لبنان في قلب الفاتيكان: زيارة رئاسية تكرّس الحضور وتعيد الاعتبار لدبلوماسية الروح
klyoum.com
أخر اخبار لبنان:
جنوب لبنان.. نقاط تحول صامتة في انتخابات ما بعد الحربليست زيارة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون إلى روما، برفقة السيدة اللبنانية الأولى نعمت عون، مجرد محطة بروتوكولية عابرة في روزنامة العلاقات الدبلوماسية بين لبنان والكرسي الرسولي، بل شكلت مناسبة مفصلية لإعادة تثبيت الحضور اللبناني، لا كدولة هامشية في المشهد الدولي، بل كبلد يحمل عمقاً تاريخياً وروحياً يتجاوز واقعه السياسي والاقتصادي المتأزم.
فقد تميّزت الزيارة بكونها مزدوجة من حيث الشكل والمضمون، وشكّلت في محطتَيها -الأولى، خلال مراسم وداع البابا الراحل فرنسيس. والثانية، في قداس افتتاح حبرية البابا لاوون الرابع عشر – مناسبة لتأكيد أن لبنان، بقيادة رئيسه الجديد، يطل من بوابة الفاتيكان برسالة متجددة، تنبض بما هو أكثر من لياقة دبلوماسية، بل بطرح مشروع معنوي وسياسي عابر للطوائف والانقسامات.
الحضور اللبناني الرسمي لم يكن عادياً، بل كان على مستوى الرئاسة الأولى، في وقت اكتفى فيه رؤساء كبرى الدول – كالرئيس الأميركي دونالد ترامب - بالمشاركة في وداع البابا الراحل من دون أن يشاركوا في حفل بدء الحبرية الجديدة. هذا التمايز أعطى مؤشراً واضحاً بأن بيروت، رغم عواصفها الداخلية، ما زالت تعرف متى وكيف تعيد إحياء صلاتها الجوهرية مع الشركاء التاريخيين، وعلى رأسهم الكرسي الرسولي. والأهم من ذلك، أن الرئيس عون لم يكتفِ بمجرد الظهور، بل حرص في خطاب الحضور ومضمونه على توجيه رسالة مزدوجة: لبنان حاضر بكل ما يمثله، والفاتيكان ليس مجرد شريك ديني، بل هو امتداد لدبلوماسية تحتاجها الدولة اللبنانية في سعيها لإبقاء هويتها ورسالتها.
كان لافتاً أن يتجاوز اللقاء بين الرئيس عون والبابا لحظة الترحيب التقليدية التي لم تستغرق أكثر من ثلاثين ثانية مع بقية رؤساء وفود الدول. فقد خصص الحبر الأعظم وقتاً أطول للقاء الرئيس اللبناني والسيدة الأولى، في مؤشر يحمل دلالة عميقة على اهتمام شخصي واستثنائي بالواقع اللبناني. واختار عون أن يعيد إلى الذاكرة الجماعية شعار "ناطرينك"، وهي العبارة التي رفعها اللبنانيون استقبالاً للبابا يوحنا بولس الثاني خلال زيارته التاريخية إلى لبنان بعد الحرب. تكرار هذا الشعار اليوم من قبل رئيس الجمهورية أمام البابا يحمل رمزية سياسية وروحية مضاعفة، إذ لا يدعو الحبر الأعظم فحسب، بل يدعو المجتمع الدولي بأسره إلى عدم التخلي عن لبنان في لحظة وجودية دقيقة من تاريخه.
وإذا كانت الزيارة تندرج في بعدها الظاهر ضمن مناسبتَين كنيسيّتَين، فإن الجوهر الحقيقي لما جرى يؤكد أن هناك مسعى لبلورة خارطة طريق جديدة مع الفاتيكان، انطلاقا من ثوابت تاريخية وخصوصية فريدة يتمتع بها لبنان في علاقاته مع الكرسي الرسولي. وقد تجلى ذلك أيضاً من خلال شكر الرئيس عون للبابا على الموقف الذي أعلنه قبل يوم من قداس الحبرية الجديدة، عندما التقى وفود الكنائس الشرقية وأعلن بوضوح أن "الكرسي الرسولي في الخدمة من أجل السلام في لبنان"، وهي عبارة تُفهم بوضوح على أنها التزام مباشر من الفاتيكان بالعمل على حماية الكيان اللبناني كرسالة تعايش في الشرق.
إن قراءة متأنية لتفاصيل هذه الزيارة تظهر بوضوح أن الخطاب البروتوكولي قد أُقصي لصالح خطاب جوهري يعيد الاعتبار لدبلوماسية تعتمد على ثنائية التاريخ والرجاء. وبين رمزية الحضور اللبناني الكامل، وتميّز اللقاء مع البابا، يتبدّى جلياً، أن رئيس الجمهورية أراد ترسيخ فكرة أن لبنان، رغم أزماته، ما زال قادراً على تصدير روحه إلى العالم، وعلى استعادة دوره حين تكون الإرادة حاضرة، والرؤية متجددة. بهذه الروحية، عاد لبنان إلى روما، لا كضيف، بل كمحور في حوار القيم، ولكي يعلن أن زمن الغياب قد انتهى.