اخبار لبنان

ام تي في

سياسة

The Beiruter تكرّم الصحافيين: عندما كان الرحيل سهلاً اختاروا البقاء

The Beiruter تكرّم الصحافيين: عندما كان الرحيل سهلاً اختاروا البقاء

klyoum.com

في كل حربٍ من يقاتل بالسلاح، ومن يقاتل بالحقيقة. جنودٌ يحملون البنادق، وصحافيون يحملون الكاميرات والدفاتر، يسيرون بين الركام متسلحين بالشجاعة. يدفعون أثمانًا لا تُرى، ويخطون في دروبٍ يسكنها الخوف وتتهامس فيها الأرواح، مدفوعين ليس بالواجب فحسب بل بإصرارٍ لا يلين.الشجاعة ليست غياب الخوف؛ هي أن تختار مواجَهته كل صباح، كي تبقى الحكايات حيّة والحقائق نابضة.لكن إلى متى ستُراق الدماء ثمناً للحقيقة؟ كم من صحافيٍ لبنانيٍ يجب أن يسقط قبل أن يدرك العالم أن الخوذة أو السترة التي تحمل كلمة «PRESS» ليست هدفًا بل درعٌ يحمي؟جيلاً بعد جيل حمل الصحافيون اللبنانيون ثقل التاريخ وآلامه؛ نسجوا روايات حروبٍ لم يختاروها ورووا مآسي لم يستطيعوا إيقافها. ومع ذلك، صمدوا حراسًا بين السلطة والشعب، وحماةً للذاكرة ليضمنوا أن تبقى الحقيقة، حتى حين يدير العالم وجهه عنها، مضيئةً كفانوسٍ في الظلام.

لن ننسى أسماءهم:عصام عبدالله (رويترز) – 13 تشرين الأول 2023استُهدف بقذيفة دبابة إسرائيلية قرب بلدة عيتا الشعب أثناء بث مباشر.فرح عمر (قناة الميادين) – 21 تشرين الثاني 2023استشهدت في غارة إسرائيلية بطائرة مسيّرة على بلدة طيرحرفا أثناء تغطية ميدانية.ربيع المعماري (قناة الميادين) – 21 تشرين الثاني 2023استُشهد في الغارة نفسها التي استهدفت فريق الميادين في طيرحرفا.كامل كركي (قناة المنار) – 24 أيلول 2024استشهد في غارة إسرائيلية على بلدة القنطرة في الجنوب.غسان نجّار (الميادين) – 25 تشرين الأول 2024استُشهد في غارة إسرائيلية على بلدة حاصبيا.محمد رضا (الميادين) – 25 تشرين الأول 2024استُشهد في الغارة نفسها التي أودت بحياة غسان نجّار في حاصبيا.وسام قاسم (المنار) – 25 تشرين الأول 2024استُشهد في الغارة نفسها على حاصبيا.علي حسن عاشور (إذاعة النور) – 3 كانون الأول 2024استُشهد في غارة إسرائيلية أثناء تغطيته للعدوان على جنوب لبنان.محمد شحادة (هوانا لبنان) – 8 آب 2025استُشهد في غارة إسرائيلية على طريق صيدا – صور.

رغم اعتقاد العدو أنه أسكت أصواتهم، حمل زملاؤهم الحقيقة، فاستمرت الحكايات تنبض، وصدى تضحياتهم يتردد خالداً في ذاكرة الزمن.

جوزيان حاج موسى، صحافية في ABC News، لـ The Beiruter:

منذ عام 2007 وأنا أغطي الحروب والنزاعات. كل جبهة عبرتها كشفت لي جمال هذه المهنة وقسوتها في آنٍ واحد. الجنود يدخلون المعارك بأسلحتهم، أما نحن فندخلها بخوذة وكاميرا فقط.قبل كل مهمة، أصلّي. أغادر منزلي وأنا أدرك أن العودة قد لا تكون ممكنة، لكن هذا الإدراك لا يولّد الخوف، بل يوقظ الغاية. طالما أن الصدق والنزاهة رفيقا دربي، أحتضن القصة بكل ما تحمله من وجعٍ وإنسانية.أقسى اللحظات هي فقدان الزملاء… أولئك الذين كنا نضحك معهم قبل ساعات، فإذا بهم يُختطفون، يُصابون، أو يُقتلون في لحظة. السعي وراء الحقيقة طريقٌ صعب، وثمنه غالباً لا يُحتمل. ومع ذلك، نستمر، مؤمنين بإيمانٍ لا يتزعزع: لا تهديد، ولا سلطة، ولا قنبلة قادرة على إسكات مهمتنا. نسير نحو الأماكن التي يهرب منها الآخرون.من التجارب التي حفرت أثرها في ذاكرتي، تلك الليلة التي حُذّرنا فيها من ضربةٍ إسرائيلية وشيكة على الضاحية الجنوبية. طُلِب منا أن نُخلي المكان، لكننا بقينا على طريق المطار، عالقين بين الحياة والموت. هناك، وسط الصمت والانتظار، رفعت يدي ورسمت إشارة الصليب، هامسةً: “إن كانت هذه نهايتي، فليكن، فليست حياتي أغلى من أرواح من سبقوني.”ما لا يراه الكثيرون هو الثمن الخفي لهذه المهنة: الصدمات، والمشاهد المروّعة، والعيش في عالمين متوازيين، أحدهما وسط الحرب والموت، والآخر بين العائلة وكأن شيئاً لم يحدث.إلى زملائي الذين رحلوا، أنتم باقون في القلب والفخر. شجاعتكم ترسم الدرب الذي نسير عليه.أما نحن، فلا خوف يوقفنا. سنواصل المسير، فالصوت، والصورة، والحقيقة هي بوصلتنا، ولا قوة في الأرض قادرة على إسكاتها.

عباس صبّاغ، صحافي في قناة الميادين، لـ The Beiruter:

كانت هذه التغطية مختلفة عن كل ما سبق أن عشته. غطّيت حرب تموز 2006، واشتباكات جبل محسن عام 2015، وحتى الحرب في أوكرانيا، لكن الجنوب كان شيئًا آخر تمامًا، فوضى بلا قواعد، بلا جبهة واضحة، تمتد من الناقورة إلى مزارع شبعا، وصولًا إلى شمال لبنان. كان الخطر حاضرًا في كل مكان.لن أنسى 10 تشرين الأول 2023 في بلدة الضهيرة. رجل مسن، في التسعين من عمره، وقف وسط الركام. سألته لماذا بقي، فأجاب: “أين أذهب؟ وكيف أترك عجلتي الصغيرة؟” وحين عدنا في اليوم التالي، لم يبقَ من منزله سوى الرماد.ثم جاء 13 تشرين الأول. رأيت عصام عبدالله حيًّا وهو يغطي الأحداث في مارون الراس. بعد ساعات قليلة فقط، سقطت الضهيرة وعيتا الشعب تحت قصفٍ عنيف. رحل عصام، وأُصيب عدد من زملائنا. تلك الصورة، عصام واقفًا في الميدان قبل ساعات من رحيله، ستبقى محفورة في ذاكرتي إلى الأبد.كل يومٍ كان يحمل خطرًا جديدًا. كنا نقف على مقربة من خطوط العدو، والكاميرات في أيدينا، من دون أي غطاء أو حماية. ذات مرة، بدأ المنزل الذي نحتمي به يتصدع تحت القصف، وكل ما فكرت فيه حينها هو كيف أحافظ على البث المباشر. حتى لحظات الاستراحة كانت مشبعة بالخوف، إذ لم نكن نعلم إن كان المنزل الذي ننام فيه سيُصبح الهدف التالي. الغارات المكثفة والنيران العشوائية دفعتنا إلى أقصى حدود الصبر والتحمّل.واجب الصحافي هو نقل القصة، لا أن يصبح هو القصة. في ليلة 27–28 أيلول، وصلت إلى موقع استهداف السيد حسن نصر الله بعد خمس عشرة دقيقة فقط من الغارة. رغم تحذيرات القناة بالمغادرة، بقيت أنا والمصوّر. كنا نعلم أن حضورنا هناك هو الشهادة الحقيقية على ما يجري.كانت التجربة مؤلمة وعميقة في آنٍ واحد. فقدنا مواطنين ساعدونا في التنقل بين القرى الحدودية، أشخاصًا تعرّفنا إليهم وأحببناهم. لكن الخسارة الأكبر كانت استشهاد زملائنا ربيع المعماري، فرح عمر، غسان نجّار، محمد رضا، ووسام قاسم. لم يكونوا زملاء فقط، بل أصدقاء تقاسمنا معهم الخطر والضحك والخبز. واليوم، لم يبقَ سوى صدى الذكرى… ووجع لا يهدأ.

ناهد يوسف، صحافية في قناة العربية، لـ The Beiruter:كانت تغطية هذه الحرب أصعب اختبار في حياتي، وأقسى تجربة مهنية مررت بها. لم تكن سلامتنا مضمونة، وكنا نحن أيضًا أهدافًا مباشرة. كل ما كان بوسعنا فعله هو الاتكال على الله.

التنقل بين القرى الحدودية كان شبه مستحيل. الجيش الإسرائيلي حرص على منع الصحافيين من التحرك بحرية أو توثيق مشاهد الدمار. في رميش، حيث كنت متواجدة، كان كل شيء يبدو كمصيدة، وكل خطوة محفوفة بالمخاطر.في تشرين الثاني 2023، أصابنا صاروخان. نجونا، لكن صوت الصافرة، والانفجار، وسكون ما بعده لن تُمحى من ذاكرتي أبدًا. تلك المشاهد من الدمار محفورة في الذاكرة إلى الأبد.الصراع الحقيقي لم يكن جسديًا فقط، بل نفسيًا أيضًا. خلال الشهرين الأخيرين من الحرب، كنا محاصرين في رميش. الجيش الإسرائيلي طوّق المنطقة بالكامل، ولم يكن ممكنًا التحرك أو المغادرة. الضغط كان هائلًا، والاحتمالات كلها مفتوحة: هل سنُقتل؟ نُختطف؟ أم ننجو؟ فكرة الاستشهاد كانت حاضرة في كل لحظة، وهذا النوع من الخوف يرافقك إلى الأبد.الحصار جعل الحياة اليومية لا تُحتمل، لا طعام، لا ماء، لا اتصال. الخطوط كانت مقطوعة بالكامل. لم نتمكن من التواصل مع عائلاتنا أو غرف التحرير. هذا الانعزال الكامل يكسر شيئًا داخلك.الثقل النفسي كان لا يُطاق. الخوف على العائلة، الشعور بالذنب لأنهم يعيشون القلق دون أن يعرفوا إن كنت على قيد الحياة، وفي الوقت نفسه عليك أن تواصل عملك بشغف ومسؤولية. إنها معركة عقلية لا تتوقف.حتى بعد انتهاء الحرب، تبقى الندوب. ما زلت أرى الكوابيس، وأسمع أصوات الغارات في أحلامي. أي ضجيج عالٍ يوقظ داخلي ارتباكًا غريبًا. جسدي ما زال يشعر بثقل الدرع وضغط الخوذة، وكأن الحرب لم تنتهِ بعد.لكن حتى في أحلك اللحظات، أرسل الله لي نورًا صغيرًا. خلال الحرب، التقيت بزوجي — زميل صحافي كان محاصرًا معي. أؤمن أن الله وضعه في حياتي في تلك الأيام القاسية والمظلمة، كنقطة ضوء وسط العتمة.

جويس عقيقي، صحافية في قناة MTV، لـ The Beiruter:

ما زالت لحظات القصف راسخة في ذاكرتي، خصوصًا خلال تنقّلنا بين القرى في القطاع الشرقي، حيث كان الخوف من الاستهداف يرافقنا في كل خطوة. كانت التحركات الليلية الأكثر خطورة، إذ لم يكن أحد يستطيع التمييز بين الصحافيين وغيرهم. لم يكن هناك مكان آمن، والغارات الإسرائيلية كانت عشوائية، تضرب في أي وقت ومكان. كل رحلة نحو الجنوب كانت اختبارًا للجسد والعقل معًا، بلا أي ضمان للعودة. ومع ذلك، كانت المجازفة بالحياة جزءًا من واجبنا الصحافي.

حين تختار الصحافة، تختار أن يكون الخطر رفيقك الدائم.منحتنا MTV الحرية الكاملة للتغطية على خطوط المواجهة، وهذه، بالنسبة لي، هي جوهر المهنة: كشف الحقيقة مهما كانت كلفتها.الاحتياطات قد تُتخذ، لكن إسرائيل لا تعرف حدودًا، ولا تعترف بقواعد اشتباك. أذكر مرة، حين كانت طائرة مسيّرة تحلّق فوقنا ونحن نتجه لتناول الغداء، فاضطررنا إلى الارتماء داخل سياراتنا. كانت تلاحقنا كظلٍّ ثقيل، كتذكير دائم بأننا مراقَبون.فقدان الزملاء ملأ قلبي بالحزن والغضب، لكنه في الوقت نفسه عزّز تصميمي على البقاء في الجنوب، ومواصلة العمل الذي بدأوه، وسرد الحقائق التي دفعوا حياتهم ثمنًا لها. على خطوط المواجهة، أصبحنا عائلة واحدة. كان زملائي ينادونني “زينب”، فيما كان حسين عز الدين من التلفزيون الإيراني يُلقّب بـ“أنطوان”. لم تكن هذه الأسماء للمزاح فحسب، بل رمزًا لوحدةٍ جمعتنا فوق كل انقسام. هناك، على الجبهة، كنا لبنانيين أولًا، تجمعنا الشجاعة والإيمان، والالتزام الثابت بحمل الحقيقة مهما كان الثمن.رغم كل التدريبات التي خضعنا لها، لا شيء يُعِدّك حقًا لفوضى الحرب. صوت الطائرات المسيّرة، صفير القذائف، وانفجارات الصواريخ، كل ذلك كان خارج السيطرة. في تلك اللحظات، كان الأمان هشًّا، ولم نجده إلا في الصلاة، وفي تضامننا مع بعضنا البعض، وفي الأفعال الصغيرة التي تعبّر عن حماية متبادلة وسط العاصفة.في النهاية، أصبح الله درعنا، وشاهدنا، ومرسانا.وسط الدمار والخوف، كان الإيمان والاتحاد هما ما أبقانا واقفين، الثابتان الوحيدان في عالمٍ انهار كل ما عداه.

جويـا برباري، صحافية في قناة BBC، لـ The Beiruter:غطّيت الحرب بكامل مراحلها، وكانت من أصعب وأقسى التجارب في مسيرتي، إلى جانب انفجار مرفأ بيروت. منذ الليلة الأولى، كنت أنام مرتدية ملابسي، مستعدة للركض في أي لحظة إذا بدأت الغارات. كل يوم كان يحمل مفاجآته، وأماننا كان مهددًا في كل مكان نذهب إليه.أصعب اللحظات كانت وداع أطفالي قبل كل تغطية، دون أن أعرف إن كنت سأراهم مجددًا. لم يكن خوفي على حياتي من أجلي فقط، بل من أجلهم أيضًا. وكامرأة صحافية، واجهت تحديات يومية قاسية رغم بساطتها، من ندرة المراحيض في الميدان إلى ثقل السترات الواقية والخوذ. الحرب قاسية في كل تفاصيلها، لكن تغطيتها في بلدي وبين شعبي جعلت المهمة أكثر ألمًا وإنهاكًا.

تغطية الجانب الإنساني من الحرب تجربة تمزّق الروح. رؤية العائلات وهي تفقد أحبّاءها أو منازلها أو مدخراتها تترك في النفس أثرًا لا يُمحى. الخسائر المادية كبيرة، لكن ما لا يُعوَّض هو الأثقل وجعًا. علينا أن ننقل أصوات المهمشين، بينما نحاول في الوقت نفسه مواجهة صدماتنا وقلقنا، ونحن نعيش في حالة يقظة دائمة.الصحافيون هم الجسر بين الناس على الأرض والعالم الخارجي. واجبنا أن نكون موضوعيين، وأن نقول الحقيقة كما هي، وأن نمنح صوتًا لمن لا صوت لهم.سقط كثير من زملائنا مؤخرًا في غزة ولبنان، لكن رسالتنا لا تتغيّر. نحن نتمسك بثلاث قيم لا مساومة عليها: الثقة أساس عملنا، الحقيقة غير قابلة للتفاوض، والمصداقية والسمعة لا تُقدّران بثمن.

ليلى خليل، صحافية في قناة الغد، لـ The Beiruter:خرجنا في 7 تشرين الأول ونحن نستشعر أن المواجهة بين حزب الله وإسرائيل قد تندلع في أي لحظة. في المستوطنات المقابلة لتل الحمامص، كان المشهد غريبًا؛ المستوطنون يحزمون أمتعتهم وكأنهم يفرّون من خطرٍ قادم. في اليوم التالي، شنّ حزب الله عمليته الأولى في منطقة شبعا، وردّت إسرائيل بقوة ساحقة. عندها أدركنا أن هذا الصراع لن يكون قصيرًا، وأن المعركة ستتجاوز حدود مزارع شبعا.كانت التنقّلات محفوفة بالمخاطر، مع بدء إسرائيل باستهداف عناصر حزب الله. تحركنا بحذرٍ دائم، مدركين أننا تحت المراقبة. خوذ الصحافة وسترنا الواقية وفّرت بعض الحماية، لكنها لم تضمن الأمان. عندما استُشهد زميلنا عصام عبد الله، كانت الصدمة موجعة، تذكير قاسٍ بأن إسرائيل لا تستثني أحدًا في رسائلها الدموية.خلال أسبوعين فقط، أصبح واضحًا أن الحرب طويلة ومفتوحة. عملنا لساعاتٍ متواصلة، نحمل معدات ثقيلة ونتحمّل ضغطًا نفسيًا هائلًا. تركت زوجي وأطفالي خلفي لأكون على خطوط المواجهة، أنقل الخبر من قلب الحدث. كل تقرير كان جزءًا من لوحة معقّدة، تحتاج إلى دقّةٍ وربطٍ وتحليلٍ واحترامٍ لمعاناة المدنيين العالقين في فوضى الحرب. كثيرًا ما كانت الوقائع متناقضة، مما جعل نقل الحقيقة مهمةً صعبةً ومتواصلة.

لارا الحاج، صحافية في قناة LBCI، لـ The Beiruter:تغطية هذه الحرب كانت تجربة غير مسبوقة في مسيرتي الصحفية. كان الخطر حاضرًا في كل لحظة — حتى في ما يُسمّى بالمناطق “الآمنة”، اكتشفنا سريعًا أن لا مكان آمن حقًا، وأن “المنطقة الحمراء” تتسع بلا حدود.

بعض المشاهد لا تُمحى من الذاكرة. اغتيال زملائنا في حاصبيا، والمكان يتحوّل إلى ركامٍ أمام أعيننا. مجزرة النبطية، حيث تناثرت العائلات وتاه الأطفال بين الأنقاض؛ رأيت ألعابهم مبعثرة بين الركام، وزرت لاحقًا مدارسهم، المقاعد فارغة، الحقائب مهجورة، والوجع حاضر في كل زاوية.وحين عاد سكان كفركلا، لم يتعرّفوا إلى بلدتهم. ما زلت أذكر امرأةً واقفة وسط الأنقاض تبحث عن بيتها وقد اختفى معالمه. الأطفال وقفوا خارج المباني المدمّرة، عيونهم مليئة بالخوف، يسألون إن كان آباؤهم على قيد الحياة أم جثثًا تحت الردم.في إبل السقي، أصابت الغارات جوار الفندق الذي نقيم فيه، فظننا أن المبنى سينهار فوقنا. وفي حاصبيا، كانت الطائرات المسيّرة تحوم فوق رؤوسنا وكأنها تهمس لي: “غادري… ألم تري ما حل بزملائك؟”وحين بدأ النازحون بالعودة، كان الجيش الإسرائيلي لا يزال متمركزًا في الجنوب؛ الأسلاك الشائكة تقطع الحقول، والجنود يطلقون النار على المدنيين. اقتربتُ قدر المستطاع، لأظهر للعالم ما يحدث حقًا.هذه التغطية لم تكن مجرّد مواجهةٍ للمخاطر، بل اختبارًا إنسانيًا عميقًا. التقرّب من الناس، الاستماع إلى معاناتهم، مواساتهم في فقدانهم، والبحث بين الأنقاض عن قصصهم، كل ذلك يتطلّب موازنة دقيقة بين نقل الحقيقة واحترام الألم، وهي مهمة تُنهك الجسد والروح.بعد أكثر من عشر سنواتٍ في الميدان، أدركت أن المخاطرة جزءٌ لا ينفصل عن الصحافة، لكن السلامة تبقى الأولوية القصوى. فمهما كانت القصة مهمّة، لا تساوي حياة إنسان واحد.ورغم كل الخسائر، قرّبتني هذه التجربة أكثر من أهل الجنوب، من أرضهم وذاكرتهم وتقاليدهم. تركت في داخلي أثرًا عميقًا، وجعلت من هذه الحرب فصلًا حاسمًا في رحلتي المهنية والإنسانية.

ريكاردو شدياق، صحافي في قناة الجديد، لـ “The Beiruter”:امتزجت الأيام بالليالي تحت هدير القذائف وضجيج الانفجارات، وسط فوضى عارمة وخطرٍ يترصّدنا في كل زاوية. لم نتوقّع أن تصل الضربات الإسرائيلية إلى الشمال، إلى كسروان وجبيل، لكنّها فعلت، وكانت تلك المناطق من بين الأكثر تضرّرًا خلال تغطيتنا للأحداث.على الأرض، كان ثقل المسؤولية هائلًا، والمشاهد تفوق قدرة الوصف. في أيطو وزغرتا، رأيت الجثث والأشلاء متناثرة في الطرقات، صورة لن تغادر ذاكرتي أبدًا. كان عليّ أن أكبح مشاعري، أن أحافظ على ثبات صوتي، وأن أصف ما أراه بوضوحٍ وموضوعية، مستخدمًا لغة دقيقة، مهنية، وإنسانية في آنٍ واحد. لم يكن التفكير في سلامتي خيارًا مطروحًا؛ فالأولوية كانت لنقل الحقيقة.

لكن عندما بدأ استهداف الصحافيين بشكلٍ مباشر، تساءلت في داخلي: لماذا نحن؟ورغم ذلك، لم أستطع التوقّف. الإحساس بالواجب كان أقوى من الخوف. كانت الأحداث تتسارع بلا هوادة، ومعها تزداد المسؤولية ثِقلاً.كانت تصلني عشرات الرسائل من الناس عبر وسائل التواصل، يسألون عن المناطق الآمنة، وعن الأماكن التي تُستهدف. تلك الثقة التي وضعها الناس فيّ أصبحت مرساتي، ودافعًا للاستمرار.لسنا شهداء، ولسنا مقاتلين، نحن نغطي الحرب، وهذه هي مهمتنا. نتخذ الاحتياطات قدر المستطاع، لكننا نواصل العمل، لأن التراجع يعني الصمت، والصمت خيانة للحقيقة.في الليلة الأخيرة قبل وقف إطلاق النار، تجولت في شوارع بيروت. كان الخوف يعمّ المدينة، والذعر يتسلل إلى العيون. كل خطوة كانت محمّلة بالمسؤولية، تجاه العائلات النازحة، وتجاه المشاهدين الذين ينتظرون الحقيقة. في تلك اللحظات، لم تكن التغطية مجرّد عملٍ صحافي؛ كانت شريان حياة، ووعدًا بالصدق، وشهادة على زمنٍ يحتاج أن يرى… مهما كلّف الثمن.

عاد السلام… وهم لن يعودوا.في لبنان، قد لا تنتهي الحرب حقًا، ومعها لا يتوقف أولئك الذين يحملون مسؤولية نقل الحقيقة. سيواصلون التقدّم، ونحن أيضًا: لن ننسى، ولن نتوقف عن إيصال الصوت والصورة.واليوم، بينما يتنفس العالم الصعداء بعد اتفاق السلام بين حماس وإسرائيل، خفتت أصوات البنادق، هدأت السماء، وتحدث الدبلوماسيون عن “أمل”. لكن في ذلك الصمت، تتردّد أصداء ما فُقد.كل كاميرا دُفنت تحت الركام، وكل صوت انقطع في منتصف الجملة، وكل صحافي خرج من منزله ولم يعد، من سيذكُر أسماءهم الآن وقد عاد السلام؟كانوا رواة حربٍ ابتلعت المدن والأطفال معًا، والآن انتهت القصة من دون رُواتها.يحتفل العالم بالهدنة، لكن من سيحتفل بالحقيقة التي ضحّوا بحياتهم من أجلها؟من سيعيد إلى الحياة عصام، فرح، ربيع، غسان، محمد، وسام، كامل، علي… أولئك الذين خاطروا بكل شيء ليُظهروا للعالم الثمن الحقيقي للسلام؟وهكذا، تتذكّرهم The Beiruter، لا كأسماءٍ فقط، بل كنبض حياةٍ في عالمٍ ما زال بحاجة إلى شهوده.

*المصدر: ام تي في | mtv.com.lb
اخبار لبنان على مدار الساعة