازن الطبيعي للحياة في مناطقهم وبيئتهم الصحراوية.
المبادرة انطلقت من مدينة سوكنة في جنوب غربي ليبيا، والتف حولها ثلة من المتطوعين والجمعيات المهتمة بالبيئة والحفاظ على الطبيعة ومؤسسات مدنية أخرى، وبدأت بإطلاق سراح مجموعة صغيرة من الغزلان في بيئتها الأصلية بالجبال المحيطة بالمدينة العام الماضي ليتوسع نطاقها إلى مدن كثيرة أخرى، ويصل عدد هذه المبادرات اليوم إلى 10 مع التجهيز لمزيد منها في الفترة المقبلة.
الناطق الإعلامي باسم جمعية "سوكنة للأحياء البرية" علي عبدالله ويدان روى لنا القصة الكاملة للمبادرة قائلاً إن "بدايتها كانت فكرة أطلقها أحد الشبان المهتمين بالحياة والأحياء البرية في مدينة سوكنة، وتحمس لها عدد كبير من سكانها لإعادة التوازن البيئي للمناطق المحيطة بها، وركزت بداية على إطلاق الغزلان التي كانت تعجُّ بها المنطقة قبل أن يدفعها الصيد الجائر إلى حافة الانقراض". وأضاف "بالفعل تحرك المتطوعون الذين تحمسوا للفكرة لجمع الغزلان بطرق كثيرة من أماكن مختلفة، مثل المزارع والحظائر الخاصة أو جلبها من البلدان المجاورة التي تعيش فيها هذه الأنواع مقابل مبالغ مالية، والجميل أن هذه المبالغ جمعت من التبرعات، والأجمل أن غالب من قام بالتبرع للمبادرة كانوا من الصيادين بالمنطقة".
وتابع "مشاركة هواة الصيد الذين كانوا يطاردون في ما سبق هذه الغزلان في الجبال والأودية الصحراوية عزز من فرص نجاح المبادرة وضمن الحماية لهذه الحيوانات من بنادقهم التي كانت تحصدها حصداً في السنوات الماضية، وأسكت المنتقدين للفكرة التي وصفها بعضهم بالمجنونة لأنها تضع الغزلان في العراء لقمة سائغة للصيادين، خصوصاً في ظل انتشار السلاح بكثرة في ليبيا".
انطلقت المبادرة فعلياً في مايو (أيار) 2024 بتحرير 5 غزلان فقط في الشعاب المجاورة لسوكنة وسط حضور غفير زاد من الدعم الشعبي للمبادرة لأنه كما يقول المهندس علي ويدان "منذ تلك اللحظة لم تعد المبادرة تخص المساهمين بها فحسب، بل شعر الجميع بالمسؤولية تجاه هذه الحيوانات، وضرورة توفير الحماية الكاملة لها من التهديدات التي تواجهها في البرية".
اختيار المكان الذي أطلقت به هذه الغزلان لم يتم عشوائياً، بل حررت في آخر وادٍ بجبال سوكنة كانت تشاهد به، حيث تتوفر به النباتات التي يقتات عليها الغزال، كما يتميز بتضاريسه الوعرة التي تصعب عملية المطاردة على الصيادين.
ما إن أعلن عن المبادرة حتى انتشرت الصور والمقاطع المصورة لعملية إطلاق الغزلان في البرية بصورة فاقت كل التوقعات على مواقع التواصل الليبية وكل وسائل الإعلام، وتهاطلت عليها الإشادات مما أعطى دفعة معنوية كبيرة للقائمين عليها، وشجعهم على توسيع المبادرة على مستوى أنواع الحيوانات المستهدف إطلاقها في البرية أو النطاق الجغرافي لها.
وبصورة مفاجئة توسعت المبادرة التي بدأت محدودة في مدينة صغيرة بالجنوب الليبي، وتحولت إلى ما يشبه حمى تنافسية بين المدن الليبية، فامتدت شمالاً إلى مدينة مصراتة الساحلية بإطلاق عدد من الحيوانات في محميتها الطبيعية، وجزيرة "فروة" قبالة شواطئ مدينة زوارة على الحدود مع تونس، ومبادرة مماثلة في مدينة الشويرف بالجنوب الغربي، ليلحق بالمشاركة في هذه الحملات سكان المدن المحاذية لجبال "الهروج" بأقصى الجنوب الغربي أيضاً، بعدها واحدة بجبل "الحساونة" و"أبو نجيم" غير بعيد من هذه المنطقة.
توسع المبادرة، بحسب علي ويدان، لم يكن على مستوى النطاق الجغرافي فحسب، بل شمل أيضاً أنواع الحيوانات التي أطلقت في البرية، والتي كان معظمها من غزال الريم وغزال الودان، ثم شملت طائر "الحبارة" مثلما يعرف محلياً، وهو من الأنواع المهددة بالانقراض أيضاً، وحتى أسماك "البلطي" التي تعيش في المياه العذبة جلبت وأطلقت في المياه المخزنة بسد "الوشكة" جنوب غربي ليبيا، وهذا النوع من الأسماك له فائدة بيئية كبيرة في القضاء على الحشرات الموجودة بمياه السد، خصوصاً يرقات البعوض التي تنقل الأمراض للبشر.
كذلك سيتم في الفترة المقبلة إطلاق أعداد من طائر النعام في البرية والأماكن التي كان يكثر بها حتى ثلاثينيات القرن الماضي، عندما تسبب الصيد الجائر في القضاء عليها تماماً وانقراضها من هذه المناطق.
تعددت المكاسب التي حصدتها المبادرة البيئية لحماية الأحياء البرية وتعزيز التوازن البيئي بعد عام واحد على انطلاقها، ويبقى أهمها وأبرزها تشكيل مؤسسة وغطاء رسمي لتحقيق هذه الغاية تحت اسم "الهيئة الليبية لحماية التراث والحياة البرية" التي اعتمدت من الدولة بداية العام الحالي، وأشرفت على آخر مبادرتين لإطلاق مجموعات من الغزلان والودان، وهو نوع من الماعز البري الجبلي كان يعيش بكثرة في الجبال الصحراوية بليبيا، خصوصاً جبال الهروج قبل سنوات مضت، ومجموعة أخرى بمنطقة ودان في جنوب غربي البلاد بلغ عددها 10 غزلان، 3 ذكور و7 أناث.
يصف الناطق باسم "جمعية سوكنة" علي ويدان النتائج التي تحققت بعد عام واحد من بداية المبادرة بـ"المبهرة"، ويضرب مثالاً بالغزلان التي أطلقت في الوديان المجاورة لمدينتهم، فمن خلال المتابعة الدورية لها سجلت زيادة في أعدادها بميلاد عدد من الحملان الصغيرة، بينما لم تسجل حتى الآن أية حالات تعدٍّ عليها في هذه المناطق".
واعتبر أن "من أبرز الدلائل على نجاح المبادرة في زيادة الوعي بأهمية المحافظة على الحياة والأحياء البرية أن الشبان الذين كانوا يرفعون باستمرار بنادقهم في وجه هذه الحيوانات باتوا يرفعون هواتفهم لتصوير منظرها الجميل في موطنها الطبيعي بصورة مستمرة ونشر هذه المقاطع على صفحاتهم الشخصية وجميع المواقع الليبية الأخرى".
وعلى رغم النجاح الكبير الذي تحقق لمبادراتهم لحماية وإحياء الحياة البرية في ليبيا حتى الآن، فإن علي ويدان طالب الجهات المتخصصة بإصدار قوانين صارمة تكبح عمليات الصيد الجائر للحيوانات ومنح الإمكانات والصلاحيات للأجهزة الأمنية المتخصصة لتنفيذها ومعاقبة المخالفين لها، حتى لا يذهب ما تحقق من مكاسب في هذا الصدد هباءً، وتتكرر الكارثة البيئية التي تسبب بها الصيد الجائر خلال العقود الماضية. وطالب أيضاً بدعم المبادرة تقنياً من الجهات الرسمية عبر توفير أجهزة حديثة لتعقب ومتابعة الحيوانات التي يجري إطلاقها في البرية، وهو ما يعزز من فرص حمايتها عبر متابعتها بصورة دورية.